مجلة الرسالة/العدد 427/مدن الحضارات
→ الفقر مسألة اجتماعية | مجلة الرسالة - العدد 427 مدن الحضارات [[مؤلف:|]] |
المصريون المحدثون ← |
بتاريخ: 08 - 09 - 1941 |
7 - مدن الحضارات
في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
أما الآية الكبرى الباقية في قرطبة شاهداً على ما كان للعرب فيها من عمارة وهندسة فهي الجامع الكبير أو المسجد الجامع الذي بناه عبد الرحمن الداخل في موضع كنيسة للنصارى عوضهم عنها أرضاً واسعة ومالاً كثيراً. وطراز هذا المسجد على غرار المسجد النبوي الذي بناه الوليد بن عبد الملك بالمدينة المنورة.
وقد وصفه (لابورد) في كتابه (صفة أسبانيا) وذكر أن طوله 620 قدماً وعرضه 440 قدماً. ونقل دوزي عن لابورد هذا الوصف. أما المستشرق بروفنسال صاحب كتاب (إسبانيا الإسلامية في القرن العاشر) فقد ذكر أن طوله 180 متراً وعرضه 130 متراً
وفي كتاب الحلل السندسية للأمير شكيب وصف مفصل لهذا المسجد، كما افاض الوصف فيه البتانوني صاحب رحلة الأندلس
وتمتاز كتابات الأمير الجليل بالتحقيق والتدقيق والشرح التفصيل والتعليق على كل مشهد والتحليل لكل حادثة؛ فهو لا يكتفي بأبعاد المسجد التي ذكرها دوزي ولابورد والبارون شاك ولكنه يسأل دليله في قرطبة المهندس هرناندز وأحد الموكلين بالجامع والقيام عليه، فذكر له أن طول المسجد 175 متراً وعرضه 125 متراً وذلك قريب مما ذكره بروفنسال
وعلى كل حال لا تخلو الروايات التاريخية المختلفة من اختلاف بينها على سعة هذا المسجد وأبوابه ومحاريبه وسواريه وثرياته ونقوشه ورقومه وصناعات قبلته وفرجة محرابه وقسيه وعمده
وينقل صاحب نفح الطيب عن الإدريسي كلاماً في وصف هذا المسجد، إلا أن النسختين الباريسية والاكسفوردية من كتاب (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق) للإدريسي جاء فيهما ما يخالف ما رواه صاحب نفح الطيب. ولعل ذلك من أخطاء النسخ وعدم تحري الدقة في النقل، وخاصة فيما يتعلق بذكر الأرقام والإحصاء، وهذا مشاد كثيراً لمن يكثر المطالعة في كتب الأدب والتاريخ
وأعجب ما في هذا المسجد مئذنته، وقالوا لم يكن في مآذن المسلمين ما تعدلها، فبلغ طوله إلى مكان وقوف المؤذن 54 ذراعاً، والى أعلى الرمانة الأخيرة 73 ذراعاً، وعرضها في كل تربيع 18 ذرعاً
وقد حول نصارى أسبانيا هذا المسجد إلى كنيسة بعد أن دخلت الأندلس في حوزة الفرنجة. وما تزال النقوش العربية العجيبة الشبيهة بالمخرم (الدنتلا) تزين وجهته وعلى الباب الكبير المصفح بالنحاس رسم القوم صلباناً بعد أن تم التحويل إلى كنيسة. وبقية المئذنة على حالها؛ إلا أن النواقيس أصبحت ترم فيها بعد الأذان والتكبير، وما تزال الآيات القرآنية الكريمة مكتوبة في دار القبلة والمحراب بالخط الكوفي. أما القبة الضخمة التي كانت قائمة فوق المسجد على 365 عموداً من المرمر، فقد أزيلت وأزيل معها 163 عموداً كما أزيل بعض سقف المسجد المحلاة بالأطلية الجميلة والليقة الذهبية؛ ونهب الفرنسيون في غارة نابليون الأول على إسبانيا أربعمائة مصباح من الفضة الخالصة. ولا تنس أن جميع خشب هذا المسجد من عيدان شجر الصنوبر الطرطوشي الذي تضرب به الأمثال في الصلابة والثبات
ويذكر الإدريسي أن بمسجد قرطبة مصحفاً يقال أنه عثماني. ويروي صاحب نفح الطيب الخبر عن الإدريسي، ثم يرويه في العصر الحديث الأمير شكيب صاحب الحلل السندسية، ويذكر أنه المصحف الذي خطه بيمينه عثمان بن عفان رضي الله عنه وفيه نقط من دمه، ولكن البتانوني يناقش هذه الرواية في تحقيق علمي، وينفي عقلاً أن ينتقل مصحف عثمان الأصلي من المدينة إلى الأندلس
وإذا ذكرت قرطبة، ذكرت بجانبها (الزهراء) التي بناها أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر، ولم يكتمل بناؤها ألا في عهد ابنه الحكم؛ وقد شرع الناصر في بنائها على بعد أربع أميال من قرطبة مرضاة لمحظية له كان اسمها زهراء
ويروي المقري عن ابن الفرضي انه كمل للناصر بنيان القناة الغريبة الصنعة التي أجراها وجرى فيها الماء العذب من جبل قرطبة إلى قصر الناعورة غربي قرطبة في المناهر المهندسة، وعلى الحنايا المعقودة يجري ماؤها بتدبير عجيب وصنعة محكمة إلى بركة عظيمة عليها أسد عظيم الصورة، بديع الصنعة، شديد الروعة، لم يشاهد أبهى منه فيما صور الملوك في غابر الدهر، يدخل الماء إلى جوف الأسد ويخرج من عجزه إلى تلك البركة في منظر يعجب الناظر ويبهره. . . فتسقى من هذا الماء الممجوج رياض القص وجنائنه على رحبها، ويجوز الفضل من ذلك الماء إلى النهر
ويبدع الواصف لهذا القصر - سواء كان المقري أو أبن الفرضي - في وصفه سطحه الممرد المشرف على الروضة ووصف مرمره المسنون، وذهبه المصون، وعمده ونقوشه وبركة وحياضه وتماثيله. وكان يخصص لبحيرة الزهراء كل يوم أحمال وأوزان من اللحم والخبز المصنوع من الحمص الأسود غذاء لحيتانها وأسماكها. . .
وهنا تعمد الرواية التاريخية إلى الإغراق في المبالغة والمغالاة في الإحصاء والأرقام مما لا حاجة بي إلى ذكره في هذا المقام. وهي مبالغة تدل على شيء كثير من الحق، وتصور لنا هذه القصور والدور في صورة نستطيع أن نتخيلها لا بحقائقها ولكن بما أضفي عليها من تهويل وإغراق
وكان الرخام يجلب إلى الزهراء من قرطاجنة وأفريقية وتونس، واشترك في وضع الرخام ولصقه علي بن جعفر الإسكندراني. ولعله اجتلب من الإسكندرية خاصة لذلك
وازدهرت (الزهراء) في عصر الناصر ازدهاراً كاد يضيع من مكان قرطبة ومحلها. وشغل الناصر نفسه بالبناء والعمارة وإتقان القصور، وزخرفة المصانع في الزهراء حتى عطل شهود الجمعة ثلاث جمع متواليات، مما جعل القاضي العادل والواعظ الناصح منذر بن سعيد يعرب بأمير المؤمنين مبتدءاً الخطبة بقوله تعالى: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون، وتتخذون مصانع لعلكم مخلدون) ومذكراً فيها بالدنيا الزائلة والحياة الفانية، والدار الباقية والموت المفاجئ، والقدر المواتي، مما أبكى الناصر وأحنقه على منذر لشدة وعظه وغلظة تقريعه
وكان منذر بن سعيد هذا يكثر تعنيف الخليفة الناصر على اهتمامه بالبناء إلى حد كاد ينسيه أمور دينه، وشؤون آخرته. ويروي المقري عن الحجازي في كتاب (المسهب في أخبار المغرب) أن منذراً هذا دخل على الناصر يوماً وهو مكب على الاشتغال بالبنيان فوعظه، فرد عليه الناصر قائلاً:
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها ... من بعدهم فبألسن البنيان
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم ... ملك محاه حوادث الأزمان إن البناء إذا تعاظم شأنه ... أضحى يدل على عظيم الشان
ولا يدري الراوي إن كان هذا الشعر الناصر أم مما تمثل به في هذا المقام
لقد شهدت قرطبة منذ الفتح العربي إلى أيام المنصور بن أبي عامر في أواخر القرن الرابع الهجري كثيراً من نواحي الجلال التاريخي، فبقيت زهاء ثلاثة قرون تتمتع بحكم مستقر، وملك وطيد وعمارة وبناء، ويسر ورخاء؛ إلى أن نكبت في النصف الأول من القرن الخامس الهجري الحوادث الجسام وخاصةً في زمن المستعين بالله سليمان وفي دولتيه اللتين مكثتا ست سنين وعشرة أشهر، وهي تلك المدة التي يصفها أبن بسام صاحب كتاب الذخيرة ناقلاً عن أبن حيان قوله، وكانت كلها شداداً نكدات، صعاباً مشئومات، كريهات المبدأ والفاتحة قبيحات المنتهى والخاتمة، لم يعدم فيها حيف ولا فورق فيها خوف، ولا تم سرور، ولا فقد محذور، مع تغير السيرة، وخرق الهيبة، واشتعال الفتنة، واعتلاء المعصية، وظعن الأمن، وحلول المخافة
وشهدت قرطبة أيضاً الفتنة في زمان المستظهر، وحبسته الشنيعة في أتون الحمام حين قام الدائرة في وجهه وزرقوه وهم يسبونه، فارتد على عقبه وترجل عن فرسه وتجرد من ثيابه حتى بقي في قميصه واستخفى في أتون الحمام ففقد شخصه، ثم أخرج في قميص مسود بحال قبيحة حيث قتل أمام أبن عمه المستكفي. . .
وشهدت قرطبة في سنة 414 هـ ثورة لتعويل أهلها على رد الأمر لبني أمية الذين اغتصب سلطانهم بنو حمود، وبايعوا المستظهر الأموي الذي قتله حفيد الناصر وجلس على العرش باسم المستكفي بالله - وهو والد ولاّدة الشاعرة الأندلسية المشهورة - ثم قتل المستكفي وجاء بعده - بعد فتن وحوادث - المعتمد بالله آخر ملوك بني أمية بالأندلس
ظلت قرطبة منذ الفتح العربي مقصد أهل العلم وطلاب الأدب، يفدون إليها انتجاعاً للعلم أو طلباً للحكمة كما كانت بغداد والقاهرة في المشرق. ويذكر القاضي صاعد الأندلسي أن أبن البغونش الطبيب الحكيم الأندلسي رحل من طليطلة إلى قرطبة لطلب العلم بها
ولم لا تكون قرطبة مقصد العلماء والشداة من أهل الحكمة والمعرفة والنظر والفلسفة، وقد كان من أهلها الطبيب الفلكي الفيلسوف يحيى بن يحيى المعروف بابن السمينة، والرياضي الحكيم أبو القاسم مسلمه المعروف بالمرحيطي. وكان من تلاميذه أبن السمح وأبن الصفار والزهراوي والكرماني وأبن خلدون (غير المؤرخ صاحب المقدمة). وكان أبن السمح السالف الذكر من أهل غرناطة، ثم وفد على المرحيطي في قرطبة لأخذ الرياضة والحكمة عنه
كما كان من أهلها الكرماني أحد الراسخين في علم العدد والهندسة، والذي قال عنه تلميذه أبن حيي المهندس الفلكي (أنه ما لقي أحداً يجاري في علم الهندسة ولا يشق غباره في فك غامضها وتبين مشكلها واستيفاء أجزائها)
ومنهم الفيلسوف أبن رشد أبو الوليد الذي اشتغل بالرياضة والفلسفة والطب والتشريح وقام: (من اشتغل بعلم التشريح ازداد بالله إيماناً)، وترك من الكتب القيمة عدة صالحة تجد ذكرها في ترجمته في طبقات الأطباء لأبن أبي أصيبعة
كما وفد على قرطبة من أهل المشرق أحمد بن يونس الحراني وأخوه عمر وغيرهما
وكان ضياع قرطبة - فيما ضاع من الفردوس الإسلامي - سبباً في إثارة شاعرية كثير من شعراء المراثي للممالك والدول كابن الأبار القضاعي صاحب كتاب التكملة الذي قتل قمصا بالرماح سنة 658 هـ وأحرقت أشلاؤه والذي يقول في رثائه لمدينة بلنسية:
يا للجزيرة أضحى أهلها جَزراً ... للحادثات وأمست جدها تعسا
في كل شارقة ألمام بائقة ... يعود مأتمها عند العدا عرسا
وكلِّ غاربة احجافُ نائبة ... تثني الأمان جذاراً والسرور أسى
تقاسم الروم لا نالت مقاسمهم ... ألا عقائلها المحجوبة الأنسا
وفي بلنسية منها (وقرطبة) ... ما يذهب النفس أو ما ينزف النّفَسا
وفي قرطبة يقول صالح بن شريف الرندي المعروف بأبي البقاء وهو خاتمة شعراء الأندلس وأدبائها:
وأين (قرطبة) دار العلوم فكم ... من عالم قد سما فيها له شأن؟
والحق أنه يسأل حيث لا جواب ولا كلام؛ ولله سبحانه البقاء والدوام.
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن