مجلة الرسالة/العدد 419/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 419 القصص المؤلف: غي دو موباسان المترجم: إيزاك شموس |
الشارب La Moustache هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1908. نشرت هذه الترجمة في العدد 419 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 14 يوليو 1941 |
الشارب
للقصصي الفرنسي جي دي موبسان
عزيزتي لوسيا:
لا جديد عندنا. نحن نقضي أوقاتنا في غرفة الاستقبال، نتلهى بالنظر إلى المطر وهو يتساقط، وحيث أنه يتعذر الخروج في هذه الأيام العابسة، فإننا نتسلى بتمثيل رواية هزلية، ولكن. . . ما أسخف الروايات التي أعدت لتمثل في الدور، كما وردت في القائمة الحالية!؟
إن كل ما فيها سمج، متكلف، غليظ!. . . ولا يقل فعل النكات التي تشتمل عليها عن فعل القنابل. إنها تحطم كل شيء مع إنه ليس فيها أدنى أثر لا للذكاء ولا للدعاية ولا للباقة!
حقاً إن رجال الأدب لا يعرفون شيئاً عن العالم! إنهم ليجهلون كل الجهل كيف نفكر وكيف نتكلم! فإذا أجزنا لهم أن يمقتوا عاداتنا ومواضعاتنا فلا يسعنا أن نجيز لهم أن يجهلوها. وهم إذا أرادوا التدليل على براعتهم وحذقهم لعبوا بالكلمات لعباً غريباً من شأنه أن يزيل غضون ثكنة بأسرها! وإذا أرادوا بعث السرور لجئوا إلى طائفة من النكات. . . لا أشك لحظة أنهم إنما جمعوها من الشارع. . . من تلك الحانات التي يدعونها (حانات الفنانين)، حيث تتكرر منذ خمسين عاماً ذات النكات، فتناقلها الطلاب ويتوارثونها. . .
اذن نحن نتسلى بتمثيل رواية هزلية، ولما كان تمثيلها يقتضي وجود سيدتين، فقد قبل زوجي أن يقوم بدور الخادم، ولذلك اضطر أن يحلق شاربه. وليس في استطاعتك يا عزيزتي (لوسيا) أن تتصوري مقدار التغير الذي طرأ على زوجي بعد حلق شاربه. . . إنني لا أكاد أعرف. . . لا ليلاً ولا نهاراً!
وإذا لم يترك شاربه ينمو من جديد، فالمرجح أنني لا أتردد في خيانته لشدة ما يبدو لي دميما بدون شارب!
والحقيقة أن الرجل لا يعد رجلاً بدون شارب! أنا لا أحب اللحية كثيراً لأنها تكاد تدل على الإهمال دائماً، أما الشارب. . . أوه الشارب! فإن وجه الرجل لا يستطيع الاستغناء عنه أبداً!
كلا! لا يمكنك أن تتصوري قط إلى أي درجة تبدو هذه الفرشاة الصغيرة من الشعر ضرورية للنظر. . . ولاسيما للعلاقات الزوجية!
ولقد عرضت لي في هذا الموضوع طائفة من الخواطر لا أجرؤ على التعبير عنها كتابة، برغم استعدادي التام لاطلاعك عليه شفاهياً بصوت خافض وبسرور وافر
إلا أنه قد يتعذر أحياناً العثور على كلمات تصلح للتعبير عن بعض الأشياء؛ وأكثر هذه الكلمات التي لا يمكن الاستعاضة عنها بغيرها تتخذ على القرطاس صوراً فضيةً لا أقوى معها على أن أخط شيئاً منها. . . ثم إن الموضوع نفسه من الدقة والصعوبة بحيث يتطلب لباقة شديدة لمعالجته بدون التعرض لخطر
وأخيراً ماذا يمكنني أن أفعل إذا كنت لا أقدر أن أجعلك تفهمينني جيداً؟
ولكن اجتهدي يا عزيزتي أن تقرئي السطور!
أجل. عندما أبصرت زوجي بدون شارب أيقنت للحال أنه يتعذر علي أن أحب ممثلاً أو مبشراً. . . حتى وإن كان الأب (ديدون) نفسه أوفر المبشرين جمالاً وأشدهم إغراء إذا كان حليق الشارب!
وعندما خلوت بزوجي كانت المصيبة أعظم!. . . أوه يا عزيزتي لوسيا لا تسمحي قط لرجل حليق الشارب أن يقبلك إذ لا يكون لقبلاته أدنى طعم!. . . مطلقاً!. . . مطلقاً!. . . فليس في قبلاته ذلك الفلفل. . . نعم إن الشارب هو فلفل القبلات وبهارها!
تخيلي رقاً جافاً أو رطباً يلامس خدك: هذه هي قبلة الرجل الذي يحلق شاربه. . . إنها بدون شك لا تساوي شيئاً!
وقد يخطر لك أن تسألينني: من أين يستمد الشارب إغراءه إذن؟ وهل تحسبينني أعرف ذلك؟
أول كل شيء الشارب دغدغة لذيذة جداً. . . تحسينه قبل الثغر، فيبعث في جسمك كله من قمة رأسك إلى أخمص قدميك رعشات سحرية تجتاحك كالتيار الكهربائي. . . فالشارب هو الذي يداعب البشرة، وهو الذي يجعلها ترتعش وتختلج، وهو الذي يبعث في الأعصاب ذلك التنميل العذب الذي يجعلك تتنهدين (آه)، كما تفعلين حين يهز جسمك برد قارس!
وعلى النحر! هل اتفق لك أن أحسست بالشارب يدغدغ نحرك؟ إن دغدغته هذه لتسكرك وتشنج أعصابك، وإنما لتنساب في ظهرك إلى أن تبلغ أطرافك، فتتلوين وتحركين أكتافك حركة خاصة، وتلقين رأسك إلقاءة خاصة أيضاً، وترغبين رغبة قوية في الفرار والبقاء معاً. . . إن قبلة كهذه لتستحق العبادة لشدة ما تبعثه من اللذة وما تحدثه من إثارة وتهيج
وعدا ذلك. . . حقاً إني لا أجرؤ على. . . إن الرجل الذي يحب زوجه يعرف كيف وأين يجد مواضع مختبئة ليدفن فيها قبلاته، مواضع لا تخطر للمرأة حتى عندما تخلو بنفسها. . . وهذه القبلات إذا لم يتقدمها شارب لا يبقى لها طعم، بل أنها لتغدو مخالفة للذوق والأدب!
ولك أن تفسري ذلك بما تشائين؛ أما أنا فأفسره هكذا: الثغر بدون شارب كالجسم بدون ثياب!. . . نعم، لا بد من الثياب، القليل منها إذا شئت، ولكن لا بد من بعضها
والخالق قد ستر بالشعر جميع مواضع الجسد التي يدفن الحب فيها؛ فالثغر الحليق إنما يبدو كينبوع عذب وسط غابة اقتلعت أشجارها
وهذا يذكرني بجملة لأحد رجال السياسة ما زالت تترد في ذاكرتي منذ ثلاثة أشهر؛ فقد قرأ على زوجي ذات مساء في إحدى الجرائد خطبة غريبة لوزير الزراعة السيد (ميلين)؛ ولست أدري إذا كان لا يزال إلى الآن في وظيفته أم حل غيره محله
لم أكن أستمع لزوجي، ولكن هذا الاسم (ميلين) لفت انتباهي؛ قد ذكرني - ولست أدري لماذا - بالحياة في يوهيميا، وخيل إلي أن الحديث يدور على إحدى العاملات المتأنقات؛ فأصخت بسمعي، وهكذا استطاعت بعض الكلمات أن تجد سبيلاً إلى رأسي
والسيد (ميلين) أدلى إلى أهالي إميان - فيما أظن - بالتصريح التالي الذي ما فتئت أبحث عن معناه: لا وطنية بدون زراعة! ولم أهتد إلى معنى هذه الجملة إلا في هذه اللحظة. . . وأنا كذلك أصرح بدوري: لا حب بدون شارب!
وقد يبدو ذلك مضحكا، حين يقال على هذه الصورة، أليس كذلك؟ لا حب بدون شارب!. . . لا وطنية بدون زراعة. . .! لقد كان السيد (ميلين) مصيباً في قوله هذا الذي لم أدرك معناه قبل هذه اللحظة. . .
والشارب ضروري من جهة أخرى، فهو الذي يحدد صورة الوجه فيجعله لطيفاً أو رقيقاً أو قاسياً أو مضحكا أو جريئاً
إن الرجل الذي يرخي لحيته إرخاءً تاماً، ويترك جميع شعره (يا لها من كلمة قبيحة!) على خديه، لا يمكن أن يكون في وجهه شيء من الرقة، لأن الشعر يخفي الملامح، وشكل الذقن والفكين يدل على أشياء كثيرة، ولكن قل من يفهمها
أما الرجل الذي يترك شاربه، فإنه يحتفظ بهيئته الحقيقية وبرقته في وقت واحد، وللشوارب أشكال متعددة تختلف عن بعضها اختلافاً عظيما، فهي تارة: معقصة، معقوفة، أنيقة. وهذا يبدو عليها أنها تحب النساء فوق وقبل كل شيء آخر!
وهي طوراً: مسننة، مهددة، حادة كالإبر. . . وهذه تميل للخمر والخيل والحرب!
وأخرى هي: غليظة، مترهلة، مفزعة. . . وهذه تخفي عادة طبعاً حسناً وطيبة عظيمة إلى درجة الضعف، ولطفاً لا يكاد يفرق عن الحياء والخجل
ثم أن ما أحبه أكثر من كل شيء في الشارب، إنه فرنسي وفرنسي بحت، فقد تحدر إلينا من أسلافنا الغالين وما انفك يتوارث حتى غدا سمة فارقة من سماتنا الوطنية
والشارب مهذار، شجاع، أنيق. . . فهو يرقص برشاقة في كأس النبيذ، ويعرف كيف يبتسم بظرف، بينا الفك الذي تستطيل لحيته، يبدو فظاً سمجاً في كل ما يأتيه من حركات!
وإليك حادثاً استنفذ جميع دموعي وجعلني أفتن بالشوارب على ثغور الرجال: حدث ذلك خلال الحرب الماضية، وكنت إذ ذاك فتاة صغيرة، واتفق ذات يوم أن جرت معركة شديدة على مقربة من قصر والدي، فأز الرصاص، وقصفت المدافع منذ الصباح، فلما هبط المساء دخل علينا قائد ألماني وأتخذ له مجلساً بيننا، ولم يلبث في اليوم التالي أن غادرنا. . . ثم جاء من أخبر والدي أن في الحقول كثيراُ من القتلى، فأمر بجمعهم وجلبهم للقيام بدفنهم
فجمعوهم ومددوهم على طرفي شارع الصنوبر من أوله لآخره، ولما بدأت تنبعث منها روائح كريهة أخذ الجنود يهيلون عليهم التراب في انتظار الانتهاء من تهيئة الحفرة الكبرى التي تتسع لهم جميعاً، وهكذا لم يعد في الإمكان رؤية شيء من جثثهم، ما عدى رؤوسهم التي كانت تبدو للناظر كأنها تنبت من الأرض صفراء مثلها بعيونها المقفلة و. . . .
فقد تملكتني رغبة قوية في أن أراهم، ولكني عندما أبصرت هذين الخطين الطويلين من الوجوه الفظيعة، شعرت كأنما أغمى علي. . . ثم رحت استعرض هذه الوجوه وأنا أحاول معرفة أصحابها
كانت بذلاتهم الرسمية مطمورة تحت أطباق الثرى، ومع ذلك فقد استطعت فجأة يا عزيزتي أن أعرف الفرنسيين من شواربهم! كان كثير منهم قد حلقوا لحاهم يوم المعركة كأنما أرادوا أن يكونوا أنيقين لآخر لحظة من حياتهم. . .! ولكن لحاهم قد عادت فنمت قليلاً، لأن اللحى تنمو - كما تعلمين - بعد الموت أيضاً. . . وكان يلوح على الآخرين إنهم لم يحلقوها منذ ثمانية أيام. . . ولكن كلهم كانوا يتميزون بوضوح تام بالشوارب الفرنسية الفخورة التي خيل إلي أنها تقول لي: أيتها الفتاة! احذري أن تخلطي بيني وبين صديقي: إني من مواطنيك!
وقد بكيت يا عزيزتي، أوه بكيت كثيراً، أكثر بكثير مما لو لم أعرف هؤلاء القتلى بهذه الطريقة. . .
لماذا قصصت عليك ذلك. . . لا شك أنني مخطئة. . . فقد بعثت هذه الذكرى في نفسي كآبة شديدة، جعلتني عاجزة عن الثرثرة أكثر مما فعلت؛ فإلى اللقاء يا عزيزتي لوسيا، إني أقبلك قبلات حارة، وليحيى الشارب!!!
(القدس)
إيزاك شموس