مجلة الرسالة/العدد 412/تدخل الدولة في الإصلاح
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 412 تدخل الدولة في الإصلاح [[مؤلف:|]] |
رسالة الشعر ← |
بتاريخ: 26 - 05 - 1941 |
واجب لا مناص منه
للأستاذ علي توفيق حجاج
تناول الدكتور زكي مبارك في مقاله الطويل: (الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع) المنشور بعدد (الرسالة) 408 مسائل متنوعة الألوان مختلفة المذاهب، وتصدى فيها للرد على بعض الكتاب؛ وقد لفت نظري ذلك الخلط القريب في وجهات النظر، وأدهشني أن أرى الدكتور زكي يدعو إلى الفوضى في الوقت الذي فيه يدعو إلى الإصلاح؛ وقد استخلصت من مقاله الطويل آراءه الآتية بنصها، حيث يقول:
أولاً: (وأنا أرى أن الفرد هو الحجر الأول في بناء المجتمع وأرى من الواجب أن توجه الجهود الصادقة إلى إصلاح الفرد، لأن المجتمع يتكون من الأفراد).
ثانياً: (المنحطون هم الذين ينتظرون من الحكومة كل شيء، فهي عندهم مسؤولة عن صيانة المرافق، وتدبير جميع المنافع، وإبعاد جميع المخاطر، وإصلاح جميع الأحوال).
ثالثاً: (عيب الفرد هو اعتماده على المجتمع واحتماؤه بالقوانين فقد شلت من الإنسان مواهب كثيرة منذ اليوم الذي اطمأن فيه إلى أنه له عصبية تنصره وحكومة تحميه. . . وأنا أدعو إلى اعتصام الفرد بنفسه، قبل اعتصامه بعدالة الحكومة وحصانة المجتمع).
هذه هي خلاصة ما يقرره الدكتور زكي مبارك في مقاله.
أنا أرى:
وأنا أرى أننا جميعاً متفقون مع الدكتور في أن (الفرد هو
الحجر الأول في بناء المجتمع)؛ ولكن ما هي تلك الجهود
الصادقة التي يجب أن توجه إلى إصلاح الفرد؟. . . أليست
هي المشروعات الاقتصادية والاجتماعية التي تقوم الحكومة
(الدولة) بتنفيذها لرفع مستوى حياة الشعب ومعيشته؟ خذ لذلك مثلاً قيام الحكومة بإصلاح الأراضي البور - في شمال الدلتا
وغيرها - وتوزيعها على صغار الملاك رغبة في التوسع في
الملكيات الصغيرة والنهوض بمستوى صغار الزراع والعمال
الزراعيين؛ وقد حدثتنا الإحصائيات الرسمية للدولة المصرية
في سنة 1938 أن عدد ملاك الأراضي الزراعية في المملكة
المصرية هو 2. 444. 181 مالكاً، منهم 1. 716. 707
يملك فداناً فأقل، و567. 806 يملك من فدان إلى خمسة أفدنة،
ونسبة هؤلاء الملاك إلى مجموع الملاك في الدولة هو 593
%، ومتوسط ما يملكه الواحد منهم 20 قيراطاً فقط، وأن
الملاك الذين يملكون خمسة أفدنة فأكثر هم 159. 667،
ونسبتهم إلى عدد الملاك 56 %، فهل يعقل يا دكتور أن مالكاً
لفدان واحد، بملكته أن يقوم بتربية أبنائه وخلق جيل جديد
يتفق مع نهضة البلاد؟ هذا هو شأن الملاك، فما بالك بمن لا
يمتلكون شيئاً!؟
لقد اتخذت فرنسا وغيرها من دول أوربا إجراءات مختلفة للإنعاش الاقتصادي، خصوصاً ما كان متصلاً منها بالزراع وصغار الملاك، والعمال الزراعيين، والطبقات الفقيرة. ومما يذكر أن حكومة فرنسا وضعت في سنة 1938 نظاماً أطلقت عليه اسم: الإقطاعيات الزراعية للمعاش، وأصدرت به قانون 24 مايو سنة 1938، واستفاد من هذا النظام جميع العمال الزراعيين، بل جميع المشتغلين بالزراعة.
إن حصر الإجراءات والوسائل التي اتخذتها الدولة للعناية برفع مستوى الشعوب من الناحية الاقتصادية والاجتماعية يتطلب مجلات ضخمة، ولا يمكن لمجلة قيمة (كالرسالة)، أن تشغل وقت قرائها بسرد طويل - قد يمله بعضهم - ولكني على سبيل الإشارات، قد ضربت هذين المثالين:
الحكومات هي أم الشعب الذي يجب أن ترعاه، بل المسؤولة عن توجيهه، وتوجيه أفراده، وصيانة المرافق، وتدبير جميع المنافع، وإبعاد جميع المخاطر، وإصلاح جميع (الأحوال).
والعيب كل العيب يا دكتور على الفرد الذي لا يعتمد على احتمائه بقوانين الدولة التي تصدرها لتنظيم العلاقات المختلفة بين الأفراد والجماعات، بين أصحاب الأعمال والعمال، بين الملاك والمستأجرين، بين التاجر وعملائه، بين الموظف ووظيفته إلى آخره.
بل (لقد شلت مواهب كثيرة) بسبب عدم تشجيع الدولة لها، وتقدمت وارتقت مواهب المفكرين والمخترعين الذين أولتهم الدولة عنايتها، وشجعتهم بمختلف الوسائل، كالتعيين في الوظائف العامة، ومنح المكافآت، والامتيازات وما إلى ذلك.
والواقع أن الأعمال التي اطمئن عمالها إلى مستقبلهم، قد ارتقت وتقدمت تقدماً باهراً، بسبب رعاية الدولة لعمالها ووضعها تشريعاً روعي فيه مصلحة الطرفين، أي مصلحة العامل وأصحاب الاعمال، وضماناً للعدالة التي يجب أن تحتل المكان الأول في المعاملة.
أما (احتماء الفرد بنفسه) وأن النفس لأمارة بالسوء، فهو الفوضى بعينها، ولو كان الأمر كذلك لما أرسل الله مبشراً ونذيراً، وسنت الشرائع السماوية، ولما فكر العلماء في وضع القوانين واللوائح التي تحد من طمع الإنسان وجشعه، وحب الذات، (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى).
ولذلك أرجو أن يرجع الدكتور عن رأيه وأن يقرر معي، كما قررا العقل والناموس الطبيعي. أن يعتمد الفرد على (الدولة)، وأن يوجه عنايته دائماً للتعاون معها في سبيل الإصلاح خصوصاً بعد أن أصبح مبدأ تدخل الدولة من المبادئ المحتومة التطبيق، ما دام قائماً على أساس التضامن الاجتماعي والعدالة في توزيع الضرائب.
تدخل الدولة
إن تدخل الدولة في أحوال المجتمع والأفراد أصبح أمراً لازماً لا مناص منه منذ زمن بعيد، ولقد اضطرت الدول لفرض مختلف أنواع الضرائب كي تتمكن من القيام بأعباء مسؤولية التدخل وتكاليفه، وقد قسم علماء الاقتصاد والقانون هذا التدخل إلى الأقسام الآتية:
أولاً - التدخل الوطني: ' وهو تدخل الدولة في التجارة الخارجية أو الدولية حماية للإنتاج الأهلي إذ لابد للدولة من العمل على تنظيم القوى الإنتاجية للجماعة، وتنشيط الإنتاج وتشجيعه في مختلف نواحيه حتى يتم بذلك تكوين المجتمع أو الأمة، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق الحماية الجمركية مثلاً للواردات. وقد تدخلت حكومة مصر في هذه الناحية عندما رغبت رفع مستوى الصناعات المحلية وتشجيعها، والاستغناء جهد الطاقة عن الواردات الأجنبية. فقررت فرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات من المنسوجات الأجنبية وغيرها خصوصاً وأن الصناعات المصرية كانت في دور النشوء، ولا يمكنها أن تتحمل المنافسة الأجنبية، ولابد أن يتناول التدخل الوطني الحماية الجمركية وجميع نواحي الصناعة والزراعة والتجارة.
ثانياً - التدخل الاجتماعي: ' الغرض منه تدخل الدولة لتحسين حالة العمال ورفع مستوى معيشتهم، خصوصاً من ناحية محاربة نظام المنافسة الحرة الذي يدفع بالمنتجين إلى محاولة العمل على تخفيض نفقة الإنتاج بتخفيض أجور العمال واستعمال الأيدي الرخيصة، واستخدام النساء والأطفال.
ولما كان مركز العامل دائماً يكون ضعيفاً أمام صاحب العمل، والقوى المتنازعة غير متكافئة، فلابد من تدخل الدولة لحماية الضعيف، ولابد من سن تشريع صناعي، وتحديد ساعات العمل، ووضع نظام الأجور والإعانات والمكافآت في جميع الأحوال سواء في أحوال المرض والشيخوخة والبطالة، وتعميم نظم التأمين الاجتماعي.
وقد تدخلت الحكومات على اختلاف ألوانها: دكتاتورية كانت أو ديمقراطية في جميع نواحي النشاط.
وشرعت مصر في هذه النهضة فعمدت إلى سن تشريع إصابات (العمل)، وقانون عقد العمل، وتشغيل الأحداث، والتأمين الاجتماعي، والتأمين ضد البطالة وغير ذلك.
وفيما يتعلق بالإصلاح الاجتماعي لابد من العمل على إفساح المجال للعوامل الأخلاقية والدينية في الجماعة، بمعنى أنه لابد من إخضاع الفرد لقانون أخلاقي وسلطة عليا هي سلطة رئيس العائلة في المنزل، وصاحب العمل في المصنع، والدولة في مختلف الشؤون.
ثالثاً - التدخل الاقتصادي: ' وهو تدخل الدولة في الإنتاج، بأن تحل مكان الفرد في بعض فروع الإنتاج وبذا ينشأ الاحتكار العام، فتتولى الدولة أو البلديات أعمال السكك الحديدية والبريد والمناجم، وذلك دون تغيير في نظام الجماعة الحاضرة، فتنشأ بجانب الملكية الفردية ملكية الدولة لبعض الفروع.
وقد تطور تدخل الدولة الاقتصادي، فأصبحت الدولة تعتبر جميع نواحيها الاقتصادية وحدة اقتصادية مكونة من مجموع قوى إنتاجية تتعاون وتتضافر وتتضامن فيما بينها بحيث يستفيد الشعب من هذه القوى، ويحصل على كل ما يكون في استطاعته إنتاجه بنفسه لنفسه، ويقل اعتماده على غيره، أو بمعنى إيجاد سيطرة اقتصادية، مع الاعتراف بوجود روابط اقتصادية دولية، بشرط حماية الإنتاج المحلي الأهلي. وهذا التدخل يسمى أيضاً بنظام الاقتصاد وقد جرت عليه تقريباً جميع الحكومات على اختلافها، ويرجع تاريخ تطبيقه الحديث في مصر إلى عهد محمد علي باشا الكبير، وما زالت حكومة مصر تتخذ إجراءات من وقت لآخر في سبيل حماية الإنتاج المحلي، وبحث ودراسة وسائل تصريفه.
وقد ثبت أن تدخل الدولة غرضه الأول تنظيم جميع المرافق وإيجاد تناسق في جميع الدول.
وسائل تدخل الدولة
تتدخل الدولة لحماية الأفراد بسن القوانين - كما سبقت الإشارة إلى ذلك - ويكون فيما يتعلق بتدخلها في الإنتاج، أولاً: بصفتها مشرعاً لتنظيم وتشجيع المنشآت الخاصة، ويكون تدخلاً غير مباشر. ثانياً: بصفتها صاحب عمل ويكون تدخلاً مباشراً. ويكون ذلك بوضع قواعد عامة وشروط معينة لابد للمنشآت من إتباعها.
هذه يا دكتور بعض المبادئ العامة لتدخل الدولة مع إشارة موجزة كل الإيجاز إلى بعض وسائل تطبيق التدخل. وقد شعرت بلادنا وحكومتها نفسها وبرلماننا بأننا أمة في حاجة ملحة للإصلاح، ولا يكون ذلك إلا عن طريق تدخل الحكومة. وإليك نص ما جاء في الصفحة الثالثة من تقرير لجنة المالية بمجلس النواب عن سنة 1940 - سنة 1941.
(ولن تتحقق العدالة الاجتماعية ويرتفع مستوى الحياة العامة لطائفة كبيرة من أبناء هذا الوطن، تئن تحت أثقال الفقر والمرض والجهل، إلا باتجاه الجهود متكافئة، إلى علاج هذه الأدواء الثلاثة، والعمل على خلق طبقة من صغار الملاك، تحيا حياة إنسانية في المستوى الأدنى الذي تراه البلدان المتمدينة أقل ما يجب أن يبلغه واحد من أبنائها).
لابد وأن يكون الدكتور الفاضل زكي مبارك قد رجع عن رأيه بعد هذا البيان الموجز، وأن يقرر أنه لابد من اعتماد الفرد على الدولة واحتمائه بقوانينها.
علي توفيق حجاج