مجلة الرسالة/العدد 419/الحديث ذو شجون
→ أبو المظفر الأبيوردي | مجلة الرسالة - العدد 419 الحديث ذو شجون [[مؤلف:|]] |
دمشق. . . ← |
بتاريخ: 14 - 07 - 1941 |
للدكتور زكي مبارك
أحزان الإسكندريين توجه الفكر إلى نظرة فلسفية - بين
الاحتلال والاستقلال - الاحتقلال - الألعبان - عمود ونصف
- غرائب التعابير - الكاتب العمومي - شيطنة أدبية - هل
في الأدب ديكتاتورية؟ - بعض ما يجهل الشبان - صيد
الحوت في بحر الشمال! - كلمة صريحة - إلى الأستاذ (فريد
أبو حديد).
أحزان الإسكندريين
وهذا خطاب جديد من الأستاذ عبد الطيف النشار، وهو يدعوني إلى أداء دين الإسكندرية شعراً، كما أديته نثرا؛ ثم يهتف:
نبكي لغِرناطةٍ حزناً ولم نرها ... فكيف بالثغر يذوي تحت أعيننا
يزول يوماً فيوماً من محاسنه ... ما كان ملء الليالي بهجة وسنا
وأجيب بأن من العسير علي أن أوجه خيالي إلى فواجع الإسكندرية، فما أدمت التفكير في نكبتها لحظات إلا شعرت بدوار عنيف يزلزل إحساسي بالوجود
والأستاذ النشار يروي في خطابه حديث اليوناني الذي رأى بعيني رأسه رجلاً في جبة خضراء يخرج من قبر (أبي الدرداء) ويعتنق الطوربيد؛ ثم يضعه في فناء المحافظة، ويأمره بان لا ينفجر. (وهو الطوربيد الذي لم ينفجر في دار المحافظة على بعد ثلاثة أمتار من قبر أبي الدرداء، وقد وجد الطوربيد ملفوفاً في باراشوت أخضر اللون)
ثم يقول الأستاذ النشار في هامش الخطاب:
(فاتني أن أؤكد لك أن شعور العامة أنه يوم ديني من كبار المواسم لظهور كرامة فيه لأبي الدرداء الذي قتله البرد كراهية منه للنار، هو يحمي الإسكندرية من الاحتراق) وأقول: إ لا أعرف بالضبط أين دُفن أبو الدرداء، ولا أعرف المكان الذي تحتله هذه (الرواية) بين الجد والمزاح، ولكني مع هذا لا أستبعد أن يكون للأموات أياد في مصاير الأحياء؛ فقد حبرت أكثر من سبعين صفحة من صفحات (التصوف الإسلامي) في تأييد نظرية (وحدة الوجود). ولم يبق عندي شك في أن الوجود كله مربوط برباط وثيق من الكهرباء، بحيث لا تنتقل ورقة من الخضرة إلى الذبول، ولا يتحول جسد من الحياة إلى الموت، بدون أثير في الوحدة الوجودية، وإن غفل عن ذلك من يكتفون بما تقع عليه الحواس
وإذن فمن حق الإسكندرية أن تستنجد بأرواح أبنائها البررة والفجرة من أقدم عهودها إلى اليوم. ومن حقها أن تثق بأن كريها لن يطول، لأنه ليس إلا مرحلة قصيرة من مراحل الوحدة الوجودية وهي تنتقل باستمرار من وضع إلى وضع بدون أن يظهر أنها تفرق بين السعود والنحوس
ثم ماذا؟ ثم أقول لا موت في هذا الوجود، فليس فيه موجود غير حي، ولو كان هباء تذروه الرياح، فما كانت الحياة إلا عرضاً من أعراض الوجود، لنه في ذاته آصل من الحياة ومن الموت
ولهذه الفكرة الفلسفية تفاصيل لا يتسع لها هذا الحديث
بين الاحتلال والاستقلال
دعونا أصدقاء الرسالة إلى الموازنة بين حالتين من أحوال الشعوب: هما حال الاحتلال وحال الاستقلال، فكيف أجابوا؟ كان جواب الأديب (م. ف. م) أن عهد الاحتلال في مصر كان أفضل من عهد الاستقلال، ولكن كيف؟
كانت جداول (المناوبات) تنفذ بدقة في عهد الاحتلال، وكان التلاميذ أكثر التفاتاً إلى الدروس، وكان الزعماء أقوى وأقدر على النضال الشريف
وأقول إن هذه الشواهد لم تقنعني بأن الاحتلال أفضل من الاستقلال؛ فجداول المناوبات لا تحتاج في مراعاتها إلى عناء، وأنا مستعد لنقل جميع شكاياته إلى وزير الأشغال
أما انصراف بعض التلاميذ عن الدروس فله أسباب غير الاستقلال. وأما قوة الزعماء في عهد الاحتلال فلا ترجع لمزية أساسية من مزايا الاحتلال، وإنما هي فورة طبيعية يؤرثها الشوق إلى الاستقلال ويقول هذا الأديب: (الاستقلال حلو ولذيذ، ولكن. . .)
وأقول إن الاستقلال لا يوصف بأنه حلو ولذيذ أيها الفلاح الأديب، وإنما يوصف الاستقلال بأنه متعب وشاق، لأنه يفرض على جميع أبناء الأمة أن يكونوا رجالاً أقوياء، وأمناء، والتسلح بالقوة والأمانة لا ينال بغير جهاد عنيف
أما الأديب أحمد فيقول: إن صورة العبد الآمن في حمى سيده هي صورة الشعب الذي ينعم بالرغد تحت ظل الاحتلال، ثم يقول إن الاستقلال ليس وسيلة وإنما هو غاية من أبعد الغايات في الحياة
وأنا أنتظر آراء أصدقاء (الرسالة) في هذا الموضوع الدقيق على شرط أن يتركوا العبارات الخطابية، لأني أحب أن يتضح هذا الأمر بأساليب تغرس الإيمان الوثيق، مع الترحيب بالآراء التي أيدها (فلاح التوفيقية) لأن أمثال هذه الآراء تتيح فرصاً كثيرة لتبديد الشبهات التي توجه إلى عهد الاستقلال
الاحتقلال
ليست هذه كلمة الأستاذ إسعاف النشاشيبي ولا كلمة المرحوم أحمد زكي باشا، وإنما هي كلمة اللغوي المحقق الأستاذ محمد وحيد الأيوبي
الألعبان
وما دام الحديث ذو شجون فأنا أذكر نادرة تمثل أخطار الأقلام في هذه البلاد، وتبين أن عداوة الشعراء في العصر القديم ليست أخطر من عداوة الكتاب في العصر الحديث. . . والكاتب في زماننا أقدر من الشاعر على الإيذاء: لأن حرية التعبير تخلق له آفاقاً لا يصل إليها الشاعر المحبوس في قفص القوافي والأوزان، ولأن للكاتب مجالات لا يجري فيها الشاعر، وإن بالغ في التلطف والاحتيال
وكان الأستاذ وحيد الأيوبي يعادي الزعيم سعد زغلول، وكان يكتب في قدحه عبارات لذاعة تحت عنوان (الأُلعبان) أشهرها العبارة الآتية:
(ألآن، وبعد فوات الأوان، يتكلم عن السودان؟ أما أُلعبان!!!) وقد رأت (دار الهلال) أن تصدر مجلة فكاهية باسم (الألعبان) فرفضت وزارة الداخلية بحجة أن في هذا الاسم تعريضاً بالزعيم سعد زغلول، وسمحت بأن يحول الاسم من وضع إلى وضع فيصير (الفكاهة) لا (الألعبان)
أليس هذا دليلاً على أن الكاتب خلف الشاعر في إيذاء الرجال؟
اتقوا شر الكتاب ولا تخاطبوهم إلا باحتراس، فهم شعراء هذا الزمان!
عمود ونصف!
كانت أطول مقالة للأستاذ عبد القادر حمزة لا تزيد عن عمود ونصف، إلا أن ظرف قاهر يوجب الترسل الفياض
أكتب هذا بمناسبة خطاب أرسله إلى الأستاذ حافظ محمود سكرتير لجنة الاحتفال بتأبين صاحب البلاغ؛ ومنه علمت أن الوقت لا يتسع لكلمتي في رثاء ذلك الصديق الغالي
ولو كانت لجنة الاحتفال تعلم الغيب لعرفت أن كلمتي في رثاء عبد القادر حمزة لم تكن تزيد عن عمود ونصف، اقتداء بصاحب البلاغ في اكتفائه بعمود ونصف، وتوجيهاً لمن يفوتهم أن بعض المقامات تجعل الإيجاز أبلغ من الإطناب انظروا، ثم انظروا، أن عواقب المخلصين؟
كنت وحدي الصديق لصاحب البلاغ في كثير من العهود، وأنا اليوم لا أجد فرصة أتحدث فيها عنه بما أشاء، لأن الموت صرف عنه العداوات الوقتية؛ فأصبح أصدقاؤه يعدون بالألوف وألوف الألوف، بحيث يتعذر علي أصدق محبيه أن يودعه بكلمة رثاء في حفل مشهود
ما أسعدني بما صرت إليه يا أخي وصديقي!
لقد كنت أخشى أن تلاحقك العداوات فلا يقوم بتأبينك رجل غيري
ولكن نحن في مصر، يا أخي وصديقي، مصر التي تحفظ الجميل لأبنائها الأوفياء وإن تظاهرت حيناً بالتنكر لمجدهم الأصيل
غرائب التعابير
إن قلت: (كان المرحوم مصطفى يطالب بالجلاء، كانت (المرحوم) كلمة خفيفة في الترحم على رجل من نوادر الزعماء، وإنما ينبغي أن تقول: (كان المغفور له مصطفى كامل. . .) وإن قلت: (كان مصطفى رحمه الله يرى. . .) كانت عبارة (رحمه الله) عبارة جميلة. وإن قلت: (كان مصطفى كامل غفر الله له يرى. . .) كان في عبارة (غفر الله له) تعريض! فالوصف يخالف العبارة المأخوذ عنها في القيمة الأدبية، بلا موجب معقول، وإنما كان ذلك لأن التعابير لا تأخذ قوتها من المنطق في جميع الأحيان، وإنما تخضع للعرف وهو الذي يكون الإحساس
الكاتب العمومي
وحين دعى السنيور ميكلانج جويدي للتدريس في الجامعة المصرية سنة 1927 كان عليه ذوقياً أن يقول في المحاضرة الافتتاحية كلمة ثناء على مدير الجامعة والسكرتير العام، ولم يلتفت إلى اللقب الأخير من الوجهة الاصطلاحية، وإنما ترجمه عن الفرنسية فجعله (الكاتب العمومي) فضحك الجمهور، وخرج علي بك عمر رحمه الله، وهو ساخط على (ذوق) المستشرقين!
وكان علي بك عمر هو السكرتير العام للجامعة المصرية في ذلك الحين
شيطنة أدبية!
كنت قلت: إن مجلة الثقافة لا تدقق في اختيار ما تنشر من الأشعار؛ فاعترض أديب لا أسميه بأن مجلة الرسالة تقع في مثل هذا الخطأ بنشر أشعار محمود حسن إسماعيل!! والاعتراض غير مقبول، مع الاعتراف بما فيه من طرافة الشيطنة الأدبية
هل في الأدب ديكتاتورية؟
يصر الأديب عزت حماد منصور على القول بأن في مصر ديكتاتورية أدبية، وبأن الأدباء الشباب يعانون عداء من الأدباء الكهول، ثم يعجب من أن تتاح الفرصة لظهور بعض الشبان دون بعض، كالذي تصنع (الرسالة) في نشر مقالات هذا الأديب، وإغفال مقالات ذلك الأديب، بلا حدود واضحة تبين سبب النشر وسبب الإغفال
وأجيب بأن من الصعب أن أصدق أن لمجلة الرسالة نية في تقديم فريق على فريق، وإنما يرجع الأمر كله إلى (سياسة القول) فالأديب الشاب قد يتوهم أن له أن يقول ما شاء، متى شاء، بدون أن يلاحظ أن للكلام مقامات لا يدركها غير كبار العقول، وهذا هو السر في إغفال أكثر مقالات الشبان
وأنا أعرض الموضوعات الآتية:
1 - النص على غلطة جوهرية فيما تنشر (الرسالة) لكتابها المعروفين
2 - قديم اقتراح مبتكر لم نشره الجرائد فيما يجب لإغاثة المهاجرين
3 - إعداد بحث في تاريخ المدائن التي تعاني أهوال الحرب
4 - كلمة وجيزة عن الألفاظ التي حرفتها الجرائد أيام الثورة العراقية، مثل (باكوبا) و (فالوجا) في مكان: (بعقوبة) و (الفلوجة)
5 - كلمة في نقد أسئلة امتحان المسابقة لترقية التعليم الثانوي
6 - كلمة في التعقيب على أحاديث رئيس الوزراء بأسلوب بريء من التحامل والإسفاف
7 - مقال موجز (عن خط ستالين)
8 - كلمة عن الأماكن التي سميت باسم (ماجينو) في القاهرة قبل أن يستولي عليه الألمان
9 - قصيدة في الترحم على (قطار البحر) وأيامه البيض
10 - قصيدة في التوجع للمكاره التي تعانيها سورية ولبنان وقد أصبحتا ميادين حروب لثلاثة جيوش
11 - خبر أدبي لا تعرفه اللجنة التي ألفت لتأبين صاحب (البلاغ)
12 - أقصوصة تصور سخرية الإسكندرية من غرور المعتدين
13 - كلمة عن نوادر المخطوطات في مكتبة الإسكندرية لنسارع بنقلها إلى مكان أمين
14 - مقال وجيز تحدد به الأغراض الصحيحة لوزارة الشؤون الاجتماعية
15 - كلمة صريحة في الأسباب التي دعت إلى انصراف فريق من الشبان عن الزواج
16 - دعوة الجامعة إلى إنشاء قاعة للمحاضرات فيقلب مدينة القاهرة
أما بعد فأنا أقرر للمرة الأولى بعد الألف أن الأدب من صور الحياة، فافهموا عصركم وتأثروه، يا أبناء هذا الجيل، ليكون في أدبكم قوة وروح، ولا تصنعوا ما صنع الأديب الذي سخر منه صاحب مجلة (منبر الشرق) وقد توهم ذلك الأديب أن الكلام في اليأس والترحيب بالموت يقبل من جميع الناس وفي جميع الأحايين
بعض ما يجهل الشبان والشبان يتوهمون أن الكتاب المشاهير لا يرد لهم قول، وهذا خطأ فظيع، فلأولئك المشاهير مقالات يطوونها آسفين، إلى أن تسمح بنشرها الظروف
قضيت عامين كاملين في تعقب (إسكندرية أبي الفتح) ولم أر فرصة لنشر هذا البحث، لأن الأستاذ إسعاف النشاشيبي سكت عنه بعد أن تعرض له في مجلة (الرسالة) منذ ثلاث سنين
الشبان وصيد الحوت
حدثنا الأستاذ أنطون بك الجميل قال:
(كان لأحد الأدباء مقال مؤجل في جريدة الأهرام، واشتط هذا الأديب في السؤال عن مصير ذلك المقال، فقلت إن الجريدة مشغولة بقضية المؤامرات، فقال: إن موضوع مقالة أهم من تلك القضية، فقلت وما الموضوع؟ فأجاب: صيد الحوت في بحر الشمال!)
ومن المؤكد ن هذه قصة خيالية من مبتكرات رئيس تحرير الأهرام، وإن أقسم على صحتها بأغلظ الإيمان
ولكن لهذه القصة أشباه ونظائر تقع في كل يوم، فأكثر أدباء الشباب يصيدون الحوت في بحر الشمال، ولو صادوه في أيام الهجوم على النرويج لكان كلامهم فيه من ألطف ما تنشر الجرائد والمجلات
ولكنهم مع الأسف يصيدون في غير أوقات الصيد
إلى الأستاذ فريد أبو حديد
صديقي العزيز
قراء (الرسالة) يذكرون - إن كنت نسيت - أني وجهت إليك تحية خالصة بمناسبة سفرك إلى السودان، وهي تحية لم أرد بها التودد إليك، وإنما أردت بها إكرامك وإعزازك، على نحو ما أصنع في التنويه بمواطني الفضلاء حين يمضون لأداء بعض الواجبات في أحد البلاد العربية أو الإسلامية
فما الواجب للكلمة الجافية التي ندت عن قلمك في مخاطبتي؟ وكيف تصنع بنفسك هذا الصنيع فتنفر أحد محبيك بدون أن تفكر في عواقب ذلك، وقد أصلحت الأيام ما كان بيني وبينك؟ هل يؤذيك أن أثير المنافسة بين (الرسالة) والثقافة، وأنت تعرف أن المنافسة من أقوى الأسباب في إذكاء العزائم والعقول؟ وهل تنسى أن المنافسة بي هاتين المجلتين واقعة بالفعل وأن زملاءك في مجلة الثقافة يحسبون لها ألف حساب، ويتقون نارها بالصبر الجميل؟ وهل تنكر فضل هذه المنافسة عليك وقد أخرجتك من وقارك فقلت ما قلت في صديق لك يكن يسرك أن يثور بينك وبينه خلاف؟
ثم تنكر علي أن أوجه نصيحة إلى كتاب (الثقافة) مع أنكم استفتيتم قراءكم سنة كاملة ليدلوكم على سنن الصواب في الترجمة والإنشاء!
وشاء لك الذوق أن تدعوني إلى الحرص على جمال الأسلوب فكانت هذه الدعوة دليل الوهم بأنك صرت كاتباً له أسلوب؛ والوهم يصنع بأصحابه ما يشاء
وتلطفت فقلت: (لفت نظري أحد الأصدقاء إلى أن الدكتور زكي مبارك ذكر اسمي في شجون حديثه) فهل يكون معنى ذلك أنك لا تقرأ بنفسك، وإنما ترفع الأخبار إليك في جذاذات، كما ترفع إلى بعض المقامات؟ تواضع قليلاً، يا أستاذ فريد، ليفتح الله عليك!
وتقول إني لقيتك عفواً فحملتني تحية أهل السودان إلى الأستاذ الزيات، وأقول إني لقيتك عمداً لا عفواً لأهنئك بسلامة العودة، ولأقبس بعض ما طبعت تلك الزيارة على وجهك من نور وصفاء!
أما بعد فأنا غير نادم على التحية التي وجهتها إليك، لأني لم أكن أنتظر منك أي جزاء، ولأني أرجو أن أتحفك بمثلها في مناسبة ثانية، إن أراد الله أن يجعلك أهلاً لكرائم التحيات، ولعله يريد!
زكي مبارك