مجلة الرسالة/العدد 429/الحديث ذو شجون
→ خلاصة من كتاب: | مجلة الرسالة - العدد 429 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
كليلة ودمنة ← |
بتاريخ: 22 - 09 - 1941 |
للدكتور زكي مبارك
الترقية إلى المدارس الثانوية - إلى وزير المعارف - ردوا
هؤلاء المدرسين إلى المدارس الأولية! - أربعة قرون من
تاريخ العراق - افتحوا الشبابيك وانظروا الليل، لتشغلوا عما
في قلوبكم من أسباب المعاطف والحتوف
الترقية إلى المدارس الثانوية
كانت وزارة المعارف تراعي (الأقدمية) في ترقية المدرسين من الابتدائي إلى الثانوي، مع ملاحظة تقارير المفتشين ومع النظر في درجات (الدبلوم) وذلك نظام غير مقبول، وإن كان يعتمد على قواعد لها صلات (ظاهرة) بفكرة العدل.
والحق أن نظرية (الأقدمية) لها دخل في تعويق المواهب، لأنها تصل بأهل البلادة والخمود إلى ما يريدون على مر الزمان، وتصد الموهوبين عن الوصول إلى مطامحهم العالية فتردهم أشباحاً تنتظر مرور الأيام لتصل إلى الهدف المنشود بلا تعب ولا عناء.
والحق أيضاً أن درجات الدبلوم ليست وثيقة أبدية لكفاية المدرس، فقد يخمد نشاطه بعد ذلك، وقد يبذه من سبقهم في الترتيب.
وإذن فلا بد من مقياس جديد، وهو مقياس (المسابقة) لاختيار المدرسين للمدارس الثانوية، وذلك نظام لا يثور عليه غير الزاهدين في الدرس والتحصيل، أو الخائفين من الخيبة والإخفاق
وقد أجريت المسابقة بين المدرسين في الأعوام الأخيرة فكانت فرصة لمراجعة نحوية وصرفية وبلاغية وأدبية غفل عنها أكثر مدرسي اللغة العربية، وكذلك يقال في سائر المواد، فتلك المسابقة هي في الواقع فتح جديد، وإن قيل فيها ما قيل.
فإن لم يكن بد من النص على بعض المؤاخذات فأنا أقول إن الترفق بالمتسابقين ظاهر ظهوراً جلياً، وكنت أحب أن يكون ذلك الاختبار أقوى مما رأيناه، ليكون شهادة بالقدرة على التعمق والاستقصاء، ولتكون له جميع خصائص ال بحيث يمكن للسابقين أن يصبحوا ولهم منازل أدبية وعلمية تستوجب الالتفات.
والخطأ يرجع إلى الأساس الذي يبنى عليه تكوين اللجان، فتلك اللجان تختار في الأغلب من رجال مشغولين، وهم الرجال الذين تختارهم وزارة المعارف لجميع اللجان، كأنهم من (أهل الخطوة) وكأنهم يقدرون على كل شيء، فهم أعضاء في كل لجنة، وهم شهود في كل اجتماع، وهم زينة جميع الحفلات!!!
واختيار اللجان على هذا الأساس يضيع المقصود من المسابقة بعض التضييع، فالأصل أن يكون عند الممتحن من الوقت ما يسمح بأن يراجع مواد الامتحان بعناية وتدقيق، ليدرك الفروق الخفية بين مواهب الممتحنين، وليشعر المتسابقين بقيمة التعمق والاستقصاء، وذلك لا يتيسر لرجل مشغول، وأعضاء اللجان عندنا رجال مشاغل بحرفة الاشتراك في اللجان، وهي حرفة لم نجد لها أثراً فيما قرأنا من كتب التاريخ! جعل الله كلامي خفيفاً على جميع أعضاء اللجان!
أما بعد، فقد ثار على هذا النظام (ستة نفر) من المدرسين بالمدارس الابتدائية؛ وهم الأساتذة: محمد أبو الفضل إبراهيم، وعبد السلام محمد هارون، وعلي محمد البجاوي، وإبراهيم الأبياري، ومحمد سعيد العريان، وعبد الحفيظ شلبي. وهم يرجعون أن يرقوا إلى المدارس الثانوية بدون امتحان
ولكن كيف وهو نظام لا يثور عليه رجل حصيف؟؟
هم يجيبون بان لهم جهوداً في (التأليف والتحقيق الأدبي) وتلك الجهود لا تقل قيمة عن الجهود التي تبذل في الاستعداد لذلك الامتحان!
وأقول إن هذا حق، فلهؤلاء المدرسين جهود محمودة في التأليف والتحقيق، وفيهم من وصل إلى الابتكار في بعض الفنون.
ولكن وزارة المعارف لا يعجزها أن تجيب، فهي تقول إن هذا الباب إن فتح فسيتيح فرصاً كثيرة لأدعياء التأليف والتحقيق. وهي تقول أيضاً إن المؤلف أو المحقق لا يجوز له النكول عن مثل ذلك الامتحان.
وأنا أرى ما ترى وزار المعارف في هذا الموضوع؛ ولكن الحجة التي ساقها هؤلاء (النفر) - وهو التعبير الذي اختاروه في المذكرة التي قدموها إلى وزير المعارف - الحجة التي ساقوها تبعث على التفكير في حظهم من الأنصاف
يقول هؤلاء: (أن مدرسي اللغة العربية الذين يبلغون 1200 ليس فيهم إلا ستة نفر استعلنوا بجهودهم بين هذا الجمع الجامع) إلى آخر الاحتجاج
في مصر 1200 مدرس لم يلتفت منهم إلى التأليف والتحقيق غير هؤلاء؟؟
أهذا حق؟ أم هو وهم اعتصم به أولئك المدرسون؟
إن كان حقاً فيجب أن يرقوا في الحال، وإن كان باطلا فيجب أن يحالوا إلى (مجلس تأديب)، لا نهم أهانوا طائفة المدرسين!
وعلى فرض إنهم لم يقولوا غير الحق فلن تعجز وزارة المعارف من الجواب؛ فستقول - وقد قالت - إن المسابقة يراد بها اختيار المدرسين الأكفاء لا المؤلفين الأكفاء، وهنالك فروق بين التدريس والتأليف
وهذا أيضاً حق، ولكن هؤلاء المدرسون رضا عنهم المفتشون في أمد يزيد على عشر سنين؛ فماذا تريد الوزارة اكثر من ذلك لتطمئن إلى صلاحياتهم للتدريس؟
إلى وزير المعارف
وزيرنا اليوم هو معالي الدكتور محمد حسين باشا، وهو رجل منوع المواهب، ولكن التاريخ لن يحفظ له غير موهبة واحدة هي موهبة التأليف والتحقيق، لأنها اظهر مواهبه العقلية، فما الذي يمنع من أن يتلطف فينظر إلى هؤلاء المدرسين بعين العطف وقد شاطروه اقتداء العيون تحت أضواء المصابيح؟
إن لم ينصفهم الوزير المؤلف فمن ينصفهم؟
وإن كان في ريب من قدرتهم على إجادة التأليف فليراجع مؤلفاتهم (في أوقات فراغه) ليحكم لهم أو عليهم بما يشاء!
ردوا هؤلاء إلى المدارس الأولية
ومن هؤلاء؟ هم جماعة من المدرسين في المدارس الابتدائية لا يحسنون كتابة مذكرة إلى وزير المعارف وإن كان فيهم أفراد من أهل التأليف والتحقيق وأعيذ القارئ أن يفهم إني أغض من أقدار معلمي المدارس الأولية؛ فأنا أشير دائماً أن يكون (كبار الأساتذة أوصياء على صغار التلاميذ) فالطفل يحتاج إلى مدرس عنيد، أما التلميذ أو الطالب فحاجته قليلة إلى المدرس الممتاز، لأنه يطلع بنفسه على دقائق العلوم والفنون
فمن هؤلاء الذين أشير يرجعهم إلى المدارس الأولية عقابا لهم على التقصير في الإنشاء؟
هم (النفر) الذين يرجون أن يرقوا إلى المدارس الثانوية بدون امتحان، بفضل ما قدموا في خدمة التأليف والتحقيق؟
وسأهجم على هؤلاء النفر، مع الرجاء أن يراعي وزير المعارف إن هذا الهجوم لا يراد به الغض من منازلهم الأدبية، فهم حقاً وصدقاً من أفاضل المدرسين وإنما جاءت العلة من اشتراك جماعة في كتابة مذكرة معدودة الأسطر والكلمات ولو أنشأها كاتب واحد لجاءت غاية في الوضوح والجلاء
وإليهم أسوق المؤاخذات الآتية
أولا - قال إن ماضيهم في التدريس والتأليف قضى بأن (لا تتهيأ لهم العوامل النفسية التي تسمح بأن يقبلوا على امتحان الترقية)
ومعنى ذلك إنهم صاروا في أنفسهم أعظم من لجان الامتحان مع إن الأخبار ترد من وقت إلى وقت بأن في أوربا وأمريكا من يتقدمون إلى المسابقات بعد الخمسين، ولهم في ميدان المجد الأدبي والعلمي مكان
ثانيا - قالوا (إن المعلم بعد أن ينضج وتكتمل شخصيته العلمية لا يتأتى له أن يعود تلميذاً يستوعب ويفرغ ما يستوعبه)
وأقول إن التلميذ الحق هو المدرس الحق، والاستكبار على التلمذة ضرب من الجهل
ثالثا - قالوا (إن الذي يحسن أن يقول لا يستحسن كما يقال)
وأجيب بأن امتحان الترقية يطالبهم بالنقد لا بالاستحسان
رابعا - قالوا (إن الذي له عقل الناقد غير الذي له عقل السامع)
وأقول إن السمع نوع من النقد، لو كانوا يعقلون!
خامساً - قالوا: (كلما أرتفع الإنسان منزلة في الرأي نزل مرتبة في الاستعداد للتعلم من غيره)
وأجيب بأن هذا هو زهو بغيض، ولو أنصفوا لحكموا بأن الارتفاع في الرأي يزيد في الاستعداد للفهم والاستيعاب
أما بعد فمذكرة هؤلاء النفر لن تنفعهم بشيء لأنها أقيمت على حجج ظاهرة البطلان
ولكن هذه المذكرة لا تصور أقدار هؤلاء المدرسين، وأنا أنتظر أن يتلطف وزير المعارف فينظر إليهم بعين العدل والأنصاف وهو أقدر الرجال على وزن أهل التأليف والتحقيق
إن غلطة واحدة يكشفها باحث في كتاب قديم أو حديث تستوجب الالتفات، فما سكوتنا عمن جماعة كشفوا العشرات أو المئات من الغلطات؟
يضاف إلى ذلك أن الاهتمام بالتأليف والتحقيق يشهد لاصحابه بالقيمة الأخلاقية، فأولئك المؤلفون والمحققون أنفقوا أوقات فراغهم فيما ينفع ويفيد، ولم ينفقوها في (لعب الأوراق) كما يصنع الفارغون من أكثر الموظفين!
أنصف هؤلاء، يا معالي الوزير، ليعرف جمهور المدرسين أن الدرس والبحث والتنقيب من الأعمال التي لا تضيع
هؤلاء جنود العلم والأدب، يا معالي الوزير وهم صوت مصر الصداح، وإليهم وإلى أمثالهم يرجع الفضل في رفع صوت مصر بأقطار الشرق
وما عسى أن تكون مصر في العهد الحديث لو حرمت أصوات الشعراء والكتاب والمؤلفين؟
أولئك هم المضحون بأنفسهم في سبيل المجد المصري، فمن الواجب أن نعفيهم من حضور الامتحان، أمام فلان وفلان، وأنت تعرف ما أريد!؟
أربعة قرون من تاريخ العراق
كتاب ظهر بالإنجليزية سنة 1925 وهو من تأليف المستر لونكريك المفتش الإداري بالحكومة العراقية سابقاً، ونقله إلى العربية الأستاذ جعفر خياط مدير التعليم الثانوي بوزارة المعارف العراقية
وترجع أهمية هذا الكتاب إلى انه تحدث عن عصور لم يتحدث عنها أحد بالتفصيل، فقد بحث عن تاريخ العراق ف العصور المظلمة من بداية القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر
وكانت النية أن أنظر فيه نظرة عابرة لأكتب عنه كلمة تقوم مقام التحية لصديق كريم من أعز أصدقائي في العراق، وهو الأستاذ جعفر خياط وليس من الإسراف أن تذكر صديقاً بالخير لأنه ترجم كتاباً بلغ أربعمائة صفحة بالقطع المتوسط، وإن لم نطل النظر في ذلك الكتاب
وبدأت بقراءة الفصل الأخير لأهميته عندي، وهو الفصل الذي يسجل أعمال مدحت باشا في العراق، فقد كنت سمعت أنه أعظم حاكم عرفته تلك البلاد بعد الحجاج، ثم استهواني أسلوب المؤلف في التاريخ فمضيت صعداً إلى أن وصلت إلى المقدمة، وكان آخر ما قرأت كلمة المترجم، وتم ذلك كله في يومين اثنين، بفضل مهارة المؤلف في إحياء معالم التاريخ
دلني هذا الكتاب على الكثير من الحقائق، ومنه عرفت كيف كانت دول أوربا تغازل العراق في القرن التاسع عشر، وكيف كانت التجارة وسيلة لإيقاع بلاد الرافدين في الإشراك
والمؤلف لم يرد بكتابه غير هداية قومه إلى خصائص الحياة العراقية، وهو قد صرح بأنه يتحدث (عن تاريخ بلاد يتعلق ماضيها الأخير بحياة الألوف من أبناء بلاده ومصايرهم) ولم يفته أن ينص على أن تلك المصاير تثير الجدل بين مواطنيه وهم ينظرون إلى المستقبل بعناية والتفات
وكذلك يرى علماء الإنجليز أن التاريخ أداة من أدوات النفع، وهل يدرس التاريخ لغرض أنفع من هذا الغرض؟
إن الهدف الأول لهذا المؤلف هو إرشاد قومه إلى خفايا العصور التي كونت العراق الحديث، وقد وصل إلى ما أراد، وإن كان اهتمامه بتسجيل ما صنع أسلافه لم يخل من تحيز مستور أو مكشوف، والنزاهة المثالية لا تتاح لجميع الناس
ولا بد من النص على أن هذا الكتاب من نماذج البراعة في سرد حوادث التاريخ، وهو يربط العراق بالأمم التي تأثر بها من قرب أو من بعد في مدى أربعة قرون، حتى لنكاد نشهد سيال المنافع بين تركيا وإيران، ول شئت لقلت إنه يشير من طرف خفي إلى تأثير مصر في بعض وقائع التاريخ، وتلك نقطة لم يلتفت إليها مؤرخو مصر في العصر الحديث وإذا كان المؤلف قد أراد هداية قومه إلى خصائص الحياة العراقية، فقد أراد المترجم أن يدل قومه على تلك الخصائص بنقل هذا الكتاب إلى العربية، وهم قوم شغلتهم متاعب الكفاح من تأريخ العراق في عصور الظلمات
وفي مقدمة المترجم إشارة إلى جهود الدكتور مصطفى جواد في المراجعة وبعض التعليقات، وهي إشارة ذكرتنا بأديب فاضل قضى وقتاً في طلب العلم بالجامعة المصرية، وترك في أنفس عارفيه صورة محفوفة بالود والإعجاب.
افتحوا الشبابيك وانظروا الليل
الشبابيك جمع شباك، وهي كلمة فصيحة تؤدي معنى لا تؤديه كلمة النوافذ؛ كما تؤدي كلمة الدكاكين معنى لا تؤديه كلمة الحوانيت
والليل صديقي في هذا العهد، ولا أقضيه في غير داري، لان صدري ينقبض من السهر في القاهرة منذ عرفت المصابيح الزرق؛ وكانت لياليها أشد إشراقاً من الصباح
وفي هذه الليالي البيض أو السود، عرفت قيمة الخلوة إلى قلبي؛ كما عرفت قيمة الليل، وكما عرفت أن القلم هو الصديق الباقي على الزمان
إذا عوت صفارة الإنذار كان من واجبك أن تطفئ النور وتفتح الشبابيك؛ كما توصي (وزارة الوقاية المدنية)، وقد اكتفت بذلك فلم تأمرك بالنظر إلى الليل، ولعلها تخاف عليك ففي صدورنا بقية من الخوف الموروث عن أسلافنا القدماء، يوم كانوا يعيشون في الغابات والأدغال، وحين كان الليل مسرح المهالك والحتوف
ولكن، هل تعرف لم أوصيك بنظر الليل حين تطفئ المصباح؟
أوصيك بنظر الليل لتشغل به عن النظر في قلبك، إن كان لك قلب!
وهل في الوجود معاطب أخطر وأعنف من المعاطب المبثوثة في ثنيات القلوب؟
الوقوع في مهاوي سقر أهون عليّ من الوقوع في مهاوي قلبي، ففيه مخاوف ومهالك لا أستطيع اجتيازها بأمان، ولو زودتني المقادير بما زودت به أهل الغفلة والجمود، وما أسعد الغافلين والجامدين من أبناء هذا الزمان!
احترس من قلبك كل الاحتراس، وتغافل في كل وقت عن مطامحه العاتية، فهو لا يقنع بالقليل، ولا يرضيه إلا أن تسيطر على جميع من في الوجود، وأين أنت مما يريد؟ احترس من قلبك، إلا أن تعرف كيف تسايره في أودية الأماني والآمال، وشعاب الشعر والخيال
احترس من قلبك، كما أحترس من قلبي، فما سايرته إلا في ميدانين اثنين: ميدان الحب وميدان المجد، ثم كان نصيبي أن أقضي حياتي في عناء وشقاء
القلب، وما أدراك ما القلب؟ هو جارحة روحانية تدرك بها ما لا تدرك بالجوارح الطبيعية، وهو سبب ضلالك وسر هداك، فنزهه من النظر إليه في كل وقت، لينتفع بغفلتك عنه فينبغي ويستطيل، كما يصنع السفهاء عند غفلة الرقيب!
لا بد لك من قلب فتاك صوال، ليكون من حظك أن تشهد قيام الموازين، فقد سمعت أن الخلائق لن تبعث جميعا، وإنما يبعث من لهم تاريخ في إزاغة البصائر أو هداية القلوب. . .
زكي مبارك