مجلة الرسالة/العدد 42/النقد
→ شهر بالغردقة | مجلة الرسالة - العدد 42 النقد [[مؤلف:|]] |
ديوان الينبوع ← |
بتاريخ: 23 - 04 - 1934 |
شهرزاد
للدكتور محمد حسين هيكل بك
وأقصد بشهرزاد التي أتحدث الآن لقراء الرسالة عنها، مسرحية توفيق الحكيم الأخيرة
تلوتها للمرة الأولى فاغتبطت، وتلوتها للمرة الثانية فأعجبت، ثم جعلتها بعد ذلك سمير أويقات السأم، أتلو فيها بعض صحف من منظرها الثالث أو من منظرها الأخير، فأستريح للتلاوة وأبرأ من سأمي
ترى أيرجع الفضل في ذلك إلى فن الأستاذ توفيق الحكيم، هذا الفن الذي يقصد به لوجه الفن وحده، أم يرجع لما ينطوي عليه اسم شهرزاد من سحر قديم، سحر رد الملك شهريار عن قتل العذارى ألف ليلة وليلة، وأوحى بموسيقى شهرزاد الرائعة، وأصبح علامة على ما يجري في الظلام وتحت ستر الليل، وجعل المتحدثين يسكتون عن الكلام المباح كلما جل الأمر ودهي الخطب.
أريد أن أقنع بأن الفضل في اغتباطي ثم في إعجابي يرجع إلى فن الأستاذ توفيق الحكيم، هذا الفن الحديث الذي يجاري أحدث أطوار الفن في أوربا، مما تتبعنا نحن ولم نتمثل. وأقصد بنا نحن الذين تمثلوا الفن القصصي أو للفن المسرحي أو ما سواهما من صور الفن الغربي قبل الحرب. أما ما بعد الحرب فقد تتبعنا إلى حد أطوار الفن، ولكن ما دهمنا من مشاغل طغى على تمثيلنا إياها، وقد تنقل الفن بعد الحرب في أطوار شتى كان الأستاذ توفيق الحكيم مأخوذاً في تيارها أثناء مقامه بباريس، فلا عجب أن يتمثلها بل أن تتمثله، ولا عجب وله في الأدب المسرحي ما له من مواهب أن تدفعه ليخرج للناس مسرحيتيه أهل الكهف وشهرزاد.
وأنت تقرأ شهرزاد وتعيد قراءتها وتغتبط وتعجب ثم تسائل نفسك: ماذا فيها وما هي الفكرة التي تنطوي عليها؟ وقفت أمام سؤالك نفسك ولا تكاد تحير جواباً. بل لعلك تجد الجواب إذ تطرب بعد ذلك لسماعك لحناً من الموسيقى تهتز له جوانب فؤادك، وتشيع له الغبطة في أنحاء نفسك، ثم تسأل: ماذا في هذا اللحن وما هي الفكرة التي ينطوي عليها؟ وتستطيع أن تجيب بعد ذلك لا شيء ولا فكرة، وإنما هو الفن يغذي النفس بالغذاء الروحي الذي تصبو إليه في الساعة التي تنال فيها هذا الغذاء. وتستطيع أن تجيب بأن في هذا اللحن كل شيء وأسمى فكرة، وأنه يتناول أجل ما في الحياة من معان وصور.
وذلك شأن مسرحية شهرزاد، فلا شيء ولا فكرة فيها وفيها كل شيء وكل فكرة. فالملك شهريار الذي قتل زوجه الأولى وقتل معها العبد الذي وجده في أحضانها قد أقام يقتل عذراء في كل ليلة انتقاماً لنفسه من غدر النساء، حتى تزوج شهرزاد، لكنه لم يقتلها لأنها بدأت تقص عليه أحسن القصص ولا تتم قصتها إذا كان الصباح. وتعود إليها إذا جن الليل، حتى انقضت ألف ليلة وليلة، وشهرزاد لم تكن إلى يومئذ تبلغ العشرين. كيف لها إذن أن تعرف كل هذا الذي تقصه؟ وكيف تراها وهي تعرف ذلك كله لا تريد أن تبوح لشهريار بسرها وسر الطبيعة وسر الكون كله. هذه مسرحية توفيق الحكيم من أولها إلى آخرها، هي كما ترى لا شيء ولا فكرة فيها. ولكن لا، ففيها كل شيء وكل فكرة، استمع إليه حين يصور هذه الفكرة الأساسية التي تنتظم المسرحية كلها على لسان شهريار حين يثور بشهرزاد لأنها تلح عليه في أن الحياة ليس بها ما يستحق العلم، وأنها لا سر فيها، وأنها هي - شهرزاد - ليست إلا امرأة ككل النساء ذات أم وأب وماض معروف، يثور شهريار ويتحدث كمن به مس، وكمن يتحدث إلى نفسه فيقول:
قد لا تكون امرأة، من تكون؟ إني أسألك من تكون؟ هي السجينة في خدرها طول حياتها تعلم بكل ما في الأرض كأنها الأرض! هي التي ما غادرت خميلتها قط، تعرف مصر والهند والصين! هي البكر تعرف الرجال كامرأة عاشت ألف عام بين الرجال، وتدرك طبائع الإنسان من ساميه وسافله، هي الصغيرة لم يكفها علم الأرض فصعدت إلى السماء تحدث عن تدبيرها وغيبها كأنها ربيبة الملائكة، وهبطت إلى أعماق الأرض تحكي عن مردتها وشياطينها ومساكنهم السفلى العجيبة كأنها بنت الجن! من تكون تلك التي لم تبلغ العشرين قضتها كأترابها في حجرة مسدلة السجف! إما سرها؟ أعمرها عشرون عاماً، أم ليس لها عمر؟ أكانت محبوسة في مكان، أم وجدت في كل مكان؟ إن عقلي ليغلي في وعائه يريد أن يعرف. . . أهي امرأة تلك التي تعلم ما في الطبيعة كأنها الطبيعة؟))
أسمعت؟ إن بنا ظمأ لأن نعرف. ولكنا لا نستطيع أن نعرف، وما نزعم أننا عرفناه اليوم سيقول أبناؤنا غداً إنه حديث خرافة، كما نقول نحن عما عرف أجدادنا أنه حديث خرافة، هذا كلام لا شيء ولا فكرة فيه كما ترى. وهو مع ذلك كل شيء وهو مع ذلك طريف وأن تكرر كل يوم مادام يتكرر في أسلوب من له روعة أسلوب توفيق الحكيم المسرحي. وهو طريف وإن تكرر لأنه يدعونا للمحاولة كي نعرف أفي الحياة جديد
فإلى أي شيء نسعى في الحياة؟ وما غرضنا منها؟ هذا ما يريد شهريار أن يعرف. وتقول له شهرزاد إن الحياة هي السعادة. والسعادة يجب أن يلتمسها الرجل في جسم امرأته. ويأبى شهريار ويتكدر ويكاد يقتل شهرزاد. ولكن شهرزاد تتبدى له في روعة جمالها كاملة فيتمنى لو تحبه ليكون سعيداً. وفي أحلام الحب ينام!
وشهرزاد في مسرحية توفيق الحكيم هي المرأة، وهي الطبيعة، بها يفتن شهريار، وبها يفتن وزيره قمر وبها يفتن العبد. وبها يفتن الناس جميعاً، ومنها يخاف الناس جمعياً. يلتمسون منها المعرفة، ويلتمسون منها الحقيقة، ويلتمسون منها السماح، ويلتمسون منها السعادة. وينالون من ذلك كله فتاتا لا يغنيهم، ولكنه يقتلهم. الوحيد الذي ينجبر هو العبد الذي استمتع بجسد شهرزاد، والذي أحبت شهرزاد رغم سواده وغلظته، لأن الزهرة البيضاء الرقيقة تنبت من الطين الأسود والغليظ، ورغم قبحه وضعة أصله، لأن سواد اللون وضعة الأصل وقبح الصورة هي الصفات الخالدة التي تحبها شهرزاد، والتي تعشق الطبيعة وإن كانت الطبيعة وكانت شهرزاد مثلها لا يعشقان أحداً.
لعلي استطعت بالقليل الذي تقدم أن أصف الأثر الذي تركت في نفسي مسرحية توفيق الحكيم الأخيرة وهو كما ترى أثر يتعدى الغبطة إلى الإعجاب. لكنني لاحظت عليها كأثر من آثار توفيق الحكيم، ما لا يتفق وما كان بارزاً واضحاً في أهل الكهف وفي قصة عودة الروح، وفي آثاره الوجيزة الأخرى التي تنشر في المجلات، فقد كان بروز الشخصيات ووضوحها بعض ما امتازت به هذه الآثار كلها. أما في شهرزاد فالكل فلاسفة في قوة واحدة. الملك والوزير قمر، وشهرزاد، والعبد، والجلاد، والساحر، يتحدثون جميعاً ومنطق كل واحد منطق الآخر وقوته قوته، وأنوثة شهرزاد أنوثة فلسفية هي الأخرى. وحب قمر إياها أقرب لأن يكون حباً فلسفياً لا يخضع لضعف الحب إلا بكلام وهذا في رأينا مأخذ وإن سترته قوته المسرحية. وهو مأخذ بالنسبة لتوفيق الحكيم بنوع خاص، لكنه لا يغض من قيمة أثر له من الجلال ما قدمنا، وله إلى جانب جلاله انه أثر خالص للفن وهذا ما لا تجده في الأدب العربي الحديث ألا نادراً واندر من النادر
محمد حسين هيكل