الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 42/اشراق الهلال على الوادي

مجلة الرسالة/العدد 42/اشراق الهلال على الوادي

مجلة الرسالة - العدد 42
اشراق الهلال على الوادي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 23 - 04 - 1934


للأستاذ محمد فريد أبو حديد

وقف ربيئة الروم فوق أعلى حصن (بابليون) بجوار مدينة مصر العظيمة، فنظر إلى ما دونه نحو الأهرام عابراً ببصره نهر النيل العظيم فذهب به الخيال إلى الماضي البعيد، وهمت بنفسه سورة خفيفة من الشجن المبهم، وكان الجو كله ممتلئاً بالأشجان والمخاوف لما كانت الدولة تلقاه من جميع الأنحاء من الغارات والأخطار ثم، نظر إلى الشمال نحو مدينة الشمس العظيمة (أون) حاضرة العلوم القديمة ومركز ثقافة الفراعنة، غير أنها لم تكن عند ذلك إلا بقية ضئيلة من نفسها القديمة. ثم نظر إلى الكروم والبساتين التي تكتنف الحصن من شماله حتى تصله بمدينة (أون) فلاح له من بينها غبار ثائر وجرم متحرك. وما زال يحدق في ذلك الغبار وقلبه مضطرب وعقله تساوره الذكريات، والمخاوف تتوارد عليه سراعاً. ثم صاح صيحة النذير فاجتمع حوله جنود الحصن الذين كانوا على مقربة منه يشتركون معه في النظر إلى ذلك الغبار الثائر وما لاح تحته من أجرام متلاحقة متحركة نحو شاطئ نهر النيل. وكان الجنود إلى ذلك الوقت لا يعرفون شيئاً سوى ما يذيعه لهم قوادهم وأمراؤهم، فجعلوا يذهبون مع الخيال مذاهب شتى، فقائل منهم تلك جنود من الفرس عادت لتنتقم من الهزيمة الطاحنة التي لحقت بدولتها على يد هرقل ملك الروم العظيم، وقائل أن تلك قبائل البجة التي اعتادت العيث في جنوب البلاد قد بلغت شمال الوادي لتهبط على ريفه فتسلب منه ما شاءت ثم تعود مسرعة قبل أن يستطيع الروم أن يجمعوا الجيوش للإيقاع بها، ثم قال قائل منهم ممن عركتهم الحروب (أين الفرس اليوم؟ لقد صارت دولتهم في يد جيوش عرب الصحراء كما صارت بلاد الشام. ولقد رأيت بنفسي جيش العرب يأخذ دمشق ويطرد الروم من مروج سوريا، وليس من شك في أن هذا الغبار قد أثارته حوافر خيولهم السريعة).

وأتى عند هذه اللحظة قواد الروم عندما بلغهم الصخب واللغط فنظروا حيث نظر الجنود، ثم نظر بعضهم إلى بعض نظرات صامتة في وجوه مصفرة ثم قال (جورج) كبيرهم للجنود: (هلم أيها الجنود إلى أماكنكم فليس من المباح لكم أن تقفوا إلى جوار الربيئة تشغلونه عن حراسته) فانصرف الجنود طائعين وقلوبهم غير راضية وعقولهم غ مطمئنة، ثم مضى القواد إلى ناحية من سور الحصن وجعلوا ينظرون إلى الأشباح المتحركة والغبار الثائر في ضوء الغروب الخافت.

ثم قال (جورج) القائد الأعلى للحصن (أيمكن أن يكون هؤلاء العرب قد غلبوا جنود الدولة التي أرسلت إليهم وبلغوا هذه الجهات في شهر واحد؟ وماذا فعل (إريطبون)؟ وماذا فعل تيودور؟) فقال أحد القواد، وكان أقربهم إليه: (لقد شهدت حرب هؤلاء في مواطن كثيرة، إنهم يخرجون إليك كأنهم سراب الصحراء لا تدري من أين جاءوا، ثم تراهم ينصرفون عنك حتى لا تسمع عنهم شيئاً فكأنهم غاصوا في رمال الصحراء. ثم ما يلبثون أن يعودوا إليك وأنت لا تتوقع عودتهم كأنهم أشباح لا تعوقهم مادة هذه الأرض).

ثم أرخى الليل سدوله ولم يأت بعد نبأ عن فعل تلك الأشباح المتحركة، وطلع صباح اليوم التالي فإذا بالأرض الشمالية على عهدها ليس فيها غبار ثائر ولا أشباح متحركة، فكأنما كان منظر المساء الغابر من صور الخيال واختراع الوهم. إلا أن زوال ذلك اليوم حمل إلى الحصن بقية من جرحى قرية (أم دنين) التي على شاطئ النهر وفلا من مسلحة الحصن التي هزمها الجيش البدوي المغير. غير أن ذلك الجيش لم يبق بعد ذلك طويلاً على الشاطئ بل عبر النهر واختفى في الأفق الغربي. فتعجب القائد (جورج) عندما بلغه هذا، وعرف أن قائده الذي وصف له حرب العرب كان يصفهم عن خبرة وعلم. لقد ظهر جيش العرب في شمال الحصن كأنه شبح خيال ثم اختفى كذلك كأنه شبح خيال. ولكن متى يعود؟ ومن أي جهة يطلع بعد عليهم؟

تواردت إلى الحصن بعد ذلك الإمداد الكثيرة من جميع أنحاء مصر تعزيزاً لحصن الحصون الذي يدافع عن قلب البلاد مدينة (مصر)، وأجاب قواد الأطراف على استصراخ (جورج) قائد الحصن بأن بعثوا إليه ما استطاعوا بعثه من الجنود المجهزة ليطردوا ذلك الجيش الذي لاح ثم اختفى، وتجهز المقوقس العظيم ليسير بنفسه من الإسكندرية إلى مركز البلاد، ليكون وجوده حافزاً لهمة الجنود، وليكون على مقربة من الأعداء لعله يستطيع بما أوتي من بلاغة ومكر أن يصرفهم عن البلاد.

ومرت الأيام سراعاً وراجت الأخبار المتضاربة عن الغزاة، وأتت بعض أنباء تلك الكتيبة الصغيرة من فرسان الصحراء، فإذا بالقائد الشجاع (حنا) الذي كان معبود جيش الروم بالفيوم يقتل في بعض المواقع منذ دفعته شجاعته للقاء جيش العرب. وترددت أنباء ذلك بين القواد والجنود فإذا هم في حصن بابليون حلقات يتهامسون عن هذا العدو المغير ويتساءلون عن كنهه وحقيقة أمره، وكان بين جنود الروم وقوادهم من رأى حروب الآفار والبلغار والفرس، وكان منهم من قرأ أخبار الأمم الماضية ممن أغار على دولة الرومان في القرن الماضي من اللمبرديين والوندال والقوط. وما كان أفظع تلك الأمم التي أغارت في تلك القرون على أراضي الدولة الرومانية! فقد كانوا لا يعرفون في الحرب هوادة ولا رحمة، ولا يخضعون لقانون خلقي أو ديني. فقد حكى عن (البوين) ملك اللمبرديين أنه هزم في بعض حروبه قبيلة الجبيدي وقتل رئيسهم والد (روزاموند) الجميلة، ثم اتخذ تلك الابنة الجميلة زوجة له واحتفل بزواجه منها احتفالاً وحشياً، وجعل يشرب الخمر في كأس جميلة - وأي كأس أجمل من جمجمة عدوه والد عروسه الجميلة؟ حقاً ما كان أفظعه وأفظع قومه! ولقد دخل الوندال بلاد غاله ثم بلاد أفريقية، وكان الروم يعرفون مقدم هؤلاء الوندال بما يرتفع من لهيب النيران فوق آفاقهم. فكان هؤلاء الوندال يجتاحون بلادهم كما تجتاح العواصف والحرائق السهول الفيحاء فتتركها قاعاً صفصفاً، أيكون العرب كبعض هذه الأمم؟

مضى أشهر ثم عادت كتيبة العرب من الأفق الغربي فعبرت نهر النيل مرة أخرى، وظهرت لربيئة الروم من خلال البساتين والكروم التي بين الحصن ومدينة (أون)، وكان الروم قد اجتمعوا في العدد والعدة في حصنهم العظيم (بابليون)، فما أسرع أن تدفقت جموعهم نحو الشمال لتحيط بتلك الكتيبة وتهلكها. وهل كان هؤلاء العرب ليقووا على صدمة جيش عظيم كهذا؟

وقع الاصطدام أخيراً عند مدينة (أون). وماذا دهى القوم؟ فان هي إلا جولات، فإذا بجيش الروم يتردد في سيره، ثم إذا به يرتد نحو شاطئ النهر. ثم ها هي ذي كتيبة عربية تخرج إليه من شاطئ النهر كأنها تنقذف عليه من أعماقه. وها هو ذا الجيش العظيم يتردد مرة أخرى ثم يتفكك ثم تتدافع جموعه نحو الجنوب يحاول كل فرد منهم أن يبلغ الحصن قبل أن تأخذه سيوف العرب اللامعة. ومرت الأيام بعد ذلك فإذا بالروم قد دخلوا حصنهم وأغلقوا أبوابه الضخمة، وإذا بالعرب حول الحصن العظيم يتطلعون إليه ولا يدرون كيف يسمون فوقه. وأراد المقوقس العظيم أن يعرف حقيقة أمر هؤلاء المغيرين لعله يعطيهم بعض مال فيرتدوا عنه، فقال له أحد القواد: (دع عنك هذا فما هم بمن يأتي من أجل الذهب حتى إذا ما بذل لهم ذهبوا به عنا) وجعل يقص عليه قصته مع رجل من هؤلاء العرب رآه يوماً واقفاً وحده يصلي، فهبط إليه من الحصن مع جماعة من الروم، فترك العربي الصلاة وأقبل إليهم كأنه الصخرة الثقيلة التي تنحدر من عل لا يتردد ولا يلتفت إلى شيء، فهربوا منه حتى أنهم رموا إليه بمناطقهم الذهبية ليلهوه بها فلم يلو على شيء منها، ولم ينجهم منه إلا أن بلغوا الحصن وأغلقوا بابه دونه، ورموه بالحجارة من فوقه. فارتد ولم يلتفت إلى تلك المناطق الذهبية، بل عاد إلى موضعه ليتم ما كان فيه من الصلاة وتركهم يخرجون من حصنهم لاسترجاع مناطقهم ثم يعودون على حذر

تعجب المقوقس العظيم، وأراد أن يستطلع حقيقة الأمر فبعث بجماعة من الروم رسلا إلى قائد القوم فرأوا من هؤلاء المغيرين ما لا عهد للروم به من قبل. قال الرسل: (رأينا قوماً، الموت أحب إليهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة. إنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم. ما يعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد منهم من العبد. وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها أحد. يغسلون أطرافهم بالماء ويخشعون في صلاتهم).

لم يكن هذا شأن شعب من شعوب الهمج الذين افترسوا اطرف الدولة الرومانية. وهذه أول مرة يجتمع فيها إلى الاستهانة بالحياة والشجاعة التي لا تعرف خوفاً، خلق متين ونظام لا ينفك منه أحد. ومن ذا يستطيع أن يقاوم شعباً اجتمع له هذان الوصفان؟

كان أعظم ما يخشاه الروم في مصر أن يعرف شعب مصر حقيقة هؤلاء العرب، فلو أنهم عرفوا العرب لأمنوا إليهم، ولو أمنوا إليهم لأصبح الروم ولو كثر عديدهم غرباء عن الأرض قد فقدوا الناصر والتابع. غير أن شعب مصر ما لبث أن عرف الحق واتصل بهؤلاء المحاربين، فلقد كانوا في سيرهم لا يسيرون سير الجيوش المغيرة المدلة المتكبرة المفسدة، بل كان الطفل آمنا بينهم، والمرأة لا يلحقها أذى من نظرة أحدهم. إذ كانت عداوتهم لجيش الروم لا لأهل مصر، بل إن أهل مصر كانوا موضع وصية خليفتهم ووصية نبيهم الكريم، ومنذ رأى أهل مصر ذلك صاروا حلفاء لهم على أولئك الروم الذين طالما طغوا وبغوا وظلموا وعسفوا وأحرقوا وعذبوا ولم يرعوا في رعيتهم ما كان في أعناقهم من أمانة. وما هو إلا عام حتى كان العرب على انتظار تسليم الإسكندرية ذاتها بعد أن دان لهم داخل البلاد.

وكان الحاكم العربي عمرو بن العاص لا يدع فرصة لتذكير جنوده بما عليهم من الواجب نحو أهل البلاد التي حلوا بها، وكأننا به يتطلع بخياله القوي نحو ذلك اليوم الذي يمتزج فيه قومه الصحراويون بقبط مصر، وينشا من ذلك الامتزاج شعب جديد يقوم على إنشاء مدنية جديدة. وقف عمرو يخطب في قومه عند حلول الربيع وقت ذهاب العرب إلى الريف ابتغاء أن يصيبوا من خيراته لأنفسهم ولخيولهم. وقال عند ذلك في خطبته: (واستوصوا بمن جاورتموه من القبط خيرا، وإياكم والمسومات المعسولات. . . حدثني عمر أمير المؤمنين أنه سمع رسول الله ﷺ يقول (إن الله سيفتح عليكم بعدي مصر فاستوصوا بقبطها خيرا، فان لكم منهم صهراً وذمة، فكفوا أيديكم وعفوا فروجكم وغضوا أبصاركم. . .))

ولقد سار العرب على وصية قائدهم الحكيم فلم يشك أحد من أهل مصر اعتداء على شرفه ولا انتهاكاً لحرمته.

ولقد كان عمرو عفيفاً في حكمه عن العسف والخبط حتى لقد وقف في وجه عمر بن الخطاب نفسه دفاعاً عن سياسته المالية الرحيمة، ثم عزل عن مصر في أيام عثمان دفاعاً عن تلك السياسة عينها. وكانت سياسة العرب على تقلب الأيام واختلاف الدول مدى القرنين الأولين من بعد الفتح سياسة اعتدال ورفق، تسمع ذلك متردداً على لسان أساقفة القبط الذين تركوا لنا في دواوينهم ذكراً من تلك الأيام.

قال أحدهم عندما عاد بنيامين بطريق القبط آمناً بعد أن هرب ثلاثة عشر عاماً من اضطهاد الروم: (الحمد لله الذي أنجاك من الكفرة (الروم)، وحفظك من الطاغية الأكبر الذي شردك فعد إلى أبنائك تراهم ملتفين حولك مرة أخرى).

ونقل عن بنيامين البطريق الأعظم للقبط انه قال يصف عودته عند فتح العرب: (كنت في بلدي وهو الإسكندرية فوجدت بها أمناً من الخوف، واطمئناناً بعد البلاء، وقد صرف الله عنا اضطهاد الكفرة (الروم) وبأسهم) (وقد فرح القبط كما يفرح الاسخال إذا ما حلت لهم قيودهم، وأطلقوا ليرتشفوا من لبان أمهاتهم).

وقال الأسقف حنا النقيوسي: (لقد تشدد عمرو في جباية الضرائب التي وقع الاتفاق عليها، ولكنه لم يضع يده على شيء من ملك الكنائس، ولم يرتكب شيئاً من النهب أو الغصب، بل أنه حفظ الكنائس وحماها إلى آخر مدة حياته).

وقد ورد في كتاب الأستاذ بتلر (فتح العرب لمصر) في وصف دخول المصريين في دولة العرب: (فقد خرجوا من عهد ظلم وعسف تطاول، وآل أمرهم بعد خروجهم منه إلى عهد من السلام والاطمئنان، وكانوا من قبل تحت نيرين من ظلم حكام الدنيا واضطهاد أهل الدين، فأصبحوا وقد فك من قيدهم في أمور الدنيا، وأرخى من عنانهم. وأما دينهم فقد صاروا فيه إلى تنفس حر وأمر طليق).

وإذا كان قبط مصر قد دخلوا في الإسلام أفواجاً حتى صار الإسلام دين الكثرة في البلاد، فما ذلك إلا ميل الطبيعة نحو وحدة قوم هم بطبيعة حياتهم ذاتها لا يستطيعون إلا أن يكونوا شعباً واحداً متجانساً. ولقد بقيت من القبط بقية عظيمة في دلالتها، عظيمة بما يجري في عروقها من دم مصر القديمة، وإذا كان دينها دين المسيح، ودين سائر أهل مصر الإسلام، فان ذلك لا يفرق بين طائفتين تجمع بينها أسباب الحياة وأواصر الاخوة. وأن الأسماء إذا اختلفت، والمظاهر إذا لاح عليها شيء من التباين، فان الدماء التي تجري في العروق ترجع إلى منبع واحد وجرثومة قديمة شهدت عصور ما قبل التاريخ.

محمد فريد أبو حديد