مجلة الرسالة/العدد 426/مدن الحضارات في القديم والحديث
→ الفقر مسألة اجتماعية | مجلة الرسالة - العدد 426 مدن الحضارات في القديم والحديث [[مؤلف:|]] |
المصريون المحدثون ← |
بتاريخ: 01 - 09 - 1941 |
6 - مدن الحضارات في القديم والحديث
للأستاذ محمد عبد الغني حسن
قرطبة:
يحق للحضارة العربية الإسلامية أن تفخر بما كان لها في عدوة الأندلس من تاريخ مجيد، فلقد كانت الحضارة الشرقية الإسلامية في المشرق يقابلها حضارة إسلامية شرقية في المغرب، ولم يظهر في المشرق عالم جليل أو محدث كبير، أو شاعر شهير، أو فيلسوف حكيم، أو وزير له خطر، أو أمير له قدر، إلا ظهر في المغرب من يدانيه علماً أو ينافسه قدراً أو يزاحمه محلاً
فلقد وقعت المفاضلة بين ابن رشد والطوسي، وبين ابن زهر الحكيم وابن سينا، وبين ابن فرناس والفارابي، وبين ابن هانئ الشاعر والمتنبي، وبين ابن زيدون والبحتري، وبين ابن عبدون والأصمعي، وبين ابن مروان البصري والمعري، فقد كان الشبه بين النظيرين في الفن الواحد قريباً، وكان الفرق بين المتماثلين غير بعيد
وكان حظ المدن من تلك المفاضلة ونصيبها من تلك المقابلة حظ الأتاسي من أهل العلم والنظر والجلال والخطر؛ فهذه بغداد في الشرق على نهر دجلة، وتلك قرطبة في الغرب على الشاطئ الغربي من نهر الوادي الكبير
ولقد أتيح لكثير من المؤرخين في العصور التالية لسقوطها أن يزوروا تلك المدينة الضائعة في ذلك الفردوس الإسلامي المفقود. وزارها في العصر الحديث اثنان من أهل النظر والرأي والأدب والعلم. هما الأمير العربي المسلم الغيور شكيب أرسلان والكاتب المصري الرحالة محمد لبيب البتانونب - صاحب الرحلة الحجازية ورحلة الأندلس
ووصف كل من الكاتبين المدنية الإسلامية على حالها اليوم، ثم تطرق بهما الحديث إلى ذكر تاريخها وشئ من أحداثها، وذكر الجامع العظيم فيها
رأى البتانوني قرطبة في العقد الثالث من القرن العشرين الميلادي (سنة 1927) فلاحت أمام عينيه عربية المظهر، شرقية المنظر (وشكل مبانيها يكاد يكون عربياً صرفاً)
ورآها الأمير شكيب بعد ذلك ببضع سنوات، وقد طحنتها رحى الفتنة حين تأليفه كتاب الحلل، وغيرها حلول المصائب والأحداث، واتصلت الشدائد على أهلها فلم يبق منهم به وقت زيارته لها إلا الخلق اليسير
ولقد لفت حياء نسائها نظر البتانوني فأثنى عليهن ونعتهن بالاحتشام وغض البصر والإطراق إلى الأرض في غير تحديق إلى الرجال. والظاهر عندي أن ذلك الحياء حياء جميل يكاد يكون طبعاً في نساء الأندلس اليوم، فقد رأيت كثيراً من فتيات أسبانيا المتعلمات يفدن إلى جامعة (تور) بفرنسا لتعلم الفرنسية في عطلة الصيف، ورأيت منهن الحياء والعفة والبعد عن التبرج الممقوت الذي كنت أنعيه على نساء فرنسا، ورأيت منهن ما يؤيد قول البتانوني (ومع أن بلادهم حارة جداً لا تكاد ترى صدورهن عارية)
على أن هناك رحالة ثالثاً معاصراً تعرض لذكر الأندلس في كتابه (السفر إلى المؤتمر) وهو المرحوم احمد زكي باشا؛ إلا أن حديثه عن الأندلس جاء في عرض كلامه عن رحلة إلى المؤتمر، ولم يكن حديث الأصالة كما فعل الأمير شكيب والبتانوني
وأغلب المعلومات التاريخية التي أوردها الرحالتان مستقاة من نفح الطيب الذي اختص قرطبة في الجزء الأول بحديث طويل. ويروي المقري صاحب نفح الطيب عن ابن سعيد المغربي أو عن الشريف الإدريسي، أو عن الحضرمي
ومعتمدنا في كتابة هذا الفصل عن قرطبة على كتاب نفح الطيب الذي يعد بحق مرجعاً وافياً لتاريخ الأندلس
ولقد وصف كثير من العلماء (قرطبة) في أزهى عصورها وأجمل أيامها، ويستشهد (المقري) بأقوال هؤلاء العلماء، إلا أنه لا يذكر أسمائهم ولا يدلي بخبر عنهم، فهو يقول مثلاً: قال بعضهم، وقال بعض العلماء. . . وفي الوقت نفسه يذكر أسماء الأعلام منهم، أو الذين وصل إليهم علمهم، واشتهر عنده اسمهم: كالحجازي والحضرمي وابن سعيد والبكري
ولقد ذكر ابن سعيد عمارة قرطبة فقال: إن العمارة اتصلت بها في أيام بني أمية ثمانية فراسخ طولاً وفرسخين عرضاً، وذلك من الأميال أربعة وعشرون في الطول وستة في العرض، وكل ذلك ديار وقصور ومساجد وبساتين بطول ضفة الوادي الكبير.
وذكر آدم متز المستشرق في كتابه: (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري)، نقلاً عن ابن عذاري المراكشي صاحب كتاب البيان المغرب أن عدد الدور التي كانت بها للرعية دون دور الوزراء وأكابر أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر دار، وأن مساجدها ثلاثة آلاف: (الجزء الثاني من الحضارة الإسلامية ترجمة محمد عبد الهادي أبو ربدة ص 227).
ولقد بلغ من اتساع قرطبة وامتداد مساحتها واتصال العمران بها أن عدد أرباضها بلغ واحداً وعشرين ربضاً، وفي كل منها من المساجد والأسواق والحمامات ما يقوم بأهله ولا يحتاجون إلى غيره
وفي خارج قرطبة امتدت قرى كثيرة قدرها ابن سعيد بثلاثة آلاف قرية. وهو عدد إذا فرضنا أن المبالغة التاريخية قد ضاعفته، فهو يدل بغير شك على ازدحام القرى حول تلك العاصمة الإسلامية، كما تزدحم القرى الصغيرة والكبيرة حول (لندن) اليوم مثلاً، وتمتد إلى عشرات الأميال. وقد قدر لنا أن نرى هذه القرى اللندنية من أعوام خلت
وكان القرويون من أهل أندلس لا يقطعون ترددهم على قرطبة واختلافهم إليها في كل مناسبة صغرت أم كبرت، وكان أعظم ما يجذبهم إليها شهود يوم الجمعة للصلاة مع الخليفة والتسليم عليه ومطالعته بأحوال بلدهم
ولقد بلغت المنافسة بينها وبين بغداد حداً عظيماً، حتى لقد أحبها المؤرخون من أهلها، فحابوها بالوصف، كما يقول المرحوم شوقي: (ولكن من أحب الشيء حابى). . .
وحاول كثير من وصافها أن يلحقوها ببغداد في أيام عظمتها، حتى لقد زعم قوم من أهلها أنها كأحد جانبي بغداد، وإن لم تكن كأحد جانبيها فهي قريبة من ذلك
ولم تكن قرطبة خاملة الذكر وضيعة المحل قبل الفتح العربي ولكنها كانت عامرة فزادها الفاتحون من المسلمين عمراناً، وزادوها عظمة بما بنوا في ضواحيها من القصور الكبيرة أشباه المدن الضخمة (راجع تاريخ التمدن الإسلامي لجرجي زيدان جـ 5 ص 90)
ويغلب على الظن أن قرطبة قبل الإسلام كانت مما شيده القرطاجيون، ثم صارت تابعة للرومان سنة 152 ق. م إلى أن دخلها المسلمون، وجعلوها حاضرة الملك ومقر الأمارة، وحاولوا أن يخلعوا عليها من جلال الملك ما يدنيها من عواصم الشرق الكبرى، ولعبت المنافسة في ذلك الدور العظيم
وكان فيها نظام الطبقات البنائي كما حدث في القاهرة وفي بغداد وفي سامراء وفي دمشق وفي غيرها من العواصم. والواقع أن فكرة التقسيم بين الطبقان قديمة منذ الزمان الأول؛ فلقد كان في أيام الفراعنة قصور وأحياء للأشراف وأحياء للعامة
وقد عقد المرحوم جورجي زيدان موازنة بسيطة بيم دور الأشراف في روما إبان عمرانها وبين دور الأشراف في قرطبة إبان عمرانها كذلك، وكانت في الأولى ألفين - على ما رواه (جيبون) وفي الثانية أكثر من ستة آلاف - على ما رواه المقري نقلاً عن غيره
وأعجب ما في قرطبة من بدائع الفن وروائع الهندسة العربية آيتان: القصر الكبير والمسجد الجامع. أما القصر الكبير فكان مؤلفاً من 430 داراً كالكامل والمعشوق والمبارك وقصر السرور وغيرها
وكان في هذا القصر من العجائب الكثير سأل عنه ابن بشكوال فقال بعد كلام: (وفيه من المباني الأولية والآثار العجيبة لليونانيين ثم للروم والقوط والأمم السالفة ما يعجز الوصف، ثم ابتدع الخلفاء من بني مروان منذ فتح الله عليم الأندلس بما فيها في قصرها البدائع الحسان، وأثروا فيه الآثار العجيبة، والرياض الأنيقة، وأجروا فيها المياه العذبة المجلوبة من جبال قرطبة على المسافات البعيدة، وتمونوا المؤن الجسيمة حتى أوصلوها إلى القصر الكريم وأجروها في كل ساحة من ساحاته وناحية من نواحيه في قنوات الرصاص، تؤديها منه المصانع صور مختلفة الأشكال من الذهب الأبريز والفضة الخالصة والنحاس المموه، إلى البحيرات الهائلة والبرك البديعة والصهاريج الغريبة في أحواض الرخام الرومية المنقوشة العجيبة. . . وفي هذا القصر القباب العالية السمو، المنيفة العلو، التي لم ير الراءون مثلها في مشارق الأرض ومغاربها).
وقد بناه عبد الرحمن الداخل الأموي بعدما فر من الشرق ووطد لنفسه في الأندلس ملكاً، وزاد الأمراء من بعده عليه كلُّ على حسب طاقته. ومن المؤلم أن تتطاول يد الزمان وتمتد إلى قصور ذلك القصر وتقتلعها من أساسها، وتدكها من قواعدها، ولم يبق منها بعد مثولها للعيان، وكونها في الزمان، نقش ولا أثر، إلا أثراً يذكر وخبراً يسطر، وقصة تروى، وحديثاً لمن ألقى السمع
وقد اصطلحت على محو تلك القصور والدور عوامل من الزمن، ودوافع من الإحن والمحن. أما الزمن فقد تطاول، والبناء لا يبقى على التطاول، ولا يدوم على امتداد. وأما الإحن والمحن فقد اختلفت على قرطبة، وحدثت الثورات، وفتكت يد التخريب، وأصبح أهل قرطبة منذ عهد المرابطين عرضة للحوادث وغرضاً للشغب. وجاء المتعصبون من النصارى فحاولوا أن يزيلوا للإسلام كل أثر، وأن يدكوا للعرب كل قاعدة، وأن يهدموا من الحضارة العربية كل ركن؛ فزال البناء ومات البنَّاء، وبكى حين لا ينفع البكاء. وهل يرد الملك المضيَّع فيض الدموع، أو يعيد المجد المحطم وقد الضلوع؟ ولم يدم ذلك الجلال طويلاً. ففي القرن الخامس الهجري أخذ كل شيء ينذر بسقوط قرطبة. وقبل ذلك بزمن كانت هذه العاصمة الجميلة مسرحاً للفتن، وميداناً للمحن. وصار الخلفاء يولون ويعزلون في أجل قصير وأمد قريب. فتولاها في مدة يسيرة ستة من الأمويين، وثلاثة من بني حمود، مما انتهى إلى التفرقة والانقسام
وكان الأمراء يختلفون ويحتربون وتسيل دماء الناس على أيامهم. وقام العداء بين أمير وأمير، ومدينة ومدينة. ودارت الحرب بين طليطلة وقرطبة وظلت بضعة أعوام تتخللها معارك مضطرمة بين الفريقين، انتهت نهاية مؤلمة ومصيراً محزناً بالنسبة إلى قرطبة وحاكمها ابن جهور. فقد صاحب طليطلة بابن جهور وضرب الحصار على العاصمة القديمة للأندلس، ولم يرفع عنها إلا بعد أن أسيلت الدماء، وانهارت على إثر ذلك دولة بني جهور في قرطبة
ومن هذه الفتن أيضاً ما حدث بعد ذلك بقليل، فقد هاجم أهل طليطلة ومرتزقة قشتالة على غرة، فسقطت في أيديهم بلا مقاومة، ولكن نشبت بين الفريقين في الزهراء - مجمع القصور الملكية - معركة دموية دافع فيها الحرس عن القصور دفاعاً شديداً. وقتل ابن الأمير ابن عباد، ورفع رأسه على رمح وطيف به في شوارع قرطبة
ولم يطل ملك بني عباد، حتى تغلب عليه المرابطون سنة 481 فالموحدون سنة 539؛ وانتقصت أطراف هذا الفردوس الجميل شيئاً فشيئاً
(الحديث موصول)
محمد عبد الغني حسن