الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 424/الحديث ذو شجون

مجلة الرسالة/العدد 424/الحديث ذو شجون

بتاريخ: 18 - 08 - 1941


للدكتور زكي مبارك

فرصة ذهبية لاختبار العزائم والأخلاق - قسم اللغة العربية

بكلية الآداب - أدفع الثمن يا جاحد - الموت في الرؤيا حياة

- إلى جيراني أوجه القول - تحية عراقية.

فرصة. . .

هي فرصة ذهبية لاختبار العزائم والأخلاق فاغتنموها قبل أن تفوت

وما تلك الفرصة؟ هي فرصة التنبه الشديد الذي يلازم النفوس والعقول عند اشتداد المكاره والمحرجات. ولا موجب للتذكير بما نعاني في هذه الأيام (البيض) وإنما الواجب هو التذكير بالقيمة الصحيحة لأمثال هذه الأيام في تأريث المشاعر والقلوب، فهي عندي أصلح الأيام للنضال في الميادين الأدبية والاجتماعية - بغض النظر عن الميادين السياسية - والرجل الذي يتبلد في هذه الأيام بحيث يقضي أوقاته في مضغ الحديث المعاد، هو رجل لا يصلح لشيء، وهو بمسلكه البليد يشهد على نفسه بفتور العزيمة وضعف الأخلاق

حين يأتي النذير بأن العالم معرض للدمار والهلاك - لا قدر الله ولا سمح! - ينقسم الناس إلى فريقين: فريق يسارع إلى انتهاب اللذات ليأخذ منها حظه قبل أن يموت، وفريق يستبق لي الأعمال الجدية ليواجه الموت وهو على أشرف حال، فإلى أي الفريقين تميلون، يا قرائي؟

كونوا كيف شئتم، ولكن المهم هو تذكيركم بأن الساعة من هذه الأيام قد تساوي سنوات بفضل ما فيها من التنبه والتيقظ، وبفضل ما تصنع في إرهاف عزائمنا وقلوبنا، وتلك فرص لا تسنح في كل يوم، فاغتنموها قبل أن تفوت، ثم اغتنموها قبل أن تفوت

لو كنا في حرب لدعوت نفسي ودعوتكم إلى الاستشهاد في سبيل الوطن الغالي، ولكن مصر لم تقرر إعلان الحرب، فلم يبق إلا أن ننتفع بالفرصة التي أتيحت بسبب تعرضنا لأخطار الحرب، بلا بغى منا ولا عدوان

والفرصة هي تلك اليقظة العقلية والروحية، اليقظة التي محت جميع الغفوات، وصيرت أعصابنا في وقدة الجمر الوهاج

لا يجوز أن تنقضي هذه الأيام بلا محصول نفيس يرفع رءوسنا بين كرام الشعوب، ولا يجوز أن نقف موقف المنتظرين لما تسفر عنه الأغداء الآتية، وهي أغداء مجهولة الألوان، ولا ينتظرها إلا أهل الغفلة والخمود

لا يجوز أن تقل أوقات العمل عن عشر ساعات من كل يوم، بالنسبة للضعفاء. أما الأقوياء فمن واجبهم أن ينتفعوا بجميع الأوقات ولو قهرتهم الغارات على اللجوء إلى ظلمات السراديب

هي فرصة للتخلص من الأمراض النفسية والروحية، فاغتنموها قبل أن تفوت

هل سمعتم بجهنم - أعاذكم الله من حر جهنم -؟

يقيم الآثم مدة في جهنم عقاباً على ما أجترح من السيئات، ولو أصغيت لوحي النزعة الصوفية لقلت: يقيم الآثم مدة في جهنم ليتطهر من الأوضار النفسية والروحية بحيث يصلح لمجاورة سكان الفردوس

ومكاره الحرب ليست عقاباً على أثام جناها المصريون - وهم نماذج في الرفق والتسامح - وإنما هي مِحن مطهِّرة سنقطف ثمارها بعد حين

والإقبال على الأعمال بشغف وشوق هو الذي يقصر أمد ذلك الامتحان، فأقيموا الدليل على الصلاحية لحياة البِر والمجد، ليرفع الله عنكم آصار الخوف، وليُذهب عنكم أوجال هذه الأيام

إن اللاهين واللاعبين لا يستحقون الحياة، فمن حق الأقدار أن تسلب منهم هذه النعمة حين تشاء

أما الذين يبذلون حياتهم في الأعمال الجدية صابرين مُصابرين، فلهم في الحياة شرف الكرامة، ولهم بعد الموت شرف الخلود

في كلية الآداب

قيل وقيل إن قسم اللغة العربية بكلية الآداب صائر إلى الزوال، مع أنه كان النواة لدوحة الجامعة المصرية؛ فما أغرب ما تصنع التقلبات بمصاير الشخصيات المعنوية في هذه البلاد! ويقال إن فكرة توحيد المعاهد التي تصوغ مدرسي اللغة العربية هي السبب في إلغاء ذلك القسم، فما تستطيع الدولة أن تحتمل الإنفاق على ثلاثة معاهد توصل إلى غرض واحد!

هو ذلك، يا مَن أقمتم البرهان على تبحركم في علم الاقتصاد! ولكن هل يوجد في الدنيا كلية آداب ليس بها قسم خاص بآداب اللغة القومية؟

لكم أن تنشئوا معهداً يتخرج فيه مدرسو اللغة العربية على المنهاج الذي تنشدون. . . أما اعتداؤكم على قسم اللغة العربية بكلية الآداب فهو جناية لا يُقدم على اقترافها رجل حصيف

وقد سمعت - وما أشنع هذا الذي سمعت - أن أساتذة كلية الآداب رحبوا بذلك الاقتراح اللطيف! (يشهد بذلك خطاب تلقيته من أحد المتخرجين في كلية الآداب، وإن كان بغير إمضاء، كأن صاحبه يخاف عواقب الجهر بالرأي الصحيح) أما بعد فهذه تجربة جديدة لأساتذة كلية الآداب، فإن أُلغي ذلك القسم وهم شهود فسيعرف القلم كيف يجزيهم أحسن الجزاء

كان يقال: إن من عيوب عهد الاحتلال أنه لم ير التعليم إلا وسيلة للتوظف، فكانت مكيدة لقتل المواهب المصرية

فأين أذناك، لأُسمعك صوت الحق، يا عهد الاستقلال؟!

وأين اليمين؟ أين اليمين؟ أي والله، فقد أقسمنا على الوفاء لكلية الآداب، وهي اليوم بلا ناصر ولا معين، فأين أبناؤها الأوفياء؟ كان الظن أن لا يلغى كرسي واحد من كراسي تلك الكلية، ولو كان خاصاً بدرس لغة الزنوج، فكيف يلغى قسم اللغة العربية؟ تلك أمور يحار فيها اللبيب

أدفع الثمن يا جاحد!

هذا مدرس (من شرق الأردن) كتب إليّ خطاباً بلغت كلماته 1500 بالتقريب، وإنما قدرت الكلمات لسبب سيعرفه بعد لحظات

وذنبي عند هذا المدرس أنني لم أف بما وعدت من بسط القول عن الحياة الأدبية في العراق، فقد سكتُّ بعد بضع مقالات. . . فهل غاب عنه أن الدنيا وقعت فيها أكدار صرفت القلم عما أعتزم المضي فيه، وأن من تلك الأكدار انقطاع البريد بين مصر والعراق؟؟ وما قيمة الكتابة عن الأدب العراقي وكان أهله في شغل بما عرف الناس، إلا ذلك المدرس الأديب؟!

انتظر، فقد نصل ما أنقطع بعد أسابيع

ثم أرجع إلى بيت القصيد فأقول: أن هذا المدرس أتعب نفسه بمناوشتي وهو يعتقد بأني لن أنشر خطابه في الرسالة ولن أرد عليه، فمن أين عرف أني أبخل عليه بالنشر والرد، إن اتسعت صفحات (الرسالة) لما يريد؟

لو فكر قليلاً لعرف أن من الخير للحياة الأدبية أن يكون فيها كاتب يثير بعض القراء إلى الحد الذي يسمح بأن ينفعل فيكتب مئات الكلمات باهتمام واحتفال: فكتابة 1500 كلمة في ساعة غضب توقظ العقل والذوق، وتروض الكاتب على الاصطلاء بنار الفكر والوجدان

وما قال أحد أنه يبغضني ويحقد على إلا اطمأننت إلى تبليغ رسالتي الأدبية، فأنا أخلق الفرص خلقاً لإذكاء نار الغضب والحقد في القلوب التي طال عهدها بالغفوة والخمود. . . وهذا الغاضب الحاقد لا يعرف كيف انشرح صدري لما صدر عن قلمه من غضب وحقد، فذلك شاهد جديد على أن جهودي الأدبية لن تضيع

إن هذا المدرس لا يعرف كيف خدمته حين أثرت عواطفه الغافية، وحين قهرته على الفزع إلى القلم والمداد والقرطاس، وحين فرضت عليه أن يقول ما يقول بألفاظ خفاف أو ثِقال!

ادفع الثمن، يا جاحد، ليرفع الله عنك أصر الجحود!

الموت في الرؤيا حياة

الأديب الفاضل السيد (كاشف) الذي كتب إلينا من (أعالي النيل) رأى في منامه حلماً أزعجه أشد الإزعاج، وكيف لا ينزعج وقد رأى أن أعظم أحبابه الروحيين قد مات؟

وأجيب بأن الموت في الرؤيا حياة، فله أن يطمئن كل الاطمئنان

والطريف في هذه الرؤيا أن الميت هو صاحب (النثر الفني) وأن السيدة التي كانت تبكي خلف نعشه اسمها (ليلى) وهذا الأديب يرجوني أن أفسر له هذا الحلم المزعج ليذهب خوفه وأساه. . .

ومن غريب المصادفات أن أقرأ في جريدة الدستور قبل أن أتسلم خطاب هذا الأديب بلحظة قصيرة كلمة مترجمة عن جندي ياباني، وهي:

(حلمت ليلة أمس أني فقدت أبي، وقد أخبرني أحد رفاقي أن هذا الحلم فأل حسن) والقول بأن الموت في الرؤيا حياة هو قول ابن سيرين، فاتفاقه مع العقيدة اليابانية دليل على ارتباط الأمم الشرقية بعضها ببعض في كثير من المعاني والآراء

أما بكاء (ليلى) خلف نعشي فهو شاهد على اعتزازي بمودة أهل العراق فهم أنصاري الأوفياء. أعزني الله بودهم الوثيق

إلى جيراني أوجه القول

لا تظنوا أن أعماركم سيضيع منها شيء أن أقللتم من الجزع وقت النذير بغارة جوية، ولا تتوهموا أن الأعداء عندهم من الذخائر ما يكفي لتقويض جميع البيوت، ولا يخطر في بالكم أن جنود السوء ستقصدكم بالذات، فهم يجهلون مواقع أرواحكم بالنهار وبالليل، ولعلهم يجهلون مواقع أرواحهم من وثبات القضاء

تلك كروب ستنجلي وستنكشف بعد أمد قصير أو طويل، ثم تعود الحياة إلى ما كانت عليه من الرخاء والصفاء

العاقبة للصابرين، يا جيراني، فلا تزعجوني بما أسمع من إمارات القلق والخوف، وقد أويت إلى سرداب البيت لادون بعض الملاحظات في أمان من اعتراض البوليس لا من اعتراض الموت، فالأعمال بيد الله يتصرف فيها كيف شاء

أكتب هذا وأنتم هرج ومرج، كأن صفارة الإنذار هي النفخ في الصور، وكأن الدنيا على شفا الزوال!

يكفي أن تراعوا نصائح وزارة الوقاية، تأدباً مع النظام، لا تخوفاً من الموت، ولتصنع الأقدار بعد ذلك ما تريد

لن يترك أحد من عمره دقيقة واحدة، ولو عرض صدره لقواذف الموت، فما جزعكم من كوارث لن تصيب إلا من كتبت عليه في سريرة الوجود؟

ثقوا، يا جيراني بأنكم باقون، إلى أن تنتهي الحرب بسلام، وثقوا بأن الاستهانة بالخطوب تفل أنياب الخطوب، واعرفوا جيداً أن الحياة لا توهب إلا لمن تصغر في نفسه قيمة الموت

ما هذا؟ تلك قهقهة عنيفة يصل دويها إلى اذني، وهي الإمارة على أنكم أصحاء النفوس والقلوب. جزاكم الوطن عن تلك القهقهة احسن الجزاء

تحية عراقية في صدر جريدة (الأحوال) البغدادية تحية موجهة إلى مجلة (الرسالة) بإمضاء (رفيع)، وقد وضعت التحية في إطار جميل يصور بعض مواقع السحر في بغداد

فماذا نصنع في رد تلك التحية؟

نقدم إلى قرائنا الأخبار الآتية:

أولاً - لم ألاحظ فيما يصل من جرائد ومجلات أمثال (الأحوال، الأخبار، والكرخ، والحضارة، وصوت الحق) أن العراق كان وقع في كروب بسبب الحرب؛ فالعراق هو هو، وروحه المعنوية لا يزال قوياً سليماً، اهتمام هذه الصحف بشؤون التعليم والاقتصاد لم ينله أي ضعف، فهي لا تلتفت إلى الماضي لتجتر ما وقع فيه من لاواء، وإنما توجه جهودها إلى المستقبل بعزيمة ومضاء، وكذلك يفعل عقلاء الرجال

ثانياً - وزارة الدفاع الوطني هناك تنشر الإعلانات من وقت إلى وقت في دعوة الشبان إلى الإقبال على الجندية، وهي ترغبهم بشتى الوسائل كان تقول أن مرتباتهم في أيام الدراسة بمختلف المدارس العسكرية ستكون على هذا الوصف أو ذاك، وأن حالتهم بعد التخرج ستكون على هذه القاعدة أو تلك، وأعظم وسيلة في نظر وزارة الدفاع هي تذكير أولئك الشبان بأنهم سيكونون حماة البلاد، وهذا روح يدل على الشعور بقوة الذاتية، ويبشر بمستقبل مرموق، حقق الله الآمال!

ثالثاً - في جميع النشرات التي تصدرها وزارة الدفاع نجد العبارة الآتية:

(يجب أن يكون الطالب عراقياً، وليس متجنساً)

ومن هذه العبارة نفهم أن الاتجاه الجديد في العراق يوجب أن يكون الجنود والضباط والقواد من دم عراقي سليم، ولهذا الاتجاه الجديد أسباب لا تخفي على أولي الألباب

زكي مبارك