مجلة الرسالة/العدد 430/نشيد الانتقام
→ من أخلاقنا: | مجلة الرسالة - العدد 430 نشيد الانتقام [[مؤلف:|]] |
ناحية من طاغور ← |
بتاريخ: 29 - 09 - 1941 |
شاعر الجرمان الأعظم
لأستاذ جليل
ألا إن قصيداً عبقرياً يصوغه (أبو محرز خلف) راوية العرب ومبدع تلك الطائفة من عبقرياتهم، ويختاره (أبو تمام حبيب ابن أوس الطائي) أكبر شعراء العرب ومختار تلك الدواوين للفائقات من أشعارهم، ويطلع عليه (ولفغنغ غوث) أعظم شعراء الجرمان ومفكريهم فيروقه ويطربه بل يبهره فينظمه، وإنما يعرف العبقري - لحقيق جد حقيق بالرواية في (الرسالة) كتاب العرب، وديوان العلم والأدب. فخذوا هذا النشيد، وخذوا هذي السطور في ابن غوث.
وقد نقلت شرح لهذه القصيدة في ديوان الحماسة وأضفت إليه ما لم يفسره التبريزي وأبو العلاء، وما رأيت فائدة في إيراده راجعاً في ذلك إلى هذه الكتب: المصباح، الإفصاح، الصحاح التاج، اللسان، المخصص، النهاية، الفائق، الأساس، تهذيب الألفاظ، كامل المبرد، بلوغ الأرب، مجمع الأمثال، كتاب سيبويه، شرح المفصل، شرح الكافية، مبهج ابن جني، خزانة الحموي، شرح المتنبي للعكبري، شرح شواهد سيبويه، شرح المقصورة الدريدية.
والمأمول أن تكافأ (الرسالة) بما تصنع فيكلف الأساتذة الكرام في كل إقليم عربي الطلاب في أعلى صف ابتدائي وفي الصفوف الثانوية، وفي الصفوف في الكليات - استظهار (نشيد الانتقام). وإنه لمن الكفر في دين الأدب ألا يحفظ شعراً عربياً أدهش شاعر الدنيا - جميع أدباء العرب.
نشيد الانتقام
قال ثابت بن جابر:
(إن بالشَّعب الذي دون سَلعٍ=لقتيلاً، دُمه ما يُطلُّ)
(الطل) مطل الدم والدية وأبطالهما. دمه لا يذهب هدراً قلت: (الشعب) الطريق في الجبل، والجمع الشعاب
(خلْف العبءَ عليّ وولّى=أنا بالعبء له مُستِقل) (العبء) الثقل، والمراد به ههنا طلب دمه. قلت: أقل الشيء واستقله: رفعه وحمله. ومن المجاز هو لا يستقل بهذا الأمر: لا يطيقه.
(ووراء الثأر مني ابن أخت=مَصِعٌ، عقدته ما تحل)
(المصع) الشديد المقاتلة، الثابت ههنا.
قلت: يقال: إنه لمصع بالسيف. والمماصعة المجالدة بالسيوف، والمجالدة: المضاربة.
(مُطرقٌ يرشح سَمَّا كما أط_رق أفعى يَنفثُ السمِ صل)
قلت: أطرق: أرخى عينيه ينظر إلى الأرض، ورجل مطرق: كثير السكوت. وفي حديث أم سلمة: نهش الرقشاء المطرق. (الصل) الحية الدقيقة الصفراء. يشبه الرجل بالصل إذا كان داهية، قال النابغة:
ماذا رزئنا به من حية ذكر ... نضناضة بالرزايا، صل أصلال
(خبرٌ ما نابنا مُصْمَئِلُّ=جلّ حتى دق فيه الأجلُّ)
(مصمئل): شديد
(بْزنى الدهر - وكان غشوما -=بأبيْ، جارُه ما يُذَلْ)
(بأبي) الباء للتأكيد زائدة، ويجوز أن يكون عذى (بزني) بالباء لما كان معناه فجعني، فيكون من باب ما عدى بالمعنى دون اللفظ.
قلت: بزه غلبه وغصبه، وبز الشيء: انتزعه، وأصل البزة (أي اللباس) من بززت الرجل أبزه إذا سلبته، فسمى اللباس بما يؤول إليه من السلب. . .!
(شامس في القُرِّ حتى إذا ما=ذكت الشعرى فبردٌ وظل)
أي هو كريم، وشامس أي ذو شمس، يعني أن من لجأ إليه في الفر وجده كالشمس التي تدفئ المقرور، ومن لجأ إليه في القيظ وجد لديه برداً وظلاً.
قلت: الشعري: كوكب نير، طلوعه في شدة الحر (ذكت) اشتد حرها ومراده طلوعها. وذكت الشمس ذكاء، ومنه قيل لها ذكاء والصبح ابن ذكاء لأنه من ضوئها، واشتقاق ذكاء من ذكو النار وهو تلهبها.
(يابسُ الجنبين من غير بؤس=وندى الكفين، شهم مدل)
يريد أنه يؤثر بالزاد غيره على نفسه، ومن عادتهم التمدح بالهزال. (الشهم) الذكي الحديد (المدل) هو الواثق بنفسه وآلاته قلت: (البؤس): الشدة والفقر (الشهم) الذكي الفؤاد والشهم السيد النافذ النجد.
معنى (يابس الجنبين من غير بؤس) - كما أراه - أنه يتفحل ويخشوشن - غير مفتقر - كلفاً بالرجولية والفحولة ومقتا للتخنث والتأنث والتترف. وهل يفسد المرء بل الأمة كلها جمعاء إلا الترف، إلا فرط التنعم والدعة. وأقوال ابن خلدون وغيره في هذا المعنى مشهورة.
كتب عمر (رضى الله عنه) إلى أهل حمص لا تنبطوا في المدائن، ولا تعلموا أبكار أولادكم كتاب النصارى، وتمعززوا، وكونوا عرباً خشنا.
(لا تنبطوا. . .) أي لا تتشبهوا بالأنباط في سكنى المدائن والنزول بالأرياف، أو في اتخاذ العقار واعتقاد المزارع، وكونوا مستعدين للغزو، مستوفزين للجهاد (الأبكار) الأحداث (تمعززوا) من المعز وهو الشدة والصلابة. وقد نهى (رضى الله عنه) عما نها عنه لأن القوم وقتئذ بعوث لإبلاغ الرسالة، فاليوم في حمص وغداً في الصين أو الأندلس.
أين عمر، أين أبو حفص عمر، أين تلميذ محمد؟!!
(ظاعنٌ بالحزم حتى إذا ما=حل حل الحزم حيث يحل)
(غيث مْزنٍ غامرٌ حيث يُجدي=وإذا يسطو فليث أبَلْ)
(الإبل) المصمم الماضي على وجهه لا يبالي ما لقي.
(مسِبلٌ في الحي أحوى، رفلُّ=وإذا يغزو فسِمعٌ أزلٌّ)
(مسبل) من أسبال الإزار والبرد لأنهم يصفون ذا النعمة بذلك، وإنما يحمدون ذلك في حال الدعة والأمن، فأما في الشدائد وعند الحرب فإنهم يمدحون الرجل بالتشمير. (الرفل) الطويل الذيل. (أحوى) الذي به حوة، وهي سواد في الشفتين محمود، أو مسبل شعراً أحوى أي أسود لأنهم كانوا يوفرون لممهم، ويصفون الشاب بحسن اللمة. (أزل) الزلل خفة العجز، وذلك خلقته
قلت: السمع سبع مركب لأنه ولد الذئب من الضبع، وفي المثل: (أسمع من سمع) ويقال أيضاً: (أسمع من السمع الأزل) -: (أي الخفيف الوركين، قليل لحم العجز والفخذين) لأن هذه الصفة لازمة له كما يقال للضبع العرجاء. قال: تراه حديد الطرف أبلج واضحاً ... أغر طويل الباع، أسمع من سمع
وليس في الحيوان شيء عَدْوه كعدو السمع لأنه أسرع من الطير، يقال: وثبات السمع تزيد على عشرين أو ثلاثين ذراعاً. .
(وله طعمان أرْىٌ وَسرْىٌ=وكلا الطعمين قد ذاق كل)
(الأرى) يراد به العسل، وإن كان في الأصل عمل النحل
قلت: (الشرى): الحنظل، وفي المقصورة الدريدية:
ليَ التواء إن معادي التوى ... ولي استواء إن مولى استوى
طعميَ شرى للعدو تارة ... والراح والأرى لمن ودي ابتغى
(يركب الهولَ وحيدا ولا يص_حبُه إلا اليماني الأفل)
قلت: سيف أفل: ذو فلول، وفلوله كسور في حده. وسيف أفل: ذم لما به من الخلل الظاهر، ومدح لما ضرب به كثيراً. سأل عروة بن الزبير عبد الملك أن يرد عليه سيف أخيه عبد الله، فأخرجه في سيوف منتضاة، فأخذه عروة من بينها، فقال له عبد الملك: بم عرفته؟
فقال: بما قال النابغة:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
(وفُنُوٍ هجّروا ثم أسْروا=ليلهم حتى إذا إنجاب حلّوا)
(فتو) جمع فتى (هجروا) ساروا في الهاجرة. يريد أنهم وصلوا السير بالسرى
(كلُ ماض قد تردى بماض=كسنى البرق إذا ما يسل)
ارتدى بسيفه، وتردى، واعتطف به، ويسمى السيف الرداء والعطاف
قلت: (السنى): الضوء. كل رجل ماض قد تردى بسيف ماض. (الماضي) الجسور المقدم، والماضي الأسد لجرأته والسيف لنفاذه في الضريبة. مضى السيف مضاء قطع
(فأّدركنا الثأرَ منهم ولما=ينج ملْحيّين إلا الأقل)
قلت: (ملحيين) من الحيين، حذف النون لسكونها وسكون اللام من الحيين كما قالوا في بلعنبر وبلحارث - يريدون بني العنبر وبني الحارث - ونحو من هذا قول قطري:
غداة طفت عَلْماءِ بكرُ بن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
أراد على الماء، ولا يقولون مثل هذا في بني النجار؛ لأنهم لو قالوا: بنجار لحذفوا النون، وقد أعلموا اللام بالإدغام، فكان ذلك إجحافاً بالحرفين.
ومن طريف ما وجدته في باب الاختصار أو الاختزال. . . في الألفاظ ما ورد في حديث ابن مسعود (رضى الله عنه): أن امرأة ابن مسعود سألته أن يكسوها، فقال: إني أخشى أن تدعي جلباب الله الذي جلببك به!
قالت: وما هو؟
قال: بيتك
قالت: أجنك من أصحاب محمد تقول هذا. .!!
أجنك أصله من أجل أنك أو لأجل أنك
(فاحتسوا أنفاسَ نوم فلما=هوّموا رعتَهمُ فاشمعلّوا)
(اشمعلوا) جدوا في المضي، رجل مشمعل أي جاد خفيف
قلت: حسا المرقة واحتساها وتحساها. (النفس) الجرعة. ومن المجاز احتسوا أنفاس النوم، (هوموا) إذا كان النوم قليلاً فهو التهويم. وفي حديث رقيقة: بينما أنا نائمة أو مهومة: التهويم أول النوم وهو دون النوم الشديد:
(فأن قلت هذيل شباه=لبما كان هذيلاً يفل)
(الشباة) حد الشيء، إن كانت هذيل تمكنت منه فكسرت حده فهو بما كان يؤثر من قبل في هذيل
قلت: في قصيدة أعشى بأهله التي يرثي بها المنتشر:
إمّا يصبك عدو في مُباوأة ... يوماً فقد كنت تستعلي وتنتصر
إما سلكت سبيلاً كنت سالكها ... فاذهب فلا يبعدنك الله منتشر
في مباوأة: يقول في وتر
(وبما أبركها في مُناخ=جَعْجَع ينقَب فيه الأظل)
(الجعجع) مناخ سوء، وهو الأرض الغليظة (الأظل) باطن الخف (ينقب) يحفى. والمراد فيما كان ينال منهم ويحملهم على المراكب الصعبة.
قلت: (المناخ) أصله الموضع الذي تناخ فيه الإبل. وأناخها: أبركها فبركت. واستناخت بركت، ومن المجاز: هذا مناخ سوء: للمكان غير المرضي.
(وبما صّبحها في ذَراها=منه بعد القتل ذهب وشلّ)
قلت: (ذراها) مأواها، مكانها. الذرى كل ما استترت به، يقال: أنا في ظل فلان وفي ذراه، أي في كنفه. (الشل): الطرد، ومر فلان يشلهم بالسيف أي يكسؤهم - يتبعهم ويطردهم -
صِلَيت مني هذيل بخِرق ... لا يملّ الشر حتى يملوا
قلت: الخرق: السخي الكريم الجواد يتخرق في السخاء ويتسع فيه. والكريم الجواد شجاع، والشجاعة أخت الكرم، والخرق: الفتى الكريم الخليقة
(ينهل الصعدة حتى إذا ما=ما نهلت كان لها منه عل)
(الصعدة): القناة تنبت مستوية، وجمعها صعدات - بفتح العين - لأنها أسم، ثم قيل في المرأة المستوية القامة والأتان الطويلة. . صعدة، وهي وصف لهما، ويجمع حينئذ على صعدات - بسكون العين - لكونها صفة.
قلت: النهل: الشرب الأول وقد نهل وأنهلته أنا، والعل والعلل: الشربة الثانية؛ وقيل الشرب بعد الشرب تباعاً، ومن المستعار عله ضرباً أي تابع عليه الضرب.
(حلت الخمر وكانت حراماً=وبلأي ما ألّمت تحل)
(ما ألمت) يجوز أن تكون (ما) صلة، ويجوز أن تكون مع الفعل بعده في تقدير المصدرية. (بلأي) ببطء. ألمت حلالاً أو إلمامها حلالاً (الإلمام) الزيارة الخفيفة، وتوسع فيه فأجرى مجرى حصلت عندي.
قلت: في حديث أم أيمن (رضى الله عنها) فبلأي ما استغفر لهم، أي بعد جهد ومشقة وإبطاء. ويقولون: لأياً عرفت. وبعد لأي فعلت. قال زهير:
فلأياً بلأي ما حملنا وليدنا ... على ظهر محبوك ظماء مفاصله
نصبه على المصدر موضع الحال، والتقدير حملنا وليدنا مبطئين ملتئين. (المحبوك) الشديد الخلق (الظماء) القليلة اللحم، وهو المحمود منها، وأصل الظمأ العطش.
قالوا: إن من عادتهم تحريم الخمر على أنفسهم حتى يدركوا ثأرهم، قال امرؤ القيس:
حلت لي الخمر وكنت امرأ ... عن شربها في شغل شاغل
فاليوم أشرب غير مستحقب ... إثماً من الله ولا واغل
يقول هذا حين قتل أبوه ونذر ألا يشرب الخمر حتى يثأر به، فلما أدرك ثأره حلت له.
أشرب: سكنت الباء ضرورة، ومن يرد هذا ينشد: فاليوم أسقى أو فاليوم فاشرب (الواغل) الداخل على الشرب ولم يدع.
فاسقنيها يا سوادَ بنَ عمرو ... إن جسمي بعد خالي لخل (الخل) المهزول. (سواد) رخمه عن
سوادة، ولك أن ترويه: يا سواد بن عمرو
قلت: في (يا زيد بن عمرو، ويا هند ابنة فاطمة) يجوز في زيد وهند وجهان: الضم على الأصل والفتح للاتباع، وحق الصفة أن تتبع الموصوف، وههنا قد تبع الموصوف الصفة، والفتح يختار ولا يجب، وقد ذهب بعضهم إلى وجوبه
هذا البيت يذكرنا ببيتين في (الجناس المعنوي) لأبي بكر ابن عبدون، فقد قال وقد اصطبح بخمرة ترك بعضها إلى الليل فصار خلاً:
ألا في سبيل اللهو كأس مدامة ... أتتنا بطعم عهده غير ثابت
حكت بنت بسطام بن قيس صبيحة ... وأمست كجسم الشنفري بعد ثابت
بنت بسطام بن قيس كان اسمها (الصهباء) والشنفري قال: (اسقنيها. . . البيت) والخل هو الرقيق المهزول فظهر من كناية اللفظ الظاهر جناسان مضمران في صهباء وصهباء، وخل وخل، وهما في صدر البيت وعجزه. والجناس المعنوي المضمر هو أن يضمر الناظم ركني التجنيس، ويأتي في الظاهر بما يرادف المضمر للدلالة عليه، فإن تعذر المرادف أتى بلفظ فيه كناية لطيفة تدل على المضمر بالمعنى كقول أبى بكر السابق، وهو أحسن ما سمع من هذا النوع
أنا ممن يقول: عوذ بالله من هذا (البديع) وأهله، وما سطرت ما سطرت إلا إكراماً لتأبط شراً وابن أخته الشنفري وخلف الفرغاني وغوث الجرماني.
(تضحك الضبع لقتلى هذيل=وترى الذئب لها يستهل)
استعار الضحك للضبع، والاستهلال للذئب، وأصل التهلل والاستهلال في الفرح والصياح.
(وعتاق الطير تغدو بطانا=تتخطاهم فما تستقل)
يروي: تهفو بطانا وهفت بمعنى تطير، يقال: هفت الصوفة في الهواء: إذا ارتفعت. بمعنى يعتاق الطير أكلة اللحمان وعافية الجيف.
قلت: العتيق: الخيار من كل شيء: النمر والماد والبازي، وعتاق الطير الجوارح منها، والجوارح من الطير والسباع ذوات الصيد لأنها كواسب أنفسها من قولك: جرح واجترح الواحدة جارحة. (بطاناً) ممتلئة البطون. (تتخطاهم) تخطو عليهم وتخطى الناس واختطاهم، ركبهم وجاوزهم. (تستقل) استقل الطائر في طيرانه: نهض للطيران وارتفع في الهواء، واستقلت الشمس في الهواء: ارتفعت وتعالت.
تم القصيد العبقري، وكمل شرحه الذي رجعت فيه إلى ما سميت في المقدمة، وسأنشر الكلمة الموجزة في ناظمه باللسان الجرماني في الجزء المقبل إن شاء الله تعالى.
(* * *)