مجلة الرسالة/العدد 424/الشعر
→ كيف يكتب التاريخ | مجلة الرسالة - العدد 424 الشعر [[مؤلف:|]] |
الحروب الصليبية ← |
بتاريخ: 18 - 08 - 1941 |
ِعْر
للأستاذ بنيامين خليل
كثيراً ما قامت موازنات بين الشعر والتصوير؛ فقد قال (سيمونيدس) (الشعر تصوير ناطق، والتصوير شعر صامت). وقال (كوزن): (الشعر أول فن من الفنون الجميلة، لأنه يمثل غير المحدود خير تمثيل). وقال أيضاً: (ولو أن الفنون - إلى حد ما - بعضها بمعزل عن البعض الآخَر، فإن فناً منها قد انتفع بموارد جميع الفنون، ألا وهو الشعر. فمن الكلمات يستطيع صاحب القريض أن يصوغ صورة، أو ينحت تمثالاً، أو يحاكي المهندس المعماري في تشييد المباني. وفي مقدور الشعر أن يجمع بين عذوبة اللفظ والموسيقى. ففي الشعر كما يقولون تتلاقى جميع الفنون).
إن قصيدة عصماء معرض من الصور. ومما لا جدال فيه أن التصوير والنحت يعطياننا - عن شيء لم نره من قبل - صورة أكثر وضوحاً من أي قول أو وصف؛ ولكن إذا ما وقع الشيء تحت أنظارنا - تنعكس الآية - فنرى ثمة أموراً كثيرة يبرزها الشاعر أمامنا، وقد كنا لا نراها قبلاً في الشيء ذاته من تلقاء أنفسنا؛ فالفني هو الذي يصنع الأشياء واضحة كل الوضوح، أما الشاعر فهو الذي يخلق الأحداث والمعاني.
الشاعر العبقري مهبط الوحي والإلهام، ولذا نرى له حاسة فائقة لإدراك الجمال، وله مشاعر أدق من مشاعر معظم الرجال، مشاعر مضبوطة ضبطاً محكماً. قد يكون المرء شاعراً ولو لم يدرس شيئاً عن علم العروض؛ أما من يكتب شعراً رديئاً، أو حقير، فهو ليس بشاعر. لا يحيا الشعر ويدوم طويلاً إلا إذا كان شعراً حياً، إذ أن ما يصدر عن العقل والعاطفة ينسكب في القلب.
إن الشعراء والكتاب الذين يعدون في الطبقة الثانية سرعان ما تنقرض ذكراهم، ويتقلص ذكرهم، ويتوارى في زوايا النسيان؛ أما العباقرة منهم فأثرهم خالد إلى الأبد. ألم يعمر شعر حوالي 2500 سنة دون أن يفقد حرفاً من حروفه، أو مقطعاً من مقاطعه، على حين نرى قصوراً شاهقة وقلاعاً حصينة قد دمرت واتى عليها العفاء؟ أجل لا يتسنى لنا أن نحصل على تماثيل كورش والإسكندر قيصر، أو على صورهم الحقيقية، لأن الصور الأصلية لا تدوم، وما ينقل عنها تنقصه الحياة وتعوزه الحقيقة. أما الصور الذهنية لعبقرية الرج وعلمهم، فتبقى في الكتب بعيدة عن عبث الزمن متجددة في كل حين، وليس من الصواب أن نسميها صوراً لأنها تتوالد وتلقي بذورها في عقول الناس فتثير في الأجيال المتعاقبة أحداثاً وأراء لا حد لها
إذا كان اختراع السفينة فكرة نبيلة. . . تلكم السفينة التي تنقل الثروة والمتاجر من مكان إلى أخر، وتصل البلاد المتنائية بعضها ببعض فتتبادل محصولاتها - فما أحرانا أن نعظم الآداب التي تحاكي السفن في كونها تمخر عباب البحار، ولكنها بحار الزمن المترامية الأطراف، فتربط العصور المتوغلة في القدم، فينتفع كل عصر بحكمة العصور الأخرى وثقافتها واختراعاتها!
يحتاج الشاعر إلى مؤهلات كثيرة. يقول (كوزن) (من الذي وضع تصميم هذه القصيدة الغفل؟ وما الذي البسها الحياة والبهاء؟ الحب. وما الذي ارشد العقل والحب؟ الإرادة). ومن المسلم به أن لكل من الرجال قسطاً من الخيال، أما المحب والشاعر فمن الخيال قد خلقا كلاهما
إن عين الشعر ترنو في سمو وجلال، وتسبح من السماء إلى الأرض ومن الأرض إلى السماء؛ بينما خيال الشاعر يتصور الأشياء غير المنظورة، نرى براعته تصوغها في قالب فني جميل، تعين للعدم مكاناً وتعطيه اسماً
يقول (شيشرون) الخطيب الروماني الشهير في خطبته عن (اركياس): (أليس هذا الرجل جديراً بحبي، جديراً باعجابي، جديراً بكل ما أستطيع من وسائل دفاعي عنه؟ أننا قد تعلمنا عن اكثر الناس حكمة أن التربية والتعليم والمران تكسب المرء تفوقاً في أي فرع من فروع العلم غير الشعر. أما الشاعر فقد صاغته الطبيعة وأيقظته القوى العقلية، وأوحى إليه بما نسميه روح الإله نفسه). يقول أفلاطون: (الشعراء أبناء الإلهة ومترجموهم)
يرفع الشعر الحجاب عن جمال العالم، ويبسط على الأشياء المألوفة فيضاً من النور وهالة من الخيال. أن من يحب الشعر حباً حقيقياً لا يعجز عن إحراز قسط وافر من السرور بمظاهر الطبيعة التي لا يرى فيها محبوها إلا جمالاً، ولا يسمعون منها إلا أنغاما موسيقية. على أن الطبيعة - مع ما فيها من أنهار عذبة، وأشجار مثمرة، وازاهير أرجة عطرة - لم تبرز الأرض في حلة أبهى واجمل مما وصفها به الشعراء نرى الشاعر ينقلنا من المدينة التي تنعقد فوقها سحب الدخان بطريقة ساحرة - ينقلنا من جو ملبد بالدخان إلى الهواء الطلق، إلى الشمس الساطعة، إلى حفيف أشجار الغابات، إلى خرير المياه، إلى تلاطم الأمواج بالرمال - ويساعدنا الشاعر على نسيان هموم العيش ومتاعب الحياة كأننا مستغرقون في حلم من لذيذ الأحلام
يجب أن يكون الشاعر ذا معرفة لا بالطبيعة الإنسانية فحسب، بل بالطبيعة بأكملها اكثر مما يتصف به غيره من الرجال. اخبرنا (كراب روبنسون) أن رجلاً أستأذن في مشاهدة حجرة مكتب (وردسورث) فأجابته الخادم قائلة: (هذه حجرة مكتب سيدي، ولكنه يقوم بالدرس في الحقول)
ولنقدر الشعر حق قدره يجب ألا ننظر فيه نظرة سطحية، أو نقراه على عجل، أو نطالعه لكي نتكلم أو نكتب عنه، بل يجب أن يركز الإنسان عقله في وضعه الصحيح
أن كنوز الشعر التي لا تحصى في متناول كل منا؛ فقد يكون خير الكتب ارخصها، إذ بثمن كوب من الجعة أو قليل من تبغ، نستطع أن نشتري أحد مؤلفات شكسبير أو ملتون، أو عدداً من الكتب يفيد الإنسان من مطالعتها طيلة العام
وفي تعرف فائدة الشعر، لا نقصر نظرنا على أثره في الماضي أو الحاضر فحسب، يقول مستر ولم يقم ثمة من هو أحق بالكلام عن الشعر منه: أن مستقبل الشعر عظيم، فالفكرة في نظمه هي كل شيء، وما عدا ذلك فهو ضرب من الغرور. ففي الفكرة تمتزج العاطفة والشاعرية، فتصبح الفكرة حقيقة. إن أقوى عنصر في الدين في أيامنا هذه هو الجانب الشعري غير المحس فيه
قد سمي الشعر بحق: سجل اسعد الأوقات وخيرها لخير العقول وأكثرها هناءة. . . الشعر ضوء الحياة، بل هو نفس صورة الحياة، معبراً عنها بصدق أبدي. . . الشعر يخلد كل ما هو خير، وكل ما كان أية في الإبداع والجمال. . . وانه يزيل عن بصيرتنا الداخلية غشاوة الابتذال التي تخفي عنا عجائب الكون! ما الشعراء إلا مرايا لتلك الظلال الكبيرة التي يلقيها المستقبل على حاضرنا
وفي الواقع أن الشعر يطيل الحياة: انه يخلق لنا الوقت إذا قيس الوقت بتتابع الأفكار لا بعدد الدقائق. . . والشعر هو روح المعرفة لا يحده زمان ولا مكان بل يعيش في روح الإنسان. . . فأي مديح خير من أن يقال: أن الحياة يجب ن تكون شعراً مصوغاً في قالب عملي فني جميل
ترجمة بنيامين خليل
مدرس الآداب
بالأقباط الثانوية بالمنيا