مجلة الرسالة/العدد 421/للتاريخ لا للأدب
→ الحديث ذو شجون | مجلة الرسالة - العدد 421 للتاريخ لا للأدب [[مؤلف:|]] |
صفحة من كتاب ← |
بتاريخ: 28 - 07 - 1941 |
كارثة دمشق
للأستاذ علي الطنطاوي
(يا أيها العرب: إن أجبتم دمشق، فافهموا هذا الفصل بعقول جيوبكم، بعد أن تفهموه بعقول رؤسكم، واعلموا أن القليل إلى القليل كثير، والله يجزي والناس تشكر، والساعي في الخير كفاعل الخير، والصديق عند الضيق.)
- 1 -
عادت إلينا الرسالة بعد طول الغياب فيا أهلاً بها نجية النفس وسميرة الفؤاد، ويا مرحباً بمعادها - ويا ليتها تعود معها تلك العهود، حين كانت أقلامنا تجري طليقة من القيود - لم تصبغ بالدم ولم تجعل مدادها من سواد البارود. . . ويا ليت أني حين أكتب اليوم أقدر على اجتناب أحاديث الكوارث والهموم، فلا أقص على القراء أخبارها، وأصف آثارها، فأزيدهم كرباً على كربهم. وحسب الرجل اليوم همه، وما بلد إلا وفيه ما يغمه. . . وما تجمل بنا الشكوى، لولا أنها إلى أخ حبيب. ومن للأخ في الضيق غير أخيه؟ ومن للشام إلا مصر والعراق؟ ومن لمصر إلا العراق والشام، ومن تجمعه بها أخوة الجذم واللسان والإسلام؟ وكيف السكوت وما حل بدمشق ينطق بوصف هوله الجماد لو كان ينطق الجماد، وتفيض له أعين الصخر، لو بكى الصخر لذي مصاب. . .
- 2 -
كنا نذكر الحرب التي مضت وما حملت إلينا من الجوع والخوف والنقص في الأموال والأنفس والثمرات، وكيف كان الشعب يموت جوعاً لأن التجار الفجار قد احتكروا خبزه، فذهب من الناس من ذهب، لتمتلئ صناديق المحتكرين بالذهب، ثم لا يجد الأموات قبراً لأن الحرب لم تبق من الرجال من يقدر على حفر قبر. نذكر هذا كله ثم ننظر إلى هذه الحرب فنراها سلاماً علينا وأمناً لم نجع فيها ولم نعر، ولم تنل منا منالاً اللهم إلا ما نالت بأظافر التجار وأنيابهم، إذ جعلوا الواحد من ثمن الأشياء عشراً، وربما بلغوا ببعض الأثمان مائة ضعف. وما قلت السلع ولا تبدلت، ولكنه الطمع والجشع ورقة الدين وضعف الخلق! واستمر مرير الحرب، وانتشرت نارها ونحن لا نعرف مكانها إلا على السماع، وجعلت تطيف بلهبها بنا، وتدنو منا، فأمتد لسانها إلى مصر فجزعنا وأشفقنا وكنا مع المصريين بقلوبنا وألسنتنا، وما نملك لعمري إلا الألسنة والقلوب، ثم دنت منا فبلغ لهيبها العراق، فأقبلنا على العراق بقلوبنا وما جانبت مصر ولا تولت عنها تلك القلوب، ثم أصبحنا ذات يوم على صوت الراد (الراديو) يقول إن الحرب في (الكسوة) على أبواب دمشق، فنظرنا شطر القبلة فلم نجد على جبل (المائع) أثراً لحرب، فكذبنا وأنكرنا، فقال العارفون إن المعركة وراء هذا الجبال. وأكدوا ذلك ولكنا لبثنا مكذبين، فلم تكن إلا ليال حتى بدت في الأفق القبلي من دمشق ومضات المدافع وسمعنا أصواتها فصدقنا ما قال الراد، وأيقنا أن قد بلغتنا الحرب، ولكنا لم نكبرها ولم يصبنا الذعر منها، إذ لم تمسسنا نارها، ولا أحسسنا أوارها، ثم دنت منا النار، وانطلقت المدافع الثقال من قلاع (المزة) و (قاسيون)، فاهتزت لها دمشق ولكن أفئدة أهلها لم تهتز، فانطلقوا يؤمون (المهاجرين) يشرفون منها على المعركة وهي دانية منهم وأصواتها في آذانهم، وشظاياها عن أيمانهم وشمائلهم. وانهم لفي إشرافهم هذا، واجتماعهم في المهاجرين، عشية يوم الجمعة 20 يونية، يتحدثون في عرض الجيش المهاجم على المقاتلين في دمشق كف أذاهم عنها، وتركها (مكشوفة) كيلا تعبث بمحاسنها أيدي الحرب، فتجعل عامرها يبابا، وقصورها تلال؛، وكيف أبى المقاتلون فعرضوا دمشق بإبائهم للأذى، وما يعنيهم أذاها، ولا تهدم لهم (إذا هي تخربت) دار يفجعون في زوج ولا ولد! وكانت المعركة مشتدة هذه العشية، وكان الناس مزدحمين ينظرون بجهنم قد فتحت أبوابها وإذا القنابل قد ضلت طريقها فإذا هي تساقط على (المهاجرين) أجمل أحياء دمشق وأبهاها، فطار الفزع بألباب الناس، وكانت ساعة الهول التي يستعاذ بالله منها، وصار الناس كحالهم يوم القيامة، حين يجد المرء ما يشغله عن أخيه وزوجه وبنيه؛ فخلفوا الدور مفتحة الأبواب، واستلموا منافذ الطرق، مهاجرين إلى (الشام) يعتصمون بالاموي، ويقيمون في جواره بعيدين عن مواقع القنابل التي تحمل الموت والدمار. فلا ترى على الطرق إلا الناس مسرعين بوجوه شاحبة، وأعضاء من الخوف مضطربة. وربما خرجت المسلمة المخدرة مكشوفة الوجه، والمدافع تنطلق، والقنابل تتتالى وتتعاقب، كالغيث إذا انهمر. . . وكان أمر لا يوصف! - 3 -
ثم انسحب جيش، ودخل دمشق جيش، وأعلن استقلال سورية، وانتهت الحرب، فتنفس الناس الصعداء، وتذوقوا لذة الأمن بعد الخوف، ومن كان لجأ من الخوف إلى دمشق من سكان القرى المرزأة المروعة الذين أكلت الحرب دورهم وغلاتهم سكان: (الكسوة، والباردة، والأشرفية، وصحنايا، وسبنية، وسبينات، والقدم، وغيرها) من قرى الغوطة التي كانت تنعم بالأنس والدعة في ظلال الأشجار، فصارت صحراء قاحلة، لا شجرة فيها ولا دار. وديرا يا قرية العنب الديراني الذي تباهي دمشق المدن بلونه وطعمه ونبل حبته وجلال عناقيده واتساع كرومه؛ وجارتها المزة (جيزة دمشق) وأجمل ضواحيها، استعدوا للرحيل إلى دورهم ومساكنهم. . . يحسب المساكين أنها لا تزال لهم مساكن، ما دروا أن من هذه القرى ما لم يبق منه إلا أطلال ورسوم. . . وانطلق الدمشقيون الذين واسوهم في مصيبتهم، وآووهم في منازلهم يودعونهم بالحفلات والولائم. . . فاشتعلت الأحياء التي تحف بالأموي نوراً، وابتسمت سروراً: (القيمرية الكلاسة، وباب السلام، وباب البريد، وسيدي عامود)، حتى ليحسبها الرائي ترقص طرباً، وما بها لو حققت من طرب. وفيم الطرب؟ ولكن مواساة للمنكوبين، وتطييباً لقلوبهم، وإظهاراً للرضا بانطفاء نار الحرب، وحمداً لله على ما لطف وسلم، فكانت ليلة الأربعاء (25 يونية)، كأنها من ليالي الأعياد. . .
وكان أسبق الأحياء في هذا المضمار (الكلاسة)، هذا الحي الرابض بين الحرمين الأقدسين: مسجد بني أمية الجامع، ومدفن البطل صلاح الدين (آخذ الدنيا ومعطيها)، كأنما سرى في أهله روح من روح صلاح الدين، فظهرت على أيدي أهله مدهشات الشهامة والكرم، حتى لقد آوى رجل منهم واحد سبع أسر في داره، وأولاهم من بشاشة وجهه وفضل ماله ومسكنه ما لا يمتد إلى اكثر منه جهد مثله. . .
- 4 -
نام الناس هذه الليلة التي حسبوها من ليالي الأعياد آمنين لا يخافون الحرب وقد انطفأت نارها، ينتظرون بآمالهم الغد القريب ليحمل إليهم السلام والرخاء. فلما كانت الساعة الرابعة (إلا ربعاً)، ومآذن دمشق المائة والسبعون تصدح (بالتراحيم) الأخيرة، ولم يبق دون الفجر إلا قليل، والليل ساكن سكون السحر الفاتن العميق. . . وإذا برجة لا توصف قلقت البيوت فذهبت بها وجاءت كأنها الزلزال العظيم، لولا أنها اقترنت بصوت أفاق منه الناس، وإن أجلدهم ليضطرب في فراشه اضطراب السمكة خرجت من الماء، ثم أعقبتها رجتان، ثم جاءت رجة أنست الناس الأوليات فحاروا وذهبت المفاجأة بألباب ذوي اللب منهم وخرجوا من بيوتهم يتراكضون، وما لأحدهم وجهة ولا مقصد. . . ثم انجلت الحال، فإذا هي طيارة لا يدري أحد موردها ولا مصدرها. . . ألقت قنبلتها الأولى على أكواخ في مزرعة عند (جسرتورا) فيها ثلاث أسر في كل أسرة منها أكثر من عشرة أشخاص، فأبادت الجميع، وما ثمة مطار ولا ثكنة ولا شيء مما يصح ان يكون لقنابل الطائرات هدفاً، وألقت الثانية على (باب السلام) من أسفل (الجزيرة) فهدمت أربع عشرة داراً (لا شقة)، والثالثة وقعت على الكلاسة فأبادت الحي كله؛ ولو زاحت عن موقعها عشرة أمتار من هنا أو هناك، لطارت بمأذنة العروس أو بقبر صلاح الدين، ورمت الأخيرة في الحي الجديد في (سيدي عامود)، الذي لم يكد يبنى بعد خرابه، حتى حمل إليه الدمار في الثانية من حمله في الأولى، وما في كل ما دمرت الطائرة ولا في جواره ولا قريباً منه شيء من المصانع والمواقع العسكرية البتة
وقع ذلك كله في أقل من خمسين ثانية، لم يمتد إلا ريثما اجتازت الطيارة من أول المدينة القديمة إلى آخرها، ثم توارت في الظلام كما خرجت من الظلام. . .
- 5 -
أسرعت مع من أسرع إلى مطرح القنابل وبدأت من (سيدي عامود) فإذا القنبلة قد سقطت في وسط الطريق في ميدان صغير يتقاطع فيه شارعان، فاحتفرت حفرة هائلة، وتطايرت قطعها وشظاياها، فأصابت أربع عمارات جديدة مترعة بالسلع التجارية القيمة فضعضعتها وهدت أركانها وأدخلت بعضها في بعض، وأبادت كل ما كان من سلعة ومتاع، وأفقرت أسراً الله اعلم بعددها، وحطمت القنبلة كل زجاج الحي، وقتلت رجلاً وامرأتين - وذهبت من بعد إلى (الكلاسة) فإذا هذا الحي الآمن بأمان المسجد، القائم في حمى صلاح الدين، قد غدا تلاً واحداً كالقبر العظيم كأنه لم يكن منذ ساعات يبسم للحياة ويبسم له المجد، وكأنه لم يكن منزل الكرام الصيد المحسنين. . . وكان الناس مزدحمين يعملون مساحيهم في هذه الأنقاض فيكشفون عما تتفطر لهوله القلوب، ويلقون من غرائب الحياة ومآسيها ما يخجل أكبر القصاص ويدفعه إلى حطم القلب، والنساء يولولن يسألن عن زوج ضائع أو ولد مفقود ويقعن على أرجل الكشافة والفعلة وأصحاب المساحي يسألنهم الإسراع بالكشف عمن افتقدن من أقربائهن، ومنهن من تقبل على التراب تنبش بيديها وهي تعد الدقائق والثواني تتصور الموت جاثماً على صدر من تحب، فإذا رأت أنها لم تصل إلى شيء وهالها الأمر، جن جنونها فأقبلت تلطم وجهها وتشد شعرها. والرجال. . . لم يكن الرجال بأجلد من النساء
وكيف يتجلد الرجل ويصبر وحبيبه تحت الأنقاض وكلما مرت لحظة دنا من الموت باعاً، كيف يصبر وهو يظن أن في يده حياته، وكيف يعيش من بعده إذا توهم أنه هو الذي قتله بتقاعسه عن إسعاده؟
إن الذي رأيت في الكلاسة من الفواجع والمآسي لا يقدر على وصفه لسان ولا قلم، والحفارون خلال ذلك يخرجون جثة من هنا وجثة من هناك، فينادون عليها ليعرفها من يعرفها. ولقد وجدوا جثثاً مشوهة لم يعرف أصحابها، ووجدوا ساعداً مبتوراً لم يدر من صاحبه. . . وهذه امرأة حديثها عجب من العجب؛ فقد كانت تنام بين ولديها فلما سمعت الرجفة نهضت وكل عرق منها يرتجف كأنه ريشة في مهب الريح فوجدت الظلام من حولها دامساً طامساً، فمدت يديها تتلمس ولديها فوقعت على الرضيع ولم تقع على الأخر، فتحسست مكانه فإذا يدها على جذع من الخشب وسط تراب منها، فنهضت كالمجنونة فاصطدم رأسها بشيء قريب حسبته السقف فازداد جنونها ولم تدر أهي في يقظة أم في حلم، فأخذت بيد ابنتها التي ما ينقطع بكاؤها وقبعت في فراغ وجدته. وكان ينتهي إلى سمعها صدى طرقات بعيدة كأنها آتية من قرار سبع آبار، ثم رأت حين ألفت عيناها الظلمة، كأنما هي في مغارة من مغارات الجن لا باب لها ولا كوة، ثم أنها من ضيقها كالقفص، فأقبلت تضرب بيديها ورأسها، والتراب يتساقط عليها حتى وجدت بصيصاً من النور، وازداد صوت الطرق وضوحاً في أذنيها، وتسرب إليها الهواء بعد أن كادت تختنق، فأغمي عليها ولم تفق إلا في المستشفى ورضيعها إلى جنبها، وولدها الآخر وزوجها تحت الأنقاض.
وهذا هو الأستاذ المصور (أ. . .) يفتش عن ولده الحبيب، وقد جحظت عيناه من الذعر، وتبدلت حاله، وصار لون خديه كقشرة الليمون، وهو يستحث الحفارين، ويضرب بيديه التراب. . . هنا ابنه، ولده الحبيب! يا أيها الآباء! جاء به من المهاجرين يوم الروع ليودعه المكان الآمن عند جدار المسجد، عند قبر صلاح الدين. ومرت ثلاث ساعات كانت عليه وعلى المشاهدين كأنها ثلاثة عصور؛ ثم انكشف الردم عن نصف غرفة وإذا الولد فيها وهو حي، لكن ذراعه تحت الردم، وهو يصرخ: أبي، ارفعني، ارفعني يا أبي. فلما سمع الأب صوته وثب إليه يعانقه وهو يبكي، وكل عين ثمة تبكي. . . ولكن كيف يرفعه وفوق ذراعه كل تراب؟ وأقبلوا ينقلون التراب والولد يصيح صياحاً جعل أباه يفكر بإنقاذه ولو بقطع يده، أسمعتم؟ وانهم لفي ذلك وإذا بجذع يهوي على رأس الصبي فيقتله حالاً.
وهاهنا طفل رضيع يجدونه حياً يمتص من ثدي أمه الميتة. حقائق لو كانت خيالاً لكانت من أغرب الخيال
ولما انصرفت من (الكلاسة) أخذ بيدي صديق لي وأنا لا ابصر من الأسى والحزن طريقي فقال: إن ما رأيت ليس بشيء. إن أحببت أن تنظر إلى أفظع عدوان وأشقى ضحية وأروع مشهد، فتعال معي إلى باب السلام، فلقد أخرج منه إلى الآن (الضحى) سبعة وعشرون قتيلاً، فنترت يدي منه ولم أجب!
- 6 -
وانجلت الغارة عن ثمانية وعشرين منزلاً أضحت خرائب وتلالاً وواحد وسبعين قتيلاً. ثلاثة أرباعهم من النساء والأطفال، ونحو خمسين جريحاً لا يكاد يعيش منهم أحد، ما قتل هؤلاء في المعركة الحمراء ولا سالت نفوسهم على ظُبي الأسنة، وشفرات السيوف. . . ولو واجههم العدو في حومة الوغى لوجدهم فرسانها وسادتها، ولكنه أخذهم غدراً وعدا عليهم وهم آمنون في فرشهم فأخذ الرجل من جنب زوجته وولده، أو قتلهم جميعاً لم يتورع عن قتل النساء، ولا عن ذبح الذراري، ولم يكسر عليهم الأبواب ويدخل دخول الغاصب القوي، ولكنه مر في السدفة الحالكة مرور اللص الجبان، فراغ عن مواطن الجندية ومنازل الكماة لأنه ليس من أكفائهم، وتخير هذه البقع الآمنة حول بيت الله فصب عليها كل ما في النفوس الشريرة من خسة ودناءة، ولعله أراد بنيرانه بيت الله، أو لعله أراد بها قبر السيد الذي علم قومه كيف يكون النبل
فيا رحمة الله على النبل وأهله، وسلام على هذه الأرواح الطاهرة، وعلى الظالمين لعنة الله
علي الطنطاوي