مجلة الرسالة/العدد 427/ماكس إشترنر
→ رسالة القلم البليغ | مجلة الرسالة - العدد 427 ماكس إشترنر [[مؤلف:|]] |
طاغور الخالد ← |
بتاريخ: 08 - 09 - 1941 |
فيلسوف الأنانية
1806 - 1856م
للدكتور جواد علي
ولم لا تكون للأنانية فلسفة وفلاسفة، والأنانية من أهم الغرائز التي لعبت دوراً هاماً في حياة البشرية؟ لعبت دورها في حياة الأفراد كما لعبت دورها في حياة الأمم. وليس بعجيب أن أصبحت (الأنانية) موضوعاً هاماً من موضوعات الفلسفة، وهدفاً أو مثلاً أعلى لبعض المذاهب الفلسفية، بل محور فلسفتها تدور حولها جميع أبحاثها كالذي يلاحظ عند (الأبيقوريين) أو عند كثير من فلاسفة القرن الثامن عشر وبعض فلاسفة الإنكليز أمثال فرنسيس هيتجسون 1694 - 1746)، ويرميا بنتام - 1832)، وجون ستيوارت ميل 1806 - 1873) وغيرهم
غير أن كاسبر شميد، أو ماكس إشترنر كما كان يلقبه إخوانه التلاميذ في المدرسة لعلو جبهته واتساعها، كان قد جاوز حدود هيام هؤلاء بالأنانية وتفانيهم فيها وضرب رقمهم القياسي بأضعاف. أعلن للناس أنه صب بالأنانية مغرم، وأنه جاء إليهم برسالة جديدة وديانة جديدة: هي ديانة الأنانية ومحبة الذات. . . ديانة قويمة فوق كل الديانات. إنها السعادة الأبدية للجماعات والأفراد؛ وإنها مفتاح اللذة؛ وإنها الطريقة المثلى للوصول إلى الكمال الإنساني وما يتمناه كل فرد من هذه الحياة. هي طلسم السعادة والكبريت الأحمر الذي أفنى الحكماء أنفسهم عبثاً للوصول إليه، وكيمياء الحياة
مفتاح هذا العالم في نظرية ماكس إشترنر كلمة (أنا)؛ ولكن كلمة (أنا) هذه لا تدل على معنى مجرد، بل على شخصية معينة؛ بواسطة هذه الشخصية عرف الكون والوجود. كل ما في الكون هو (أنا) وما عداي وهم وخيال. أنا خلقت الأسماء، وأنا خلقت المصطلحات، وأنا الذي وضعت تلك التعابير التي لا وجود لها في الحقيقة. وأنا الذي سجنت نفسي بيدي. خلقت تلك المعايير الأخلاقية والمقاييس الأدبية فقلت: شرف ووطنية وإنسانية وديانة وأخلاق وفضيلة إلى آخر ما هنالك من كلمات جوفاء
قيدت البشرية نفسها منذ خلق العالم بقيود فرضتها عليها جماعة من الأنانيين الأقوياء الذين مثلوا دور (أنا) خير تمثيل. . . استغلوا عقول السذج البلداء، والسواد الأعظم من البلهاء، فحللوا وحرموا ووضعوا القيود الأدبية والحواجز الأخلاقية والاجتماعية. أطاعتها المجتمعات الإنسانية حتى اليوم، وأدخلت نفسها طوعاً واختياراً أو خوفاً ورهبة في عداد العبيد وطبقات الأرقاء. صارت تقاد كما يقاد قطيع الغنم أو البقر إلى المجازر باسم الوطن والشرف والدفاع عن العرض أو العقيدة والمال، إلى غير ذلك من الكلمات التي (فبرقتها) معامل أولئك الأنانيين، وأنتجتها أفواه أولئك الحكام الجبابرة العتاة. وما التاريخ البشري سوى عبودية دائمة من هذا النوع
يقول: لو حللنا الأعمال البشرية بجميع أنواعها وألوانها تحليلاً علمياً لوجدنا (الأنانية) هي الدافع الأول في جميع حركات الإنسان. هي الأول، وهي كل شيء هي الحقيقة الأولى، وهي الحقيقة الأخيرة. هي التي صورت لي العالم بهذه الصورة. وهي التي جعلت الإنسان يبني ويشيد ويشتغل. لو جردنا ما نسميه في قاموسنا (العالم) من أنا، أو الأنانية لما بقي شيء من هذا الذي سميناه عالماً. ولذلك فالحقيقة واحدة وهي حقيقة (أنا). تدرك هذه الحقيقة ما يحيط بها بواسطة منبعين: منبع الإدراك أو التصور ومنبع الإرادة
فما دام الأفراد الأنانيون هم الذين وضعوا تلك القيود في سبيل منافعهم الشخصية ومآربهم الذاتية؛ وما دامت الأنانية هي الغالبة على كل عمل إنساني، فلم يستمر الفرد على تحمل تلك العبودية؟ ولم يذعن لتلك القيود التي قيد بها جبراً؟ ساقت هذه النتيجة المنطقية إشترنر إلى البحث عن الحرية: حرية الأفراد، وما يملكه الفرد، فوضع كتاباً في هذا المعنى سماه (الفرد وما يملك) تهجم فيه تهجماً شديداً على القيود الأخلاقية والاجتماعية والدينية التي تحكمت وظلت تتحكم في عصره، وشن حرباً شعواء مقدسة على المبادئ الدولية وعلى كل شيء عام يطلق عليه وصف بشري، وعلى الحكومات التي انتزعت سلطة الأفراد، وعلى الشيوعية التي ناوأت الملكية الفردية، وهي أقدس حق من حقوق الإنسان. سخر من المجتمع ومن تكاليف المجتمع بعبارات لاذعة لم يعرف مثلها في أي كتاب من كتب العالم
كان الشاعر الأديب الإنكليزي (برنارد مندويل صاحب كتاب (أسطورة النحل) (نشر لأول مرة في عام 1714 م)، قد صرح في كتابه بلا خوف ولا وجل بأن (الأنانية) هي الدافع الوحيد للإنسان على أعماله الروحية والمادية، وأن جميع القيود الأخلاقية أو الإنسانية أو الدينية لا قيمة لها أبداً؛ لأنها من وضع الحكام الذين توخوا تأمين السيادة. غير أن كتاب ماكس إشترنر كان قد جاوز كتاب مندويل الإسكتلندي في التهكم والتهجم على أخلاق المجتمع وجميع الأنظمة البشرية القائمة بأضعاف!
كان كتاب (الفرد وما يملك) عنوان ثورة جديدة أراد أن يؤجج نارها ذلك الفيلسوف: ثورة الفرد على المجتمع، ثورة الفرد على الحكومة. فشارك الديمقراطيين بالفكرة، وكان في طليعة جماعة الاشتراكي اليهودي لاسال؛ إلا أنه اختلف عنهم بالأسلوب. نرى ماكس ديمقراطياً من رأسه إلى أخمص قدميه، ولكنه ديمقراطي فردي يريد أن يشيد بناء ديمقراطياً على أساس السلطة الفردية. يريد أن يرى البشرية مجموعة أفراد، كل فرد من هذه المجموعة يتمتع بحريته ولذاته، هو نهم لا يشارك الآخرين ولا يرضى بأن يشاركه أحد. غايته التمتع بالحياة إلى آخر حد، وأن ينفرد بكل شيء؛ لا يفكر إلا لنفسه، ولا يبالي بما يفعل الآخرون. شعاره لا تهمني إلا نفسي
كل سلطة تتحدى سلطة الفرد يجب أن تقاوم وتهدم. وحيث أن الحكومات تحاول دائما التعدي على حريات الأفراد ومجال عمل الأفراد، فهي سلطات استعبادية ودوائر تفرض الرق على البشرية فرضاً بواسطة صكوك وأوراق تحبرها تطلق عليها الصيغ الشرعية. لذلك تبرم الفيلسوف من الحكومات وعد نفسه من ألد أعدائها، ولكنه كان من ألد أعداء النظام الشيوعي كذلك؛ إذ بينما الشيوعية تحطم ملكية الفرد وتندد بالملكية الخاصة، نرى (إشترنر) يندد بالملكية العامة ويدعو إلى الملكية الخاصة
يرى أنه ما دامت الأنانية هي الصفة الغالبة في الطبيعة، وما دامت حركات الإنسان وسكناته كلها حركات منبعها الأنانية، فمن الحماقة التغاضي عن هذه السنة الطبيعية، والالتجاء إلى الأحلام الذهبية الشعرية؛ وقد دلت الأحوال على أن كل محاولة من هذا النوع كانت فاشلة، وأنها ترتد دائماً إلى الأنانية الفردية.
ثم من ذا الذي يضمن للإنسان عدالة أولئك الذين سيقومون بالأشراف على المجتمع العادل؟ لذا، فأنا وحدي صاحب الحق في الملكية، ولي الحق كل الحق في الامتلاك، وعلي أن أتفاهم مع الآخرين في هذا الحق، فإذا خالفوني على حقي هذا التزمته ودافعت عنه بكل قواي لأجبر الآخرين على الاعتراف بهذا الحق، ولكن الملكية مع ذلك غير مقدسة، إذ لا قدسية في العالم إلا للحق والسيطرة فقط
وبدلاً من هذه الحكومات والتشكيلات الشيوعية، يجب تشكيل جماعات من الأنانيين الأحرار الذين لا يرتبطون فيما بينهم بروابط أو حقوق طبيعية أو روحية كالتي يطلقها عليها اتباع النظريات الأخرى. يكون الأفراد جماعة لا تحاول امتلاك الأفراد، بل يحاول الأفراد امتلاك الجماعة، والرابطة الوحيدة التي تربط الفرد بهذه الجماعة هي رابطة (المنفعة)، وعلى كل فرد أن يبذل كل ما في وسعه لاستغلال الجماعة إلى آخر ما يمكن. فإن حاولت الجماعة استغلال الفرد ثار عليها. وهذا في زعمه هو الفرق بين العبودية والحرية. ففي المجتمعات الديمقراطية أو الشيوعية تحاول الجماعة السيطرة على الفرد، ولكنها في مجتمع ماكس إشترنر يسيطر الفرد في زعمه على الجماعة
لا قيود في هذا المجتمع ولا فروض. لكل شخص عقيدته وديانته، لا تهمه إلا نفسه، ولا يشتغل إلا لنفسه فقط. فإذا تحققت هذه الأمنية على زعم فيلسوفنا تحققت الحرية وتحققت معها السعادة البشرية وتحقق كل شيء. أما الفكرة العالمية أو البشرية أو الدولية فيسائل الفيلسوف نفسه عنها: ما الذي أربحه من الاعتقاد بهذه الآراء؟ وما الذي أستفيده منها؟ ثم يجيب: لا بأس من أن أساير الناس وأن أوافقهم موافقة رجل حذر، ولكن موافقة رجل حكيم أعد لكل شيء عدته، يحاول جهد الإمكان الانتفاع من هؤلاء السذج. فإن انعكست الآية نفر من تلك الجماعة ونبذ ذلك المجتمع الفاسد. والحرية هي تجريد النفس من كل القيود والحدود التي تعوق إرادة الفرد وتحاول منعه من استغلال أنانيته ولو أنها كلمة جوفاء في حد ذاتها. وبعملنا هذا نكون قد أدركنا حقيقة الحرية. والجندي الشجاع مثلاً هو الذي يستطيع أن ينجو بنفسه من الحرب؛ فلا يضحي بنفسه في سبيل أطماع نفر من جزاري البشرية إن ربحوا تقلدوا الأوسمة ودخلوا القصور الفخمة، وإن خسروا انسحبوا إلى مملكة أخرى أو إلى القصور الهادئة وعاشوا عيشة السادة المترفين. في حين أن الجندي المسكين بطل المعركة إن مات مات فقيراً تاركا وراءه عائلة تبكي، وإن عاش عاش فقيراً كذلك لا يهتم بشجاعته أحد سخرت الأوساط الأدبية من آراء ماكس إشترنر ومن كتابه (الفرد وما يملك) وعلى الأخص الشيوعية منها، فنشرت جريدة الراين (دانيشة تزايتنك) جريدة كارل ماركس نبي الشيوعية مقالات تهكمت فيها من نظرية إشترنر؛ وانبرى أمثال كارل كرين وموذس هيس ونفر آخر من محرري الجريدة فنشروا رسالة بعنوان (آخر الفلاسفة) سخروا فيها من الفيلسوف ومن آرائه
لم يفهم ألمان ذلك الزمن معنى لهذه (الأنانية) العلمية الجديدة، ولم يدافع أحد من فلاسفة العصر عن آراء فيلسوف (الأنانية)، ولم يتمكن محب الدنيا من استغلال الدنيا. لم تقبل الدنيا عليه رغم إقباله عليها. ظلت مدبرة عنه وهو مقبل عليها. توفيت زوجته الأولى (بنت الشارع) في السنة الأولى من زواجه، وطلقته زوجته الثانية (الحرة البوهيمية) لأنه حاول أن يتزوج مالها مكتفياً به عنها. ولم تنفعه شيئاً (جمعية أحرار الروح) التي ألفها مع بعض زملائه البوهيميين المفاليس في حانة (هبل) إحدى حانات برلين. لأن الحياة البوهيمية تحتاج إلى مال، وهذا ما لا قبل للفيلسوف به. ولم ينجح صاحبنا في بيع (الحليب) وتوزيعه عندما اضطرته الدنيا إلى العمل. فقد انهال عليه الحليب وقل الزبائن، وذهب آخر فلس لديه. ولم تنجح آخر نظرية من نظرياته الفلسفية، عندما دخل طوعاً واختياراً في عالم الديون والقروض، ثم في عالم النشل والإجرام حيث قالت الحكومة: عدوته رقم واحد، كلمتها وأدخل السجن. وبذلك أثبتت عملياً أن فيلسوفنا لم يكن على حق فيما قال
لم ينعم (صاحب الجلالة) كما كان يلقب نفسه حتى بقليل من الاهتمام. نعم عده الفوضويون الأجانب نبيا من أنبيائهم المرسلين، وحسبوا كتابه معجزة من معجزات الدماغ البشري؛ فكتبت فئة منهم عن نبيهم، كما فعل الاسكتلندي جون هنري مكي صاحب كتاب (سيرة ماكس إشترنر) وكتاب (الفوضويون). وكذلك الأمريكي توكر صاحب جريدة الحرية الأمريكية، والفرنسي فيكتور بشي في جامعات فرنسا
لم تنصف الدنيا فيلسوفنا الفقير، ولم ينصف أهل الأرض ذلك الفيلسوف المتعجرف الذي كان يكتب الحرف الأول من كلمة (أنا) دائماً بالحرف الكبير، دلالة على العجرفة والعظمة؛ فعسى أن يكون نصيبه من الآخرة خيراً من نصيبه في الدنيا.
(بغداد)
جواد علي