مجلة الرسالة/العدد 412/مثل الغني الصالح
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 412 مثل الغني الصالح [[مؤلف:|]] |
رأي الإمام المراغي ← |
بتاريخ: 26 - 05 - 1941 |
أنا لا آلف بني قارون بحكم مَرْباي ومَحْياي وطبعي. لا آلفهم لأن فيهم شموخاً على الناس لا يدري أحد ما سببهُ، لا هم آلهة فيرزقوا، ولا هم أناس فيحسنوا؛ إنما هم صِنف من خلق الله إلههم الذهب، ومعابدهم البنوك، ورسالتهم أن يظلموا أنفسهم بالشح، ويظلموا غيرهم بالأثرة.
حبسوا مُشاع الرزق في خزائن من الحديد ومخازن من الاسمنت؛ ثم جعلوا عليها أقفالاً من صنع الشيطان لا تنفتح إلا لتأخذ؛ واستغلوا ما ركب الله في طباع الناس من تقديس المال وتمجيد أهله؛ فجعل لهم نفوذاً في الحكم، ورأياً في التشريع، وسلطاناً على العامة. وكان من وراء جشعهم وشحهم وأثرتهم وسلطتهم ودالَّتهم أن اختلت موازين الخير، وتكدرت مجاري النعمة، واحتكرت منابت الرزق؛ ووجد الضعيف مجاله الحيوي ضيقاً فاضطرب فيه، وحظه المقسوم مغتصباً فسكت عنه؛ ومِن هنا نشأت مشكلة الفقر وما نجم عنها خلال القرون من نظم وأحكام وعظات ومقالات وثورات وحروب.
ما رأيت قارونياً إلا ملكني نوع من الشعور يحسه من يلقى سجَّان النعمة وحابس القوت وغاصب الحياة. وكان في مقدور كل غني أن يكون رسول سلام وملاك حب لو أنه فقه معنى الدين، وفهم حقيقة الإنسان. وإن اللذة التي يجدها الغني البَرُّ حين يرى صنائعه يرتعون في معروفه ويستظلون بجاهه، لأصدق وأعمق من اللذة التي يدركها الغني الفاجر حين يرى ضحاياه يغمسون خبزهم في الدماء والدموع والعرق.
على أن التعبير باللذة عن ذلك الشعور الآثم الذي يجده الغني اللئيم في بؤس الناس فيه تجوَّزٌ لجهلنا اللفظ الذي يطلق على هذا الوجدان في هذا الحيوان. وبحسبي أن أضرب لك مثلين: رجلين أحدهما فاجر والآخر بَرٌّ، لتدرك بنفسك الفرق بين أثر الغني في قلب دجا فيه الكفر، وبينه في قلب أشرق فيه الإيمان.
عرفت من لئام الأغنياء رجلاً وصفته منذ عامين لقراء الرسالة فلا أسميه؛ وكان مما أملاه لسانه على قلمي قوله:
أفرط عليَّ الغني حتى غطى على بصيرتي وبصري، فلم أعرف أن لي ديناً له حرمة، وزوجة لها حق، وأولاداً لهم رعاية. وعشت لنفسي، بل لمالي: أقضي النهار له وأسهر الليل عليه، حتى كرهتني أسرتي، وحقَرتني عشيرتي، وسئمتني حياتي. وأصبت بمرض عُقام برى عظام ساقي وفخذي فلم أستطيع المشي ولا النهوض. واستولى ولدي البكر على مفاتيح الكنوز وأضفى على نفسه وزوجه وأمه وأخواته الذهب والحرير والنعيم والأبهة، وتركوني سطيحة في حجرة منعزلة لا يدخلها علي إلا الخادم بالماء والثريد والقهوة. ولا أدري لماذا استعرت في نفسي اليوم شهوة الأكل ورغبة المتاع، فأنا أشتهي كل شئ، وأبتغي كل شئ، ثم أنظر في يدي الجمَّاعة الكسوب فإذا هي معروقة كيد المسلول، فارغة كراحة السائل؛ وأدور بعيني في الحجرة الموحشة فأرى أطياف اللذين فجعتهم في أموالهم وآمالهم تخفق على الجدران ساهمة حزينة، فأتذكر كم مدين أغرقت، وكم بيت أغلقت، وكم قلب سحقت، فتنهلَّ مدامعي انهلال القَطر على خدي الغائر الشاحب، وأتمنى لو تعود قدرتي على ثروتي فأمحص خطاياي بإنفاقها كلها في سبيل الله؛ ولكن هيهات هيهات لما أرجو! لم يبق لي منها إلا حريق القلب في الدنيا، وحريق الجسم في الآخرة. حتى الدواء لا أناله، وحتى الكفن لا أرجوه! وكأنما أمات الله نصفي الساعي، وأبقى على نصفي الشاعر، لأدرك بعيني وفكري وخيالي مض الألم الذي يحسه المظلوم يُغتصَب ولا يستطيع أن يدفع، والمحروم يتشهى ولا يستطيع أن يجد، والمهموم يتلظى ولا يملك أن يموت.
ذلك مثل، والمثل الآخر رجل يسرني أن أكشف قليلاً عن اسمه: هو الأستاذ (م. محمود جلال). عرفني هذا الرجل قبل أن أعرفه، وسعى إليَّ دون أن أسعى إليه؛ وتلك مخالفة لرسوم الكبرياء لم تقع من غيره. ثم حدثني وكتب إليَّ، وزرته ثم كشفت عنه، فعلمت أنه رَجلُ وحدِه في هذه الطبقة. لا يعتبر الغني غاية كما يعتبره الاشحة، وإنما يعتقده سبيلاً غايته السعادة. والسعادة في رأيه معنى منتشر لا يجتمع لنفسه إلا بسعادة أسرته وأمته وملته. فهو لا يحتكر ولا يدخر ولا يطمع. إنما ينفق غلة أرضيه الواسعة على عامه الحاضر فلا يبقى شيئاً منها إلى قابل. وعلى هذا المبدأ يتسنى لإيمانه الكامل أن يعمر نواحي المعروف بفعله. والإيمان الكامل هو الإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بكل ما يدخل في مفهوم الحق والخير والجمال. يتجلى ذلك الإيمان في تدبيره لبيته، وتربيته لِبنيه، ومعاملته لفلاحيه، وإدارته لثروته، ونيابته عن أمته. فبيته المؤسس على الرضوان والتقوى متحف فن ومكان عبادة ودار ضيافة. وأولاده البنون والبنات قد أخذهم بأدب الإسلام، فهم يؤدون الصلوات، ويتنافسون في الخيرات، ويحفون من حول أبيهم كالملائكة لا يتكلمون إلا في العلم أو في الدين أو في الأدب. وهو في مزارعه بين أجرائه، كالأب الشفيق بين أبنائه: لا يجهد الضعيف ولا يرهق الفقير ولا ينهك المدين. أقام لهم المساجد واستقدم إليها الوعاظ والحفاظ وأهل العلم؛ وأنشأ المدارس واستخدم فيها أولى الكفاية في التعليم والتربية؛ وأسس المستشفيات ودعا إليها الأطباء المختلفين بالتناوب، وصرف فيها الأدوية بالمجان؛ وهيأ لفلاحيه ومستأجريه وسائل الصحة والراحة، وقطع من بينهم أسباب الحقد والخصومة، حتى أغناهم عن الحكومة فلم يتقدموا إليها في دفع مظلمة أو أداء معونة.
وهو في البرلمان يمثل الدفاع عن الحق الكامل والرأي الثابت، لا يبتغي من ورائه الوصول إلى الحكم لأنه لا يوصِّل إليه، ولا الحصولَ على الجاه لأنه من قبل ذلك حاصل عليه.
وهو في كل مكان يبذل من يده ومن قلبه ما يكفكف الدمع ويخفف المصاب ويساعد على حدثان الدهر؛ فأخلصت النفوس في خدمته وأجمعت القلوب على حبه.
ذلك يا أخي الفقير مثل الغني الصالح الذي استطاع أن ينشئ عالماً مستقلاً يسود فيه السلام والحب، ويرضى عنه الله والوطن. فلو أن جميع الأغنياء اتبعوا سبيله لمنحتَهم حبك وإكبارك، وشاركت في الدفاع عنهم صديقنا الدكتور مبارك.
أحمد حسن الزيات