مجلة الرسالة/العدد 419/من حديث الثغر الحزين
→ من دموع عذراء | مجلة الرسالة - العدد 419 من حديث الثغر الحزين [[مؤلف:|]] |
الله!. . . ← |
بتاريخ: 14 - 07 - 1941 |
للأستاذ عماد الدين عبد الحميد
في مثل هذه الأيام من كل صيف مضى، كان الناس - أو قل كان من الناس من تسمح لهم مقدرتهم وأوقاتهم بقضاء اشهر أو أسابيع أو أيام مع عروس البحر الأبيض كما يدعونه - يرون الإسكندرية، وقد بدت عروسا سعيدة في اكمل زينة أبهى منظر
كان هؤلاء يلجئون أليها، هاربين من حرارة الصيف لا يطيقونها، يرجون عندها معاني الراحة والاطمئنان، وينشدون فيها الهناءة والسعادة. فتتلقاهم الإسكندرية مرحبة بهم، مكرمة لهم، باذلة كل جهد لتكون عند حسن ظنهم بها، غير مترددة في أن تظهر أمامهم - أو بهم - في صورة من الحرية المرحة أو السرور المطلق، نازعة عنها قيود التقاليد الموروثة، متحملة كثيرا من أنواع النقد اللاذع، يتقاذفها كخظم هائج لا كموجها الهادئ. . . حين تسرف في إكرامهم، ولكن في ألوان المتعة الساخرة الساحرة!
كانوا يلجئون إليها في مثل هذه الأيام من كل صيف، يقاسمونها ما وهبها الله من نعمة الطبيعة، ويشاركونها فيما منحتها الطبيعة من سحر، ولا أنكر انهم كانوا يعطونها شيئا ما مما أعطتهم الأيام، ولكنهم كانوا أخيرا يتركونها إلى حيث يعودون جميعا، وقد بقيت وحدها حتى الصيف التالي رمزا للعبث كما يراها بعض من الناس، أو صورة لأمنية سعيدة في خيال بعض آخر لم تحقق له الأيام رجاءه من القدرة على أن يكون من روادها السعداء
يعودون، لتستقبل جماعة منهم العمل، ولتستقبل جماعة أخرى أنواعا جديدة من لذة الشتاء، وتبقى أذهان هؤلاء وأولئك ثملة برحلة الصيف، سكرى بذكرياتها، تستمد من تلك الذكريات الجميلة عونا على قضاء الأيام حتى تستقبلهم الإسكندرية مرة أخرى، طروبا ساخرة
اشهدوا الإسكندرية كرقصة مرحة صاخبة يأخذ كل قادر منها بنصيب، ثم لا يهدأ إلا ليأخذ منها بنصيب جديد. . . واسمعوها كأغنية عذبة طويلة من مطرب موهوب محبوب، لا تكاد تنتهي حتى يرجو السامعون لو أعيدت من جديد. . . وحتى بعد أن قضى على أنوارها الباهرة بان تلبث ثوبا من الزرقة القاتمة منذ سنين. اسمعوها في الليل كقطعة موسيقية صامتة تلعبها أنامل عازف ماهر على أوتار القلوب! اشهدوها واسمعوها كذلك، ثم انظروها وقد لبست في هذا الصيف ثوب الحداد على شهداء أعزاء. . . واسمعوها، اسمعوا منها تلك الأغنية العذبة، وقد تبدلت فجأة، فإذا هي عويل وبكاء. . . وأنصتوا لموسيقاها الصاخبة، وقد أضحت لحنا حزينا خافتا بين الأطلال. . .
اسألوا هؤلاء الذين كانوا بالأمس يسعون إليها هربا من حرارة الجو. . . ماذا قدم لها اليوم حين سعت إليهم هربا من جحيم الشيطان!
اسألوا هؤلاء ماذا قدموا من خير - وهم قادرون - للأمهات الحزينات فقدن العائل وفقدن الأبناء!
اسألوهم ماذا قدموا من عون لليتامى، وقد هاموا على وجوههم حائرين، ضلوا سبيل الحياة!
اسألوهم ماذا قدموا من مالهم لمن صار محروما!
اسألوهم ماذا قدموا من مقدرتهم لمن اصبح عاجزا!
اسألوهم ماذا قدموا من قوتهم وصحتهم لمن صار ضعيفا عليلا!
اسألوهم ماذا قدموا من خبزهم للجياع، وماذا قدموا من كسائهم للعرايا. . . وماذا قدموا من دورهم للمشردين!
بل سلوهم ماذا قدموا من كلمة مواساة لهؤلاء، علها أن تخفف شيئا من وقع المصاب!
ترى هل يجيبون. . .؟ يقينا انهم لا يجدون الجواب!
فكم منهم ذكر الإسكندرية في محنتها بشيء؟ بأي شيء ذكروها هذا البعض القليل الذي ذكر. . .؟!
أيتها الدنيا: انك لغادرة خادعة!
فليست هذه مقدرتهم التي عرفناها في ميادين اللهو واللذة والمتعة الفاجرة. . . وليست هذه وجاهتهم التي عرفناها في قصورهم وحيث يحيون!
وأنت أيتها الإسكندرية: انهم لم يحبوك في يوم من الأيام. . . ولكنهم احبوا لذتهم ولهوهم، واحبوا عندك الظهور والكبرياء!
انهم لم يعطوك، حين كانوا يعطونك كل صيف مما وهبتهم الأيام، لرغبتهم في أن ينالك شيء من خيرهم، ولكنهم لو استطاعوا لأخذوا كل ما لديك لأنفسهم. واذهبي أنت مع الريح! أيتها الإسكندرية، اغضبي من اليوم عليهم. اغضبي غضبة لا تعرف الهوادة ولا تعرف اللين، فليسوا جديرين بعطف منك ولا وفاء! ولتغضب مصر جميعا لغضبة الإسكندرية، لتغضب. . . فأنا نحب الخير ونحترم مثلهم، ولسنا عبيد الألقاب، ولسنا قطيعا في مزرعة الوجهاء.
إن للفقراء حقا مشروعا في رقاب الأغنياء. طلبوه اليوم منهم فأنكره هؤلاء. . . فليذهب كل ما كان لهم في نفوسنا من حب، وليذهب كل ما كان لهم فيها من تقدير. . .
ولتبق نكبة الإسكندرية ماثلة في أذهاننا دائما، لتذكرنا بأن للإنسان حقوقا طبيعية في المجموع الذي يعيش فيه.
تتمثل هذه الحقوق - أول ما تتمثل - في أننا يجب أن نسعى إلى حياة معتدلة، فيها رخاء لنا جميعا، وتحصين لنا جميعا. فلا تعيش طائفة جاحدة منا عيشة فائقة الثراء. . . وتحيا أخرى حياة الأغنام!
أيها العاجزون المحتاجون المنكوبون، لا تفكر طويلاً في عطف القادرين. . . أيها الفقراء، لا تثقوا كثيرا في قلوب الأغنياء. . . فلا يعرف الألم إلا من قاساه في يوم من الأيام. . .
(حلوان)
عماد الدين عبد الحميد