مجلة الرسالة/العدد 418/في الاجتماع اللغوي
→ أنّة وزفير | مجلة الرسالة - العدد 418 في الاجتماع اللغوي [[مؤلف:|]] |
من وحي الحرب ← |
بتاريخ: 07 - 07 - 1941 |
اللهجات العامية الحديثة
طوائفها ومبلغ بعد كل منها عن الفصحى
للدكتور علي عبد الواحد وافي
أستاذ الاجتماع بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول
- 5 -
لم يصل إلينا عن هذه اللهجات قبل القرن التاسع عشر إلا معلومات ضئيلة، بعضها مستقى من إشارات جاءت في ثنايا كتب القواعد والأدب، وبعضها من أغانيّ شعبية وردت في مقدمة ابن خلدون وتاريخه، وبعضها من كتب ألفت بلغة بين العامية والعربية الفصحى، ككتاب (ألف ليلة وليلة)
ولم يعن العلماء بدراسة هذه اللهجات دراسة جدية إلا منذ القرن التاسع عشر. وقد قسموها إلى خمس مجموعات تشتمل كل مجموعة منها على لهجات متقاربة في أصواتها ومفرداتها وأساليبها وقواعدها، ومتفقة في المؤثرات التي خضعت لها في تطورها: إحداها مجموعة اللهجات الحجازية - النجدية (وتشمل لهجات الحجاز ونجد واليمن)؛ وثانيتها مجموعة اللهجات السورية (وتشمل جميع اللهجات العربية المستخدمة في سوريا ولبنان وفلسطين وشرق الأردن)؛ وثالثتها مجموعة اللهجات العراقية (وتشمل جميع اللهجات العربية المستخدمة في بلاد العراق)؛ ورابعتها مجموعة اللهجات المصرية؛ وخامسها مجموعة اللهجات المغربية (وتشمل جميع اللهجات العربية المستخدمة في شمال أفريقيا)
وتشتمل كل مجموعة من هذه المجوعات على طائفة كبيرة من اللهجات؛ وتنقسم كل لهجة إلى عدة فروع؛ وينشعب كل فرع إلى شعب كثيرة تختلف باختلاف البلاد التي تستخدمه. وإليك مثلاً مجموعة اللهجات المصرية: فهي تنقسم إلى مئات من اللهجات، وكل لهجة من هذه اللهجات تنقسم إلى عدة فروع وشعب، تختلف باختلاف البلاد الناطقة بها؛ حتى أنك لتجد بين القريتين المتجاورتين المنتميتين إلى لهجة واحدة خلافًا واضحاً في كثير من مظاهر الصوت والمفردات والتراكيب والأساليب ومع كثرة وجوه الخلاف بين هذه المجموعات الخمس، فإن المتكلمين بإحداها يستطيعون، مع شيء من الانتباه، أن يفهموا كثيراً من حديث أهل المجموعات الأخرى، لاتفاقها في معظم أصول المفردات وفي القواعد الأساسية ومنحي الأساليب.
وأدنى هذه المجموعات إلى العربية الفصحى مجموعتا اللهجات الحجازية والمصرية. أما اللهجات فلنشأتها في المواطن الأصلية للعربية الفصحى، ولأن معظم أهل الحجاز ونجد ينتمون إلى عناصر عربية خالصة. وأما اللهجات المصرية فلأن صراع العربية مع اللسان القطبي الذي كان يتكلم به أهل مصر قبل الفتح العربي لم يكن عنيفاً ولم تلق في أثنائه اللغة العربية مقاومة ذات بال؛ ومن المقرر أن اللغة التي يتم لها الغلب بدون كبير مقاومة تخرج من صراعها أقرب ما يكون إلى حالتها التي كانت عليها من قبل. هذا إلى أن معظم أهل مصر منحدر من عشائر عربية الأصل.
وأبعد هذه المجموعات عن العربية الفصحى المجموعتان العراقية المغربية. أما العراقية فلشدة تأثرها بالآرامية والفارسية والتركية والكردية، حتى إن قسما كبيراً من مفرداتها وبعض قواعدها غير عربي الأصل؛ ولذلك يجد المصري مثلاً صعوبة كبيرة في فهم حديث العراقي. وأما المغربية فهي أبعد اللهجات العامية جميعاً عن العربية الفصحى. ويرجع السبب في ذلك إلى شدة تأثرها باللهجات البربرية التي كان يتكلم بها معظم السكان قبل الفتح العربي. فقد انحرفت من جرَّاء ذلك انحرافاً كبيراً عن أصولها الأولى في الأصوات والمفردات وأساليب النطق وفي قواعد نفسها
ولهجات البدو في جميع هذه البلاد أفصح كثيراً من لهجات الحضر، وأقل منها في الكلمات الدخيلة، وأدنى منها إلى العربية الفصحى. ولذلك نرى أن لهجات القبائل العربية النازحة إلى مصر وخاصة العشائر التي لم تبعد كثيراً عن حالتها البدوية القديمة، أفصح كثيراً من لهجات المصريين، وأكثر منها احتفاظاً بالأصوات العربية، وأدق منها في إخراج الحروف من مخارجها. فهي لا تزال محتفظة بأصوات الذال والثاء والظاء التي انقرضت من اللهجات المصرية؛ وأوزان كلماتها أقرب ما يكون إلى الأوزان العربية الصحيحة، ويندر أن نعثر فيها على مفرد غير عربي الأصل
ولهجات القرى في جميع هذه المناطق أفصح من لهجات المدن وأقل منها في الكلمات الدخيلة، وأدنى منها إلى العربية الفصحى. ويرجع السبب في ذلك إلى ميل سكان القرى إلى المحافظة وقلة احتكاكهم بالأجانب
وعلى الرغم من تعدد لهجات المحادثة في هذه الأمم على الصورة التي وصفناها، فإن لغة الآداب والكتابة فيها واحدة؛ وهي تمثل في جملتها اللغة القرشية التي نزل بها القرآن. ولكنها قد تطورت في تفاصيلها تطوراً كبيراً تحت تأثير عوامل كثيرة من أهمها ما يلي:
1 - اقتباس مفردات إفرنجية بعد تعريبها للتعبير عن مخترعات أو آلات حديثة، أو مصطلحات علمية، أو نظريات، أو مبادئ اجتماعية، أو أحزاب سياسية. . . وهلم جرا
2 - ترجمة كثير من المفردات الإفرنجية الدالة على معان خاصة تتصل بمصطلحات العلوم والفلسفة والآداب. . . وما إلى ذلك؛ إلى مفردات عربية كانت تستعمل من قبل في معان عامة. فتجردت هذه المفردات من معانيها العامة القديمة وأصبحت مقصورة على هذه المدلولات الاصطلاحية
3 - التأثر بأساليب اللغات الإفرنجية ومناهج تعبيرها وطرق استدلالها في المؤلفات العلمية والقصصية والأدبية وفي الصحف والمجلات. . .
4 - اقتباس كثير من أخيلة هذه اللغات وتشبيهاتها وحكمها وأمثالها. . . وما إلى ذلك
5 - إحياء الأدباء والعلماء لبعض المفردات القديمة المهجورة. فكثيراً ما لجأ الكتاب في البلاد العربية إلى هذه الوسيلة للتعبير عن معان لا يجدون في المفردات المستعملة ما يعبر عنها تعبيراً دقيقاً، أو لمجرد الرغبة في الإغراب أوفي الترفع عن المفردات التي لاكتها الألسنة كثيراً. وبكثرة الاستعمال بعثت هذه المفردات خلقاً جديداً، وزال ما كان فيها من غرابة، واندمجت في المتداول المألوف
اللهجة المالطية
تكلمت مالطة في العصور القديمة وفاتحة العصور الوسطى لغات كثيرة من أشهرها الفينيقية والبونية (القرطاجية). وهكذا شأن جميع البلاد الصغيرة المستضعفة التي ينتمي أهلها إلى عدة شعوب وتقع أرضها في طريق الغزاة والفاتحين، فتصبح دولة بينهم، ويحول ذلك كله دون أن يكون لها كيان وطني مستقر، أو قومية واضحة. فجميع البلاد التي من هذا القبيل لا تستقر على لغة واحدة، بل تتغير في الغالب لهجتها مع تغير الدولة المسيطرة عليها، وينال ألسنتها كثير من مظاهر التبلبل لكثرة ما ينتقل إليها من لهجات، وما يعتور نطقها من أساليب
وآخر لغة انتقلت إلى مالطة كانت اللغة العربية متمثلة في لهجة من اللهجات العامية المغربية السائدة في شمال أفريقيا. غير أن هذه اللهجة قد أحيطت بظروف تختلف كل الاختلاف عن الظروف التي أحاطت بسائر اللهجات العربية الأخرى؛ فسلكت في تطورها منهجاً يختلف كذلك كل الاختلاف عن منهج أخواتها، وذلك أن انعزالها عن العالم العربي وانتشارها في بلد مسيحي، وكثرة احتكاكها باللغة الإيطالية المجاورة لها، وخضوع مالطة لحكم الإنجليز، وكثرة من يفد إليها ويمّر بها من الأجانب، وانتماء هؤلاء الأجانب إلى شعوب مختلفة وتكلمهم شتى اللغات. . . كل ذلك قد وسّع من هوة الخلاف بينها وبين اللهجات العربية الأخرى، فبعدت عنها بعداً كبيراً، وفقدت كثيراً من مقوماتها، وتأثرت بطائفة كبيرة من اللغات الأوربية وخاصة الإيطالية والفرنسية والألمانية والإنجليزية، وانتقلت إليها مجموعة كبيرة من مفردات هذه اللغات، وامتزجت هذه العناصر الدخيلة بالعناصر الأصيلة كل الامتزاج، فتألف من مجموع ذلك كله مخلوق عجيب في عالم اللغات، حتى أن الكلمة الواحدة فيها لتتألف أحياناً من أصلين أحدهما عربي والآخر أعجمي ((ليبيرانا) أي نجّنا أو خلصنا، فهي مؤلفة من الفعل الفرنسي بمعنى حرر أو خلص، والضمير العربي لجماعة المتكلمين)؛ ويندر أن تعثر على مثل هذا الخلط في أية لغة أخرى من لغات العالم
ولا يزال اللسان المالطي، على الرغم من هذا كله، محتفظاً بكثير من خصائص اللهجات المغربية التي انشعبت عنها. ومن أظهر ما بقي فيه من هذه الخصائص طريقة إمالة الألف المتوسطة في معظم الكلمات (فكلمة (باب) مثلاً ينطق بها في مالطة بإمالة الألف على طريقة اللهجات المغربية
واللهجة المالطية هي اللهجة العربية الفذة التي ارتقت إلى مصاف لغات الكتابة. وقد تم لها ذلك في القرن التاسع عشر. فمنذ ذلك العهد تطبع بها الكتب والصحف والمجلات وتدون بها الرسائل، وبالجملة تستخدم في جميع الأغراض التي تستخدم فيها لغات الكتابة وهي كذلك اللهجة العربية الفذة التي تدون بحروف لاتينية.
ولا تكاد تستخدم هذه اللهجة إلا في القرى؛ أما المدن المالطية فمعظم الحديث يجري فيها بالإيطالية أو الإنجليزية
علي عبد الواحد وافي
ليسانسيه ودكتور في الآداب من جامعة السربون