مجلة الرسالة/العدد 432/الصلات الأدبية والعلمية بين مصر والعراق
→ من أحاديث القهوة | مجلة الرسالة - العدد 432 الصلات الأدبية والعلمية بين مصر والعراق [[مؤلف:|]] |
كيف يكتب التاريخ ← |
بتاريخ: 13 - 10 - 1941 |
للدكتور زكي مبارك
قضى سعادة الدكتور محمد فاضل الجمالي في مصر نحو شهرين كان فيهما موضع الحفاوة والترحيب من أكابر المصريين، فالتفتت الأذهان من جديد إلى وجوب توكيد الصلات الأدبية والعلمية بين مصر والعراق. ويزيد في أهمية هذا الالتفات وجاهة الغرض الذي حضر لتحقيقه هذا المربي المفضال، فقد جاء يستحث المدرسين المصريين إلى المسارعة بالتوجه لخدمة العلم في المدارس العراقية، وعددهم في هذه المرة كثير جدا بحيث يكفي لتوكيد تلك الصلات إن أدرك جميع هؤلاء المدرسين أنهم سفراء مودة وإخلاص؛ والمأمول إن يدركوا هذا المعنى أتم الإدراك بفضل ما سيلقون في بلاد الرافدين من الإعزاز والتبجيل. أسبغ الله عليهم أثواب العافية، وجعل التوفيق حليفهم في جميع الشؤون!
أما بعد فموضوع هذا المقال مستوحى من زيارة الدكتور الجمالي، وقد كان يجب أن نتحدث عنه في (الرسالة) قبل اليوم، لأنه لم يزر مصر إلا موفداً لمهمة من أشرف المهمات، وكان ذلك يوجب أن نتحدث عن قدومه ولو بعبارة وجيزة في البريد الأدبي، ولكن الدكتور الجمالي نفسه هو سبب ما وقع من السكوت، فقد بدا لي أن أوجه إليه طائفة من الأسئلة المكتوبة ليجيب عنها إجابات مكتوبة طلباً للسلامة من الخطأ والتحريف، ورعاية لمركزه الدقيق، وهو مركز لا يبيح له أن يتحدث عن الصلات بين مصر والعراق بلا تدبر ولا إمعان، فقد رأيته غضب حين قرأ في إحدى الجرائد أنه سئل عن النظام الجديد في بلاده بعد الثورة الكيلانية وأنه أجاب بكيت وكيت، فلما سألته عن سبب غضبه مع أن الجواب المنسوب إليه لا غبار عليه قال: لا يليق بمن يوفد لمهمة علمية أن يتكلم عن شؤون سياسية.
وأريد أن أقول أن الدكتور الجمالي حار في الإجابة عن الأسئلة التي وجهتها إليه، وكانت تلك الحيرة سبباً في أن تتأخر الإجابة أسابيع، فلم يقدمها إلي إلا وهو يتأهب للرحيل.
عواطف نبيلة
وقبل أن أسوق الأسئلة والأجوبة أذكر أن الدكتور الجمالي أقام برهاناً جديداً على أصالة الأريحية العراقية، فكان اهتمامه عند حضوره مقصوراً على زيارة الرجال الذين تشرف بخدمة العلم في العراق، فزار الأستاذ محمد عبد العزيز سعيد (أول أستاذ مصري قدم العراق، ونظم دار المعلمين، وكان الدكتور الجمالي من أوائل تلاميذه في سنة 1918) وزار الدكتور السنهوري الذي رفع القواعد من كلية الحقوق العراقية؛ وسأل عن الأستاذ الزيات بلهفة وشوق فعلم أنه بعيد عن القاهرة، وتفضل فزارني في سنتريس ليرى البلد الذي قال فيه الشاعر عبد الرحمن البناء:
لبُعدك كابدتْ بغدادُ حُزناً ... وإن فرحتْ بقربكِ سنتريسُ
ولن أنسى أبداً أن الأسابيع التي قضاها الدكتور الجمالي في مصر كانت من المواسم الروحية، فقد كان يسأل عني في كل يوم، كأنه رب البيت وكأنني الضيف.
أخت بغداد والألقاب
واتصلت أيام الدكتور الجمالي عندنا بفكاهات كثيرة كان يوجهها إلى أقطاب وزارة المعارف من وقت إلى وقت، منها السؤال الذي واجهني به سعادة الأستاذ شفيق بك غربال:
- سمعت أنك لم تصب بأخت بغداد، فهل هذا صحيح؟
- أصبت بالأخت الحقيقية لبغداد، وهي (ليلى المريضة في العراق) وفي هذه الإصابة مناعة من جميع العلل والأدواء.
وفي إحدى سهراتنا أعلن الدكتور الجمالي ثورته على كثرة الألقاب في مصر، فأجبت بأن الحال في مصر غير الحال في العراق، فالظاهر أن الألقاب كانت تشترى بأبخس الأثمان فيظفر بها من لا يستحقون التبجيل، ولهذا ثار عليها العراقيون؛ ولا كذلك الحال في مصر، فالألقاب عندنا لا ينالها من ليس لها بأهل، وإن كان في النحو باب يسمى باب الاستثناء.
وأردت أن أنتقم من الدكتور الجمالي فكنت أخاطبه بعبارة: يا فاضل بك؛ فلم يمض إلا وقت قليل حتى استأنس بلقب البكوية كل الاستئناس، إلى الحد الذي سمح بأن يسأل عن حظي من الألقاب الرسمية بعبارة تفيض بالعطف. وقد تحزن حين أجبته بأن الألقاب لا تمنح للموظفين إلا حين تصل مرتباتهم إلى مبلغ لا أصل إليه إلا بعد أعوام طوال، ثم أردت أن أطمئنه فقلت: ولكن لا موجب للجزع فقد تنفع المؤلفات في الظفر بالألقاب!
ومن المنتظر أن يستوحش فاضل (بك) حين ينزع منه هذا اللقب بعد وصوله إلى بغداد، ودنيا الألقاب إلى زوال! الجواب المحذوف
في الأسئلة التي وجهتها إلى الدكتور الجمالي سؤال يقول: ما هي الشخصيات التي ظفرت بإعجابكم؟ وما الشمائل الأصلية لتلك الشخصيات؟
وأجاب الدكتور الجمالي عن هذا السؤال بصفحة كاملة، ثم عاد فخلط بياضها بسوادها فلم أتبين منها غير أشباح، وإن كان تفضل فأبقى العبارة الخاصة بأحد الرجال. وقد سألته عن السبب في حذف هذا الجواب فاعتذر بأنه قد يعرضه إلى محرجات.
وأجهدت عيني في تعرف تلك الأسماء فلم أهتد إلا إلى سمات خطية عرفت منها أسماء: السنهوري وغربال ومشرفة وجوهر والقباني وفهيم.
وكان قبل ذلك حدثني عن إعجابه بالدكتور سليمان عزمي والأستاذ علي بدوي.
وللدكتور الجمالي الحق كل الحق في أن يسكت عمن عرف في مصر من الرجال، فلكل رجل في مصر خصائص تتعب من يهمه التحدث عنها بإيجاز أو إطناب. وغني مصر بالرجال لا يحتاج إلى بيان، والذي يتصل بمصر وهو في مثل ذكاء الدكتور الجمالي وإخلاصه لا يستطيع النجاة من الفتون بما لرجالها من رجاحة العقل، ونفاذ البصيرة، وقوة اليقين.
أما إعجاب المصريين بالدكتور الجمالي فهو إعجاب صادق، وقد أطلعوه على دقائق النهضة العلمية والأدبية والفنية والاجتماعية. وتفردت أنا بإطلاعه على دقائق الحياة الشعبية، وذلك جانب يراه بعض الناس من المبتذلات وأراه من الطرائف، فما في مصر بقعة إلا وهي مصدر وحي أو مبعث خيال.
زرت مع الدكتور الجمالي أكثر الأحياء الوطنية، الأحياء التي نبت فيها آباؤنا وأجدادنا قبل أن يعرفوا المدينة الغربية، الأحياء التي أوحت ما أوحت من فنون الرأي والعبقرية، زرت معه (حي الخليفة) الذي نشأ فيه مصطفى كامل، وهو حي تغلب عليه البداوة ولكنه مزود بقوة الروح، وفي رحابه نشأ كثير من جنودنا الأبطال.
والأخوة التي بيني وبين الدكتور الجمالي فرضت عليه أن يرى مصر بعيني، مصر التي لم يخلق مثلها في البلاد، مصر التي ولد فيها موسى، ونشأ بها عيسى، وصاهرها محمد، وهم صفوة الأنبياء.
لم أر في مصر شيئاً يجب إخفاؤه عن رجل من أرباب القلوب؛ وإذا احتاجت مصر إلى الدفاع عن نفسها، فلن يكون ذلك إلا بفضل جناية الجمال على الجميل.
جمالُكِ فاتنٌ والحسنُ ذنبٌ ... لأهل الحُسنِ في شرع الذئِاب
فما شكواكِ من ظلماَء طالت ... وتلك جنايةُ المجد اللُّباِب
إن استباح السفهاء من أهل البغي أن ينالوا مصر بسوء، فسيكون لهم من وراء البغي ألوان وصنوف من غضب صاحب العزة والجبروت.
مصر التي لم يهتف بمثلها شاعر ولا كاتب ولا خطيب، مصر التي لم يتفتح الزهر في أرض أكرم من أرضها ولا أخصب، مصر التي لم يتخطر على ثرى ثراها أسرابٌ لا ترى مثلها العيون في شرق ولا غرب
مصر الجميلة الغالية ليس فيها ما يعاب، فمن حقي أن أطلع على خفاياها من يشاء، فإن صح أن فيها ما يشوك، فهو سواد الخال في الخد الأسيل
بكاء غريق الألطاف
البكاء محرم على الرجال إلا في مقامين اثنين: مقام الشوق إلى الله، وقام الحزن لفراق الأحباب. وللمقام الثاني صورة لا ينجيني من أطيافها المزعجات إلا تدوينها على القرطاس، فإن الإنشاء كالبكاء يخفف ما تعاني القلوب من لواعج وأحزان. وكيف نعيش لو حرمنا الخلوة إلى القلم من وقت إلى وقت، وقد أقفرت الدنيا من الصديق الذي ننفض بين يديه ما في صدورنا من أشجان وكروب؟
والصورة الآتية من صور البكاء تستحق التسجيل، فهي واضحة الدلالة على أن الأخوة العربية قد انتقلت من حال الشرح والتفسير إلى حال الذوق والإيمان. فما تلك الصورة من البكاء؟
في الأيام الأخيرة لإقامة الدكتور الجمالي بالقاهرة جدت
شواغل منعتني من الأنس بهذا الصديق الغالي، وهي الشواغل
التي تصحب افتتاح العام الدراسي، ومع ذلك عرفت أنه
سيغادر القاهرة في عصر هذا اليوم (11041) وقبل الموعد المحدد لقيام القطار بنحو خمسين دقيقة كنت في الفندق الذي نزل فيه لأصحبه إلى محطة باب الحديد، ولكني لم أجده هناك، ثم حضر بعد لحظات، فكانت تحيته: لطفك يا دكتور! وحدق في وجهي لحظة ثم قال: هل تعرف أني قضيت مساء الأمس وصباح اليوم في البكاء لفراق القاهرة؟ فابتسمت وقلت: الجروح قصاص، فمن واجب القاهرة أن تصنع بك بعض ما صنعت بي بغداد، وأنا بكيت لفراق بغداد حتى رحمني أعدائي، فاشرب قطرة من الكأس الذي شربته حتى الثمالة. واحترس من التزيد على المحبين!
ولم يقع في الوهم إلا أن الدكتور الجمالي يلاطفني بالحديث عن تحزنه لفراق القاهرة، فهو من بلد له تقاليد في مراعاة الآداب الإخوانية، ولكن لم نكد نفارق الفندق في طريقنا إلى المحطة حتى غلب الرجل على وقاره، وأخذت دموعه تبلل خديه على ما يصاب به المتيمون.
ورأيت من الحزم أن أتجاهل ما يعانيه، لئلا يزداد عناء إلى عناء، فأخذت أشاغله بالسؤال عن معالي الدكتور سامي شوكت وسعادة الأستاذ طه الراوي، وانطلقت فسردت له عشرات من الأسماء التي أحبها في أرجاء العراق، ولم أطو عنه إلا أسماء من صادقت من رجال الجيش، فقد خشيت أن أسمع أن فيهم من قتل في الحرب التي دامت ثلاثين يوماً. وكان لي في الجيش العراقي أصدقاء لا يفدون بغير الأرواح، كتب الله لهم العافية من مكاره الصروف في هذه الأيام!
ثم بلغنا محطة باب الحديد وقد جفت دموع الدكتور الجمالي، فرأينا هنالك طوائف من الإخوان ينتظرون باسمين، فسرى عنه بأسرع من لمح البرق، وأخذ يحاور ويناضل بعزيمة لا تعرف البكاء.
وأراد الإخوان أن يصارحوه بحزنهم لفراقه فأشرت إليهم أن يكفوا، فسكتوا وقد فهموا أني أعرف من أمره ما لا يعرفون؛ والمصري أقدر الناس على فهم خطرات القلوب ولمحات العيون.
وكان الدكتور الجمالي مع هذا مهدداً برجعة البكاء، فقد كان يرى ناساً لا ينتظر أن يراهم في الساعة الثالثة بعد ظهر يوم من أيام رمضان، فكان يقول لمن يراه: غريق ألطافكم! غريق ألطافكم! وتمت الأعجوبة حين رأى أقطاب وزارة المعارف يفدون لتوديعه وهم رجال لا تسمح شواغلهم بأداء هذا الواجب في مثل هذه الأيام المثقلة بالتكاليف.
وقد تأثر الدكتور الجمالي بهذا المنظر فكاد يبكي من جديد، ثم صده حضور صاحب الفخامة نوري باشا السعيد، فقد أخذ يسألني عن صحة ليلى بعبارات لا تخلو من فكاهة ومزاح.
ودوى صفير القطار فتحاجز المودعون، وانخرط الدكتور الجمالي في البكاء، البكاء الذي لا يجيده في مثل هذا الموقف غير كبار الرجال.
وما الذي يمنع الدكتور الجمالي من البكاء لفراق القاهرة، وقد عاش فيها شهرين بعين المحب وقلب الصديق؟
لو كان الدكتور الجمالي من الشعراء ونظم في توديع القاهرة ألف قصيدة لكان تعبيره عن أساه أقل بياناً من تلك الدموع النبيلة وقد جاد بها قلب نبيل.
الثقافة المصرية
حدثني الدكتور الجمالي قال: (شغلت عن مسايرة الثقافة المصرية نحو عشر سنين، بسبب التفاتي إلى الثقافة الإنجليزية، ثم كانت هذه الزيارة فتحاً جديداً، وقد اشتريت من المؤلفات المصرية ما ملأ حقيبتين كبيرتين، فحبي القديم لمصر أضيف إليه حب جديد، كنت أحبها للأخوة العربية، فصرت أحبها الأخوة العلمية، وإعجابي بتقدم مصر العلمي جاوز ما كنت أقدر من الفروض)
ومع أنه زار مصر في أشهر العطلة المدرسية فقد عرف كيف يدرك ما عندنا من مذاهب الحياة التعليمية، بفضل صلاته الوثيقة برجال التعليم، وفضل ما فطر عليه من حب الاستقصاء.
وليس معنى هذا أن مصر وصلت إلى ما لم يصل إليه أحد في العالمين، ولكن معناه أن الرجل شغل بالمحاسن عن العيوب، فلم تقع عيناه في مصر على شيء غير جميل.
وهذه النظرة الودية هي أساس التعارف الصحيح، والداعون إلى الوحدة العربية فاتهم هذا الجانب، وهو الابتداء بخلق صلات روحية وذوقية تصل العربي عن طريق الحب الصفاء.
أسئلة وأجوبة
لم يبق إلا أن نذكر بعض ما دونه الدكتور الجمالي بخطه، مكتفين بالأهم، لضيق المجال
س - ما هي الصفات التي يجب أن يتحلى بها المصر حين يخدم العلم بالعراق؟
ج - كل ما نريده للمصري الذي يأتي لخدمة العراق هو أن يشعر بأنه في بلاده وبين أهله وإخوانه، ومتى شعر بأنه يخدم أبناء قومه فلا أشك في أن عمله سيكون مثمراً أطيب الثمر. وإني لأنصح لمن يشتغل بالتعليم في العراق أن يبتعد عن البحث في القضايا السياسية والأمور المذهبية، فما دخلت هذه البحوث في دور العلم إلا أفسدتها.
س - أتراك مطمئناً إلى صحة القول بأن مصر صلة الوصل بين الشرق والغرب؟
ج - إن مصر خير مثال لبلد تمسك بشرقيته ثم غذاها بالنتاج الثقافي الغربي، فمصر عربية في روحها، إسلامية في تقاليدها، وهي مع ذلك تأخذ عن الغرب أساليبه العلمية، وأنظمته الصناعية والزراعية والتجارية، فهي بودقة تصهر ثقافتي الشرق والغرب، ونرجو أن تخرج منهما ثقافة موحدة لمحاسن كلتيهما، وإذ ذاك تصبح مصر ومن ورائها البلاد العربية صلة الوصل بين الشرق والغرب حقاً.
س - ما الذي تحب أن ينقل من شمائل بغداد إلى القاهرة ومن شمائل القاهرة إلى بغداد
ج - احب أن تنقل بعض شمائل القاهرة إلى بغداد، لا سيما ما يتعلق بتنظيم العمران وفتح الشوارع وتشجيرها وإكثار من الميادين والحدائق العامة، ولا أرى مل يمكن نقله من بغداد إلى القاهرة.
س - هل اتسع وقتك للنظر في الفروق بين المناهج المصرية والمناهج العراقية؟
ج - هناك فروق بين مناهج التعليم في مصر والعراق، وهذه الفروق ناتجة من أمرين: الأول أن العراق حديث في نظامه التعليمي، ولم تتولد له مشاكل تاريخية بعد، ففي وسعه أن يطبق أحدث النظريات الفنية التعليمية بدون أن تكون في الطريق عقبات خلفها له الماضي. أما أنظمة التعليم في مصر فلها تاريخ بعيد نسبياً. فلا يمكن الأخذ بما هو صالح من الجديد إلا بالتدريج. والأمر الثاني هو أن العراق قد اعتنق الفكرة العربية منذ تكوينه الجديد بقيادة المغفور له الملك فيصل الأول، فهذه الفكرة متغلغلة في كل برامج التعليم، ولم تصل هذه الفكرة في مصر إلى صميم التعليم بعد كما هو الحال في العراق.
س - أنت زرت تركيا وكتبت عن التعليم فيها تقريراً مفصلاً، فهل ترى وقد زرت مصر أننا قريبون أو بعيدون من الأتراك من الوجهة الثقافية؟
ج - لا أستطيع أن أتحدث عن الثقافة التركية اليوم، لأني لم أتتبع التطورات الأخيرة في معارف تركيا منذ وفاة المغفور له أتاتورك. أما الثقافة التركية كما عرفتها في سنة 1937 فكانت تختلف عن الثقافة في مصر اختلافاً أساسياً وهي بعيدة عنها كل البعد. أولاً لأن الأتراك في ثقافتهم قطعوا صلتهم بالماضي ووضعوا لأنفسهم أسساً جديدة واضحة وجهت الثقافة بموجبها، فهم أخذوا كل ما راقهم من المبادئ الغربية وتركوا الثقافة الشرقية وراءهم. وثانياً لأن الانقلاب التركي جاء شاملاً وسريعاً، بينما مصر تسير على الأساليب الديمقراطية التدريجية، فهي تبقى الجيد من القديم وتضيف إليه الحديث، ولذلك أرى أن الشقة الثقافية قد بعدت بين البلاد العربية والبلاد التركية. هذا ما بدا لي سنة 1937 ولا أعرف ما هو الوضع اليوم هناك.
(انتهى ما اخترناه من أجوبة الدكتور الجمالي)
أما بعد فقد فرغت من كتابة هذا المقال في لحظة قدرت فيها أن الدكتور الجمالي لم يصل إلى الحدود المصرية ليجتازها إلى فلسطين، فليكن مقالي هذا تحية ثانية إلى الصديق الذي ودع القاهرة بدموع الوفاء، وليتفضل فيذكر أن القاهرة لا تنسى أحبابها أبداً، ولو بعدت الدار وقدم العهد.
وإذا كان الدكتور الجمالي قد تلطف فدعاني لزيارة بغداد مرة ثالثة فليعرف أني ما فارقت بغداد، ولا غاب عن عيني محيّاها الجميل.
سيَسألُ قومٌ من زكيٌ مباركٌ ... وجسميَ مدفون بصحراء صماء
فإن سألوا عني ففي مصر مرقدي ... وفوق ثرى بغداد تمرح أهوائي
زكي مبارك