الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 42/السفارات النبوية

مجلة الرسالة/العدد 42/السفارات النبوية

مجلة الرسالة - العدد 42
السفارات النبوية
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 04 - 1934


للأستاذ محمد عبد الله عنان

مضت خمسة أعوام على هجرة النبي العربي (عليه السلام) إلى المدينة قبل أن تهدأ ثائرة قريش أو تفتر عن مخاصمته ومهاجمته: وأنفق النبي هذه الأعوام الخمسة على أهبة الدفاع يرد محاولات قريش لغزو معقله وملاذ دعوته، أولاً في بدر ثم في أحد ثم في موقعة الخندق. فلما وهنت قوى قريش بعد الخندق، استطاع النبي أن يعني بالتفكير في العمل الإيجابي لمغالبة خصومه وبث دعوته. ولم تكن الدعوة الإسلامية قد تجاوزت يومئذ وديان مكة والمدينة؛ ولم تثبت دعائمها إلا في المدينة بين عصبة المهاجرين والأنصار؛ ولم يك ثمة ما ينبئ بأن هذه البداية الضئيلة إنما هي الحجر الأول في صرح الدولة الإسلامية العظيمة التي قامت بعد ذلك بعشرين عاماً فقط على أنقاض دولتين من أعظم دول التاريخ هما الدولة الفارسية والدولة الرومانية الشرقية. وكان فشل قريش في موقعة الخندق حاسماً في تطور هذه الخصومة التي أضرمت قريش لظاها مذ أذاع النبي رسالته. ومنذ الخندق استطاع الإسلام أن يفتتح غزواته للأمم والأديان القديمة؛ ففي أواخر العام الخامس وأوائل العام السادس للهجرة قام النبي بعدة غزوات محلية لبعض القبائل والبطون المعادية وفي أواخر العام السادس نظم النبي بعوثه أو سفاراته لأكابر الملوك والأمراء المعاصرين. وفي العام الثامن كان فتح مكة وخضوع قريش؛ وكان ظفر الإسلام حيثما استهل رسالته وانبعثت أشعته الأولى

وكانت السفارات النبوية بين حوادث هذا العهد حادثاً فريداً؛ وكانت دليلاً جديداً على ما تجيش به نفس الرسول العربي من سمو في الشجاعة وقوة في الإيمان برسالته. ولم يكن الإسلام يومئذ قوة يُخشى بأسها فيدعو قيصر وكسرى إلى اعتناق دعوته؛ ولكن محمدا أرسل للبشر كافة بشيرا ونذيرا. وكما كانت الغزوات النبوية المتواضعة سبيلا للذود عن الإسلام ووسيلة لتأييد كلمة، فكذلك كانت السفارات النبوية سبيلا لأداء رسالته وإبلاغ صوته إلى الملوك والأمراء الذين يحكمون العالم القديم يومئذ. ففي شهر ذي الحجة سنة ست من الهجرة (إبريل سنة 628م) بعث النبي كتبه وسفراءه إلى ثمانية من أولئك الملوك والأمراء هم قيصر قسطنطينية، وقيروس حاكم مصر الروماني، والحارث بن أبي شم الغساني النصراني عامل قيصر في الشام، وكسرى (خسرو) ملك فارس ونجاشي الحبشة، وثلاثة من أمراء الجزيرة المحليين هم هوذة بن علي صاحب اليمامة، والمنذر بن ساوي صاحب البحرين، وجيفر بن جلندا وأخوه صاحبا عمان. وقد كان هؤلاء (ملوك العرب والعجم) الذين يسودون الجزيرة العربية يومئذ أو يتصلون بها بأوثق الصلات. وكان أهمهم وأعظمهم بلا ريب قيصر الروم وملك فارس، وقد كانا يقتسمان سواد العالم القديم يومئذ؛ ويبسط أولهما حكمه على الشام وما إليها جنوباً حتى شمال الحجاز، ويبسط الثاني حكمه على شمال شرقي الجزيرة، ويدين له كثير من أمراء العرب بالولاء والطاعة. وكان الأول زعيم الأمم النصرانية، والثاني زعيم الأمم الوثنية

نظمت هذه السفارات وأرسلت إلى مختلف الأنحاء، لكل ملك وفد أو رسول ولكل كتاب نبوي. وكانت مهمتها جميعاً واحدة. وتقدم الرواية الإسلامية إلينا صور الكتب المرسلة، وهي جميعاً في صيغ واحدة أو متماثلة؛ وفيها جميعاً يدعو النبي ملوك عصره إلى الإسلام والإيمان برسالته. وكان سفير النبي إلى هرقل قيصر الدولة الرومانية الشرقية دحية بن خليفة الكلبي؛ واليك نصل الكتاب النبوي إلى قيصر حسبما ورد في السيرة وفي الصحيحين: (من رسول الله إلى هرقل عظيم الروم؛ سلام على من اتبع الهدى - أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم: أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فان توليت فان عليك إثم الاريسيين؛ يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله، فان تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون). وكان هرقل (الأول) قد تسلم عرش قسطنطينية قبل ذلك بثمانية عشر عاما بعد حوادث وخطوب جمة، وقضى معظم عهده في حروب طاحنة مع الفرس. وكان الفرس قد غلبوا على مصر وسوريا وآسيا الصغرى، وهددوا قسطنطينية نفسها، فاستطاع هرقل أن يردهم عن أقطار الدولة، وان يطاردهم حتى قلب بلادهم، وان يسحق قواتهم في موقعة نينفة الحاسمة (ديسمبر سنة 627). وفر كسرى الثاني ملك الفرس المعروف بكسرى ابرويز من عاصمته المدائن، ثم قبض عليه ولده شيرويه (سيروس) وقتله وجلس على العرش مكانه، وعقد الصلح مع هرقل. وعاد قيصر إلى قسطنطينية ظافراً يحمل صندوق (الصليب المقدس) الذي كان الفرس قد انتزعوه من بيت المقدس. ثم سار في خريف هذا العام (سنة 628) حاجاً إلى بيت المقدس سيراً على الأقدام ومعه الصليب ليرده إلى موضعه بالقبر المقدس؛ فبينا هو ببيت المقدس يؤدي مراسم الحج، إذ وفد عليه حاكم بصرى (بوسترا) ومعه دحية الكلبي؛ فقدم إليه كتاب النبي، واخبره بمضمون سفارته. وتقول الرواية الإسلامية أن هرقل استقبل سفير النبي بأدب وحفاوة، وسأله عن بعض أحوال النبي وأحوال رسالته؛ بل تذهب إلى القول بأن هرقل هم باعتناق الإسلام لولا أن خشي نقمة البطارقة، وانه صارح دحية برغبته وخشيته. وهذه مبالغة بلا ريب. ونستطيع أن نتصور ما أثارته سفارة النبي في نفس قيصر من بواعث الإنكار والدهشة؛ ولعله لم يكن قد سمع عن محمد ورسالته من قبل قط؛ بيد انه رد السفير النبوي ببعض المجاملات والأقوال الودية. ولما عاد هرقل إلى عاصمته وصلته رسالة أخرى تلقاها عامله على الشام المنذر بن الحارث الغساني من النبي على يد رسوله شجاع بن وهب يدعوه فيها إلى الإسلام، ويحذره عواقب المخالفة فبعث بها المنذر توا إلى هرقل وسأله أن يسير لمحاربة ذلك الذي اجترأ على هذا الوعيد فلم يوافقه هرقل على ذلك، ورد شجاع كما رد دحية ببعض المجاملات والتحيات

ووصلت سفارة النبي إلى مصر في الوقت نفسه يحملها حاطب ابن بلتعة اللخمي. وتجمع الرواية الإسلامية على أن هذه السفارة كانت موجهة إلى (المقوقس عظيم القبط) وتقدم إلينا صورة الكتاب النبوي الذي أرسل إليه مستهلا بهذه العبارة: (بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط)

وهو في نص الكتاب الذي وجه إلى هرقل وفي نفس عباراته مع تغيير يسير في بعض الروايات؛ وفيه يدعى المقوقس كما دعى هرقل إلى اعتناق الإسلام. وهنا يجب أن نقف قليلاً عند شخصية المقوقس هذا الذي تعرفه الرواية الإسلامية دائماً بأنه عظيم القبط. فقد كانت مصر يومئذ ولاية رومانية استردها هرقل من الفرس بعد أن لبثوا فيها عدة أعوام ورد إليها سلطة قسطنطينية، وعاد يحكمها الولاة الرومانيون كما كانت من قبل؛ ولم يكن لأهلها القبط أي نوع من الاستقلال. والظاهر أن هذه الحقائق لم تكن مجهولة في المدينة حيث تدل رسالات النبي وكتبه على أن الأحداث والأوضاع السياسية التي كانت تسود الجزيرة العربية وما يجاورها من الممالك كانت معروفة من النبي وصحبه. وقد كان حاكم مصر الروماني في نحو الوقت الذي نتحدث عنه هو الجبر (كيروس) وهو في نفس الوقت حاكم مصر وبطريقها الأكبر. وقد استطاع البحث الحديث أن يلقي كثيراً من الضياء على شخصية (المقوقس) وأن يتعرف فيه شخصية (كيروس) نفسه؛ وإذا فالمرجح أن المقوقس الذي تردد الرواية العربية اسمه إنما هو (كيروس) حاكم مصر الروماني بيد أن هناك نقطة ما تزال غامضة هي أن (كيروس) لم يعين حاكماً لمصر إلا في سنة 631م، أعني بعد إرسال السفارات النبوية بأكثر من عامين؛ ولا يمكن أن تفسر هذه الثغرة في التواريخ إلا بأن السفير النبوي قد انفق الوقت في قطع الطريق ثم في الانتظار أو أن (كيروس) كان معينا قبل ذلك لحكم مصر بصفة غير رسمية ثم عين بصفة رسمية، بيد أن الواقدي يقدم إلينا حلا لهذا المشكل، فيقول أن سفارة النبي إلى (المقوقس) كانت في السنة الثامنة من الهجرة لا في أواخر السنة السادسة، وأواخر السنة الثامنة من الهجرة توافق أواسط سنة 630م، فإذا أضفنا إلى ذلك موعد المسافة من المدينة إلى مصر استطعنا أن نضع مقدم السفير النبوي في أوائل سنة 631م. وعلى أي حال فالمرجح والمعقول هو أن السفارة النبوية لم توجه في مصر لأحد غير الحاكم العام، وقد كان هذا الحاكم العام هو (كيروس). ومما يؤيد هذا الحقيقة هو أن السفير النبوي قصد إلى الإسكندرية ليؤدي مهمته وقد كانت الإسكندرية يومئذ مقر الحاكم العام الروماني

اخترق حاطب بن بلتعة اللخمي مصر في شرقها إلى غربها وقصد إلى الإسكندرية ليؤدي سفارة النبي ورسالته، واخذ إلى (كيروس) في مجلسه المشرف على البحر؛ فاستقبله بترحاب وحفاوة، وتلقى منه الكتاب النبوي وناقشه في مضمونه، وسأله عن النبي ودعوته. وهنا تقول الرواية الإسلامية أيضاً كما قالت في شأن هرقل، أن المقوقس (كيروس) أفضى إلى حاطب بأنه مؤمن بصدق رسالة النبي، وانه يود لو تبعه لولا خشيته من القبط؛ ثم صرف حاطباً بكتاب منه إلى النبي وهدية يذكرها في الكتاب. واليك نصه كما يورده ابن عبد الحكم اقدم مؤرخ لمصر الإسلامية: (لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط. سلام، أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه. وقد علمت أن نبياً قد بقى وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام. وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة؛ وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام). وفي بعض الروايات أن الهدية تضمنت فوق ذلك حماراً وشيئاً من العسل والمال. والجاريتان هما مارية القبطية وأختها شيرين. وقد أسلمتا على يد النبي؛ وتزوج النبي بمارية ورزق منها بولده إبراهيم الذي توفى طفلا؛ ووهب أختها شيرين لأحد أصحابه المقربين إليه. وفي زواج النبي بمارية، وفي مولد ولده إبراهيم، دليل مادي قاطع على انه كانت ثمة مخاطبات وعلائق حقيقية بين النبي وعظيم مصر يومئذ، أعني (كيروس) الحاكم الروماني

هكذا كانت النتائج التي انتهت إليها الكتب والسفارات النبوية إلى قيصر وعامليه على مصر والشام، وقد كانت نتائج سلبية، ولم تكن حاسمة في شيء. بيد أنها كانت بلا ريب ذات أثر معنوي عميق في البلاط الروماني وفي الكنيسة

وأما الكتب والسفارات النبوية إلى الناحية الشرقية من الجزيرة فقد لقيت مصاير أخرى. وكانت ثلاثا أهمها سفارة فارس، وكان سفير النبي إلى ملك فارس عبد الله بن حذافة السهمي، فقصد إلى المدائن ومعه الكتاب النبوي. وتقدم الرواية الإسلامية أيضاً نص هذا الكتاب فيما يلي: (بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم الفرس - سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله، ورسوله وشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله وأدعو بدعاء الله، فإني أنا رسول الله إلى الناس كافة لأنذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين؛ فاسلم تسلم، فان أبيت فان إثم المجوس عليك). وكان ملك الفرس يومئذ كسرى الثاني (أو كسرى ابرويز)؛ فلما قرئ عليه كتاب النبي مزقه، وأهان السفير وطرده؛ وبعث إلى عامله على اليمن باذان الفارسي أن يبعث إلى محمد من يتحقق خبره أو يأتيه به؛ فصد بالأمر. بيد أنه حدثت في تلك الأثناء بالمدائن حوادث خطيرة، فان شيرويه (سيروس) ولد كسرى ثار عليه وقتله وانتزع الملك لنفسه. ويضع الواقدي تاريخ هذا الانقلاب في العاشر من جمادى الأولى سنة سبع (سبتمبر سنة 628م). فإذا صح هذا التعيين فان الرواية الإسلامية تكون معقولة متناسقة فيما تقوله من أن الذي استقبل سفير النبي وتلقى كتابه هو كسرى ابرويز، ولكن أغلب الروايات على أن مقتل كسرى كان في فبراير سنة 628 (ذي القعدة سنة ست) أعني قبل قيام البعوث النبوية بنحو شهر؛ وإذاً فالمرجح أن الذي استقبل السفير النبوي هو شيرويه ولد كسرى. أما حادث إرسال كسرى لعامله على اليمن أن يتحقق خبر محمد أو يأتيه به فالمرجح أنه وقع قبل البعوث النبوية وقبل مصرع كسرى ببضعة أشهر لما نمى إلى كسرى من ظهور الدعوة الإسلامية وتقدمها

وفي السنة الثامنة من الهجرة (630م) قصد إلى البحرين سفير آخر هو العلاء الحضرمي، ومعه كتاب نبوي إلى أميرها المنذر ابن ساوى؛ وقصد إلى عمان، عمرو بن العاص الذي أسلم قبل ذلك بأشهر قلائل، ومعه أيضاً كتاب نبوي إلى أميريها جيفر وعباد ابني الجلندي زعيمي بني الأزد. وفي الكتابين يطلب النبي إلى هؤلاء الأمراء اعتناق الإسلام أو أداء الجزية. بيد أنهما حسبما تنقل الرواية الإسلامية قد صيغا في أسلوب يخالف أسلوب الكتب السابقة. فمثلا تنقل إلينا كتاب النبي إلى أمير البحرين فيما يأتي: (من محمد النبي رسول الله إلى المنذر بن ساوى - سلام عليك - فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو - أما بعد فإن كتابك جاءني به رسلك، وأن من صلى صلاتنا وأكل ذبيحتنا واستقبل قبلتنا فانه مسلم له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين؛ ومن أبى فعليه أداء الجزية). ففي الكتاب خيار بين الإسلام ودفع الجزية لم يرد في الكتب السابقة، وهو بهذه الصفة ذو صبغة عملية؛ ثم هو يدل على أمر آخر هو أنه رد على استفهام وجهه أمير البحرين إلى النبي عن أحكام الإسلام. وقد تضمن الكتاب الذي أرسل إلى أميري عمان شرح بعض أحكام الإسلام أيضاً. وكان لهاتين السفارتين نتيجة عملية، فان أمير البحرين، وأميري عمان آمنوا برسالة النبي واعتنقوا الإسلام، وأدوا الجزية عن رعاياهم غير المسلمين. وأرسلت سفارة ودعوة أخريان على يد سلبط بن عمرو إلى أمير آخر من أمراء هذه الأنحاء هو هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة؛ وكان نصرانياً، فرد على النبي بكتاب خشن يطلب فيه مشاركة النبي في أمره وسلطانه شرطا لدخوله في دعوته.

بقى أن نتحدث عن سفارة النبي إلى الحبشة، وهي السفارة الوحيدة التي أرسلت إلى ما وراء البحر. وقد كان إرسالها في ختام السنة السادسة أو فاتحة السنة السابعة في نفس الوقت الذي أرسلت فيه سفارتا قيصر وكسرى. وكان بين الحبشة والنبي وأنصاره قبل ذلك علائق ودية منتظمة. والى الحبشة لجأ كثير من أنصار النبي أيام الهجرة فراراً من اضطهاد قريش، وأقاموا بها تحت حماية النجاشي ورعايته، ومنهم جعفر بن أبي طالب عم النبي، فلما نظمت السفارات النبوية إلى (ملوك العرب والعجم)، أرسلت سفارة إلى ملك الحبشة (النجاشي) على يد عمرو بن أمية الضمري في ذي الحجة سنة ست أعني في نفس الوقت الذي أرسلت فيه سفارة قيصر؛ ووجه النبي إلى النجاشي كتابين، يدعوه في أولهما إلى الإسلام؛ ويطلب إليه في ثانيهما أن يرسل إلى المدينة من عنده من المسلمين اللاجئين. وقد صيغت دعوة النبي إلى النجاشي في أسلوب خاص يخالف في روحه وألفاظه ما تقدم من الدعوات. واليك نص هذه الدعوة حسبما يقدمها إلينا ابن إسحاق في السيرة: (بسم الله الرحمن الرحيم - من محمد رسول الله إلى النجاشي الاصحم ملك الحبشة، سلم أنت؛ فإني أحمد الله الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، واشهد أن عيسى بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسى، فخلقه الله من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده ونفخه، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له والموالاة على طاعته، وان تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله؛ وقد بعثت إليك ابن عمي جعفراً ونفراً معه من المسلمين، فإذا جاءوك فاحترمهم ودع التجبر، فإني أدعوك وجنودك إلى الله، فقد بلغت ونصحت، فاقبلوا نصحي والسلام على من اتبع الهدى). وقد كان النجاشي نصرانياً، وكانت النصرانية تسود الحبشة منذ القرن الرابع. وفي الكتاب النبوي شرح لموقف الإسلام نحو النصرانية ونظريته في خلق المسيح؛ وهو موقف ليس فيه إنكار ولا خصومة جوهرية إلا من حيث الوحدة والتوحيد؛ والكتاب النبوي ينوه بهذه الوحدة. وبعث النبي إلى النجاشي أيضاً يكلفه بأن يعقد زواجه من أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت من المسلمين اللاجئين، وكانت زوجة لصحابي يدعى عبيد الله هاجر بها إلى الحبشة ثم ارتد هنالك عن الإسلام وتنصر، وتوفي مرتداً. وتقول الرواية الإسلامية أن النجاشي لبى دعوة النبي وأسلم، وبعث إليه بكتاب يؤكد فيه إسلامه، وانه حقق رغبته في تزويجه من أم حبيبة نيابة عنه، وبعثها إليه مع من كان عنده من المسلمين في سفينتين كبيرتين. بيد أنه يلوح لنا أن القول بإسلام النجاشي مبالغة يمكن أن تحمل على ما أبداه النجاشي من أدب ومجاملة في استقبال السفارة النبوية؛ والمرجح أن النجاشي لم يسلم؛ ولو أسلم النجاشي يومئذ لكان الإسلام قد غمر الحبشة كلها ولكانت النصرانية قد غاضت منها. بيد أن الإسلام لم ينتشر في الحبشة إلا بعد ذلك بعصر، وكان انتشاره في الجهات الشرقية والجنوبية فقط.

ونلاحظ أخير أن البعوث والسفارات النبوية لم تقتصر على من تقدم من الملوك والأمراء.

فقد أوفد النبي بعوثاً وكتباً أخرى إلى عدة من زعماء الجزيرة المحليين، لتحقيق نفس الغاية في ظروف وتواريخ مختلفة، أسفر بعضها عن نتائج عملية مرضية، ودخل بعض هؤلاء الزعماء في الإسلام

كانت هذه السفارات والكتب النبوية عملا بديعاً من أعمال الدبلوماسية، بل كانت أول عمل قام به الإسلام في هذا الميدان. وليس أسطع من هذه السفارات دليلاً على ما كانت تجيش به نفس النبي العربي من فيض في الإيمان والشجاعة؛ ذلك النبي الذي لم يكن قد نجا بعد من اضطهاد قومه، ولم يكن له سلطان يعتد به أو قوى يخشى بأسها، يقدم في ثقة وشجاعة على دعوة قيصر الدولة الرومانية وعاهل الدولة الفارسية، وباقي الملوك والأمراء المعاصرين على اعتناق دعوة لم تكتمل بعد في مهدها، على أن هذه الدبلوماسية الفطنة التي لجأ إليها النبي في مخاطبة ملوك عصره لم تذهب كلها عبثاً كما رأينا. ولا ريب أن النبي لم يكن يتوقع أن يلبي أولئك الملوك الأقوياء دعوته، وهو ما يزال يكافح في بثها بين عشيرته وقومه. بيد أن إيفاد هذه البعوث كان عملا متمما للرسالة النبوية. وكان العالم القديم الذي يتوجه إليه النبي العربي بدعوته يقوم يومئذ على أسس واهية تنذر بالانهيار من وقت إلى آخر؛ وكانت الأديان القديمة قد أدركها الانحلال والوهن وفسدت مثلها العليا؛ فكانت الدعوة الإسلامية تبدو في جدتها وبساطتها وقوتها ظاهرة تستحق البحث والدرس. ولم يكن عسيراً أن يستشف أولو النظر البعيد، ما وراء هذه الدعوة الجديدة من قوى معنوية تنذر بالانفجار في كل وقت. وقد كان الانفجار في الواقع سريعاً جدا، فلم تمض أعوام قلائل على إيفاد هذه البعوث حتى كان الإسلام قد غمر قلب الجزيرة العربية، وانساب تيار الفتح الإسلامي إلى قلب الدولتين الرومانية والفارسية، واخذ العرب أبناء الدين الجديد وحملة الرسالة المحمدية يعملون بسرعة خارقة على إنشاء الدولة الإسلامية الكبرى

وقد تناول البحث الغربي حوادث السفارات النبوية فيما تناول من حياة النبي العربي، وكان جل اعتماده في شأنها على الرواية الإسلامية؛ وهنالك من كتاب السيرة الغربيين من يبدي ريباً في أمر هذه السفارات، أو يبدي بالأخص ريباً في صحة الكتب والرسائل النبوية.

ومن هؤلاء الكتابالمستشرقان الألمانيان فايل وميلر؛ فإن فايل يلاحظ مثلا أن في بعض الكتب النبوية (كتاب النبي إلى كيروس) آيات قرآنية لم تكن قد نزلت وقت إرسالها مما يدل على أنها قد وضعت فيما بعد، ويرتاب ميلر في أن رسالة قد وجهت من النبي إلى هرقل، ولكنه مع ذلك يقدم ملخصاً لحوادث السفارات النبوية كما وردت في السيرة

أما نحن فلسنا نرى من الوجهة التاريخية ما يبعث على الشك في صحة هذه السفارات النبوية، بل نلمس بالعكس كثيراً من الأدلة والقرائن على صحة معظم الوقائع التي اقترنت بها. وقد تبالغ الرواية الإسلامية في بعض الوقائع حسبما أشرنا إليه فيا تقدم ولكن في تعيين الرواية الإسلامية للتواريخ والأشخاص والأمكنة، وفي اتفاقها على كثير من الوقائع، وفي موافقة الرواية الكنسية والبيزنطية لكثير منها خصوصاً فيما يتعلق برسالة النبي إلى قيصر وكيروس - في ذلك كله ما يؤيد صحة كثير من هذه الأحداث الدبلوماسية الإسلامية الأولى. وإنما يتطرق الشك في نظرنا إلى النصوص والصيغ التي تقدمها الرواية الإسلامية للكتب النبوية. ذلك أنها لم ترد جميعا في رواية ابن إسحاق اقدم مؤرخي السيرة؛ وقد ورد بعضها بعد ذلك في كتاب الواقدي الذي لم يصلنا منه سوى شذور قليلة، وفي كتاب ابن عبد الحكم المصري، ثم في الصحيحين (صحيح البخاري وصحيح مسلم) وفي الطبري وغيره من الروايات المتقدمة ولكنها ترد بصيغ وألفاظ مختلفة مما يحمل الشك في صحة هذه النصوص. وأكبر الظن أن هذه النصوص قد وضعت، ورويت فيما بعد باعتبار أنها تمثل أقرب الصور التي صيغت فيها الكتب النبوية، وقدمها كتاب السيرة على أنها أرجح النصوص المحتملة. بيد أن هذا الشك في صيغ الكتب النبوية لا يتعدى الحقائق التاريخية التي تنهض الأدلة والقرائن على صحة الكثير منها

لقد كانت السفارات النبوية حادثاً سياسياً عظيماً في حياة النبي العربي.

محمد عبد الله عنان المحامي