الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 421/المأموني الشاعر

مجلة الرسالة/العدد 421/المأموني الشاعر

بتاريخ: 28 - 07 - 1941


للدكتور عبد الوهاب عزام

- 1 -

ذكرت من قبل طرفاً من أخبار أبي المظفر الأبيوردي الشاعر القرشي الأموي وسميته (شاعر العرب في القرن الخامس) إذ كان يعرب عن أخلاق العرب وعاداتهم، ويبين عن آمالهم وآلامهم.

واذكر في هذا المقال شاعراً آخر من بني الخلفاء عرف باسم المأموني، ينتهي نسبه إلى الخليفة المأمون بن الرشيد رضي الله عنهما.

وأقدم قبل الحديث عن هذا الشاعر أن ما نعرفه عن أخباره مأخوذ عن الثعالبي صاحب يتيمة الدهر. وإنما يروي الثعالبي أخبار هذا المأموني في الري ونيسابور وبخارى، اي في خراسان وما وراء النهر. ويحدثنا هذا المؤلف الكبير عن شاعر آخر من بني الخلفاء يسمى الواثقي، من بني الواثق بن المعتصم ابن الرشيد، ويروى من أنبائه في تلك الأقطار أيضاً. ويخبرنا انه كان ببخارى إذ ذاك جماعة من بني الخلفاء العباسيين تجري عليهم الأرزاق، منهم: ابن المهدي وابن المستكفي. وإن قارئ هذه الأخبار ليعجب ويتساءل لماذا يذهب بنو الخلفاء إلى خراسان وما وراء النهر في طلب الرزق؟ وأن جاز أن يضطر إلى هذه الرحلة أبناء الخلفاء الذين بعد الزمن بينهم وبين الخلفاء من آبائهم كأبناء المهدي والمأمون والواثق، فكيف أدركت الضرورة ابن المستكفي وقد لبث المستكفي في الخلافة إلى سنة 334، فما مضى نصف قرن من خلافته إلى الزمن الذي يحدثنا بأخباره الثعالبي؟

ومرد هذا في رأيي إلى أمرين: الأول أن استيلاء البوبهيين على العراق عام 334 - وهي السنة التي خلع فيها المستكفي، وبأيديهم خلع - ذهب بهيبة الخلفاء وثروتهم، وأورث أبنائهم الفقر العاجل، وكان بنو بويه يتشيعون ولا يؤمنون بخلافة العباسيين

والثاني أن بني الخلفاء كانوا يلقون حفاوة وإكراماً في تلك البلاد، وان أمراء السامانيين ووزرائهم كانوا يمنحونهم من التعظيم والبر ما يحبب إليهم ركوب الأسفار البعيدة إلى تلك الديار النائية؛ والسامانيون كانوا يدينون بالطاعة لبني العباس ويؤمنون بخلافتهم

- 2 - وأما المأموني فيحدثنا عنه الثعالبي أنه فارق وطنه بغداد وهو حدث إلى مدينة الري، فامتدح الصاحب بن عباد بقصائد أعجبته فأكرم مثواه وقربه. يقول الثعالبي: (فدبت عقارب الحسد بين ندماء الصاحب وشعرائه، وطفقوا يركبون الصعب والذلول في رميه بالأباطيل، ويتقولون عليه اقبح الأقاويل، فطوراً ينسبونه إلى الدعوة في بني العباس، ومرة يصفونه بالغلو في النصب واعتقاده تكفير الشيعة والمعتزلة، وتارة ينحلونه هجاء في الصاحب يعرب عن فحش القدح، ويحلفون على انتحال ما اصدر من شعر في المدح، حتى تكامل لديهم إسقاط منزلته لديه، وتكدر ماؤه عنده عليه. وفي ذلك يقول قصيدة يستأذنه فيها للرحيل:

فكنت يوسفَ، والأسباط هم وأبا ... الأسباط أنت ودعواهم دماً كذبا

وعصبة بات فيها الغيظ متقداً ... إذ شدت لي فوق أعناق العدا رتُبا

أرى مآربكم في نظم قافية ... وما أرى لي في غير العلى أرباً

فارق المأموني الري إلى نيسابور، وفيها حينئذ أبو بكر الخوارزمي الكاتب المعروف، فأشار عليه الخوارزمي بإنشاء قصيدة في الشيخ أبي منصور كثير بن احمد يسأله فيها تقرير حاله عند صاحب الجيش أبي الحسن بن سيمجور - وبنو سيمجور من ولاة الدولة السامانية وقوادها - فأنشأ المأموني القصيدة وابلغها الخوارزمي الشيخ كثيراً، وحسنها لديه وأثنى على هذا الشاعر الشاب. فوقعت القصيدة ممن أهديت إليه موقعاً حسناً، وفي هذه القصيدة يقول:

إلى الله أشكو مُنًى في الحشى ... تضُمن جنبايَ منها سعيراً

تُفارق بي كل يوم خليلاً ... وتفجع بي كل يوم عشيرا

فإن تسألانِيَ يا صاح ... بي نص السُرى تجداني خبيرا

ففي كل يوم تراني الركا ... بُ أفارق ربعاً واحتل كورا

إذا سرت عن صاحبي قلتُ عُ ... دَّ لعَودي السنين وخل الشهورا

أراني ابن عشرين أو دونها ... وقد طبّق الأرض شعري مسيرا

إذا قلت قافية لم تزل ... تجوب السهول وتطوى الوعورا

ولو كان يفخر ميت بحي ... لكان أبي هاشمٌ بي فخورا ولو كنت أخطب ما استحق ... لما كنت أخطب ألا السريرا

ولو سرتُ صاحت ملوك البلا ... د بين يدَيَّ النفير النفيرا

ولكنني مكتف باليسير ... إذا سهّل الله ذاك اليسيرا

ويتبين في هذه القصيدة نشوة الشباب، وفخر الشاعر بآبائه واستحقاقه الملك كما تتبين قناعته ورضاه باليسير، وما طموحه وقناعته ألا من التناقض بين الانتساب إلى المأمون والمدح والعطاء.

أنهى الشيخ كثير أمر هذا الشاب العباسي الشاعر إلى صاحب الجيش.

يقول الثعالبي: (فلما وقف على صورة حاله أنهاها إلى صاحب الجيش فاستدعاه. وحين وصل إليه، استقبله بخطوات مشاها اليه، وبالغ في إعظامه وابلغ في إكرامه. ثم خيره بين المقام بنيسابور وبين الانحدار إلى الحضرة ببخارى - يعني عاصمة الدولة السامانية - فاختار الخروج فوصله وزوده من الكتب إلى وزير الوقت وغيره من الأركان)

رحل الشاعر الشاب عن نيسابور ميمما بخارى فابلغه إليها سفر طويل شاق؛ وكأنه يصف هذا السفر في أول قصيدة أنشأها في بخارى مادحاً أحد رؤسائها أبا الحسين عبد الله بن احمد:

وليل كأني فيه إنسان ناظر ... يقلب في الأفاق جفنيه داميا

إذا ما أمالتني به نشوة الكرى ... تمايل في كفي المثقف صاحيا

وأمّا طما لُجّ المنى بين أضلعي ... تعسَّفت لجا من دجى الليل طاميا

فأمسى شجا في ظلمة الليل دالجا ... وأضحى قذى في مقلة الصبح غاديا

أحسن أبو الحسين وفاده ابن المأمون، وبلغ الغاية في إكرامه. يقول الثعالبي:

(فتقبله بكلتا اليدين واعجب منه بفتى من أولاد الخلافة يملأ العين جمالاً والقلب كمالاً)

وواصل صلاته، وخلع عليه، وألحقه في الرزق السلطاني بمن كان هناك من أولاد الخلفاء: كابن المهدي وابن المستكفي وغيرهما. وتتابع الوزراء على إكرامه، فكان كلما دالت الدولة لوزير نافس من تقدمه في الحفاوة والبر به

يقول الثعالبي: (وجعل كل منهم يربى على من تقدمه في الإحسان إليه، وإدرار الرزق عليه، وإخراج الخلع السلطانية والحملانات بمراكب الذهب، حتى حسن حاله، وتلاحق ماله، وظهرت مروءته). وكان هو لا يألو في شكر أياديهم بقصائد يكافئ فيها نعمهم، فلبث في بخارى حقبة مغتبطاً راضياً

ومن قصيدة له في مدح ابن عزيز أحد وزراء بخارى:

أعبدَ الله لا خُيرتُ بيتاً ... مدى الأيام ألا في علاكا

فكم لك من يد قلدتنيها ... فلست أرى لها عني فكاكا

ولو حَمّلتَ ما حَملتَنيه ... شَمامِ لما استطاع به حراكا

وقد ألبستني أثواب عزَّ ... وقد أَوطأتَ أخمصىَ السَّماكا

فحسبك من عُليً أعليت كعبي ... برفعكه، فقد بلغ السَكاكا

قال أبو منصور الثعالبي: (رأيت المأموني ببخارى سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وعاشرت منه فاضلاً ملء ثوبه، وذاكرت أديباً شاعراً بحقه وصدقه، وسمعت منه قطعة من شعره، ونقلت أكثره من خطه: وكان يسمو بهمته إلى الخلافة، ويمني نفسه قصد بغداد في جيوش تنظم إليه من خراسان لفتحها، فاقتطعته المنية دون الأمنية. ولما فارقته لم تطل به الأيام بعدي حتى اعتل علة الاستسقاء، وانتقل إلى جوار ربه، ولم يكن بلغ الأربعين. وذلك في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة).

ويصدق الثعالبي فيما حدث عن همة هذا الفتى وبُعد أمله وطمعه في الخلافة، شعر له ينطق عن هذه الهمة وهذا الأمل، ويعرب عن ثقة الرجل بنفسه واعتداده بها. يقول في قصيدة أنشأها في بخارى:

أنا بين أحشاء الليالي نار ... هي لي دخان والنجوم شرار

فمتى جلا فجر القضاء ظلامها ... صليِتْ بي الأقطار والأمصار

بي تحلم الدنيا وبالخبر الذي ... لي منه بين ضلوعها أسرار

فبكل مملكة عليَّ تلهُّف ... وبكل معركة إلي أوار

يا أهلُ ما شَّطت برحلي رحلة ... ألا لتسفر عني الأسفار

لي في ضمير الدهر سر كامن ... لا بد أن تستله الأقدار

- 3 -

وأما شعر المأموني فوسط لا يسمو إلى الذروة ألا قليلاً. وقد اثبت صاحب اليتيمة له قصائد قليلة وقطعاً كثيرة أكثرها في وصف الأزهار والفواكه والأواني والأطعمة. وقد صدرها المؤلف بقوله: (وهذا ما اخترته من شعره في الأوصاف والتشبيهات التي لم يسبق إلى أكثرها).

فأما قصائده فمنها قصيدة في مدح الصاحب إسماعيل بن عباد مطلعها:

يا ربع لو كنت دمعاً فيك منسكباً ... قضيت نحبي، ولم اقض الذي وجبا

لا ينكرون ربعك البالي بلى جسدي ... فقد شربت بكأس الحب ما شربا

ولو أفضت دموعي حسب واجبها ... أفضت من كل عضو مَدْمعاً سرَبا

عهدي بعهدك للذات مرتبعاً ... فقد غدا لفؤادي السحب منتحبا

وهذه أبيات تذكر بقصيدة المتنبي التي أولها:

دمع جرى فقضى في الربع ما وجبا ... من حقه وشفى أنَّي ولا كربا؟

وكأنه أراد بمطلعه مناقضة مطلع المتنبي. ومحاكاة المتنبي في الوزن والقافية تظهر في قصائد أخرى. وكان المتنبي شاعر القرن الرابع، وقد ولد المأموني في أواخر حياة أبي الطيب، والزمان يدوي بذكره ويصدق قوله:

وما الدهر إلا من رواة قصائدي ... إذا قلت شعراً أصبح الدهر منشدا

وللمأموني قصيدة أخرى يمدح بها أحد وزراء بخارى أولها:

سيخلُف جفني مخلفات الغمائم ... على ما مضى من عمري المتقادم

بأرض رواق العز فيها مطنَّب ... على هاشم بين السُّهى والنعائم

يدين لمن فيها بنو الأرض كلهم ... وتعنو لهم صيدُ الملوك الأعاظم

ويهماَء لا يخطو بها الوهم خطوة ... تعسَّفتها بالمرقلات الرواسم

وقد نشرت أيدي الدجى من سمائها ... رداء عروس نّقطت بالدراهم

فخلنا نجوماً في السماء أسِنَّة ... مذّهبة ما بين بيض صوارم

وأظنه حاول فيها محاكاة أبي الطيب في قصيدته التي مدح بها ابن طغج:

أنا لائمي إن كنت وقت اللوائم ... علمت بما بي بين تلك المعالم

وأخرى من قصائده في مدح أبي نصر أحد وزراء بخارى ووصف دار بناها، أولها:

قد وجدنا خُطى الكلام فِساحاً ... فجعلنا النسيب فيك امتداحا وهو مطلع يذكر بقول أبي الطيب:

وقد وجدت مجال القول ذا سعة ... فإن وجدت لساناً قائلاً فقل

ومما وصف به الدار:

بَهوها يملأ العيون بهاء ... صَحنها يملأ الصدور انشراحا

شِيدُها فضة، وقرمدها تِبْ ... ر قد امتيح من نداك امتياحا

وثراها من عنبر شيب بالمس ... ك فإن هبَّت الصِّبا فيه فاحا

كل ناد منها قد اتشح الفر ... شُ بثوب الربيع فيه اتشاحا

صبغة من دم القلوب فمن أب ... صره اهتز صبوة وارتياحا

ما بكاء الرياض بالطل إلا ... خجلاً من رياضها وافتضاحا

شابه النقشُ فرشها مثل ما ... شابه ولدانها دُماها الصباحا

وكأن الستور قد نشر الطا ... وس منها في كل باب جناحا

وكأن الجامات فيها شموس ... أطلعتها ذٌرى القباب صباحا

هذا حديث فتى من بني الخلافة بعيد الهمة طماح، وشاعر من الشعراء الأمراء الذين تشرق أقوالهم في جوانب الأدب العربي ذكراً للهمم العربية والأدب والبلاغة، أدب النفس واللفظ، وبلاغة الأفعال والأقوال.

عبد الوهاب عزام