مجلة الرسالة/العدد 412/الحياة الزوجية في نظر الإسلام
→ لوجه الله ولوجه الحق | مجلة الرسالة - العدد 412 الحياة الزوجية في نظر الإسلام [[مؤلف:|]] |
في (عين شمس) ← |
بتاريخ: 26 - 05 - 1941 |
للأستاذ عبد اللطيف محمد السبكي
ينظر الإسلام إلى الحياة الزوجية نظر اهتمام ورعاية، ويعتبرها بحق الوضع الأساسي لتكوين أسر طيبة تتألف منها أمة قوية تمثل روح الإسلام في أخلاقها وسمو آدابها، وفي عظمتها وسلطانها. ويعلمنا الإسلام أن الحياة الزوجية ليست فكاهة من متع الحياة فحسب، حتى يتعفف عنها بعض الناس، وليست مغنماً تجارياً، حتى يتخذها الرجل شبكة يصيد بها أموال النساء، أو تتخذها المرأة شركاً تصيد به أموال الرجال، وإنما هي وسيلة ضرورية يكمل الرجل بها نفسه، وتكمل المرأة بها نفسها؛ فكلاهما شطر ناقص لا يتم وجوده إلا بصاحبه، ولا تعمر الدنيا إلا بهما معاً. ومن أجل ذلك وضع لها الإسلام أسباباً قوية تقوم عليها، وحاطها بالكثير من تحفظاته، حتى تكون محببة إلى الزوجين، وليسد عنهما مداخل الشيطان بينهما.
فهو يدعو - أولاً - إلى الحياة الزوجية في تأكيد من النصح. . . وبعد أن تتركز الفكرة عند من يستجيب لدعوته يرسم لنا - ثانياً - طريق الخطبة، واختيار الزوجة والزوج، ليباعد بيننا وبين التورط في الوقوع وراء رغبة عارضة، أو طوعاً بمظهر خاطف. فإذا قامت الحياة الزوجية في وضعها الصحيح بين الناس - ثالثاً - أن لكل من الزوجين آداباً يجب أن يرعاها نحو صاحبه؛ ليتصل القلب بالقلب، وتركن النفس إلى النفس، فلا تتبدل الحال بينهما من خير إلى شر، ومن يسر إلى عسر، (وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، إن الله بكل شيء عليم).
1 - الدعوة إلى الحياة الزوجية
يقول الله تعالى في شأن الزوجات والأزواج: (هن لباس لكم، وأنتم لباس لهن) فإذا كانت الزوجة في نظر القرآن كاللبس للرجل، وكان الرجل كالملبس للمرأة، فحاجة كل منهما إلى صاحبه كحاجته إلى الملبس، فإن يكن الملبس لستر معايب الجسم، ولحفظه من عاديات الأذى، وللتجمل والزينة، فكل من الزوجين لصاحبه كذلك. يحفظ عليه شرفه، ويصون عرضه من التهم، ويوفر له راحته وصحته. ومن يستغني عن هذا؟ إنما يستغني عنه من لا يبالي بشرف، ولا يعنيه أن يكون هدفاً للأنظار الساخرة، ولأقاويل السوء تنال من سيرته، ولا يتألم شعوره لتعطيل النمو في أسرته وفي أمته.
ويقول تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة. . .) فهذه الآية تنبه الرجل والمرأة إلى أن من أعظم دلائل قدرته وآيات كرمه أن خلق للرجل زوجة من لحمه ودمه ليكون الإلف أتم، والجاذبية أقوى، ولتكون الزوجة مأوى له، يسكن إليها وقت فراغه، فيأتنس بحنوها، ويتفيأ بظل عطفها، ويستمد من جانبها هناءة العيش وروح التشجيع في حياته، فتهون عليه متاعب الاعمال، ويستهين بالكفاح في الدنيا، ويستقبل شأنه كل يوم بعزم قوي وأمل جديد؛ وهكذا دواليك؛ ليظل البناء في صعود، وعمارة الكون في ازدياد؛ وهذه سنة الله تعالى، فقد أقام دنيانا على البناء والتعمير ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
كذلك من دلائل كرمه التي حدثتنا بها الآية أنه جعل بين الزوجين مودة حب، ورحمة عطف، ثابتتين لا تبليان كما تبلى مودة غير الزوجين ممن جمعت بينهما الصدف، أو ألفت بينهما الشهوات.
فمن انقطع عن التزوج فقد فاتته سلوة الحياة وأسلم نفسه للوحشة البغيضة؛ وقد يصادفه يوم قريب أو بعيد يتمنى فيه لو تدارك ما فاته.
ويقول تعالى: (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) وفي اعتبار البنين زينة الدنيا ترغيب قوي في الزواج. فإن النفس مطبوعة على حب الدنيا وزينتها بأكمل ما يستطيع المرء تحصيله.
ويقول عز شأنه: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم). فهو يأمرنا بتزويج الأيامى: وهم أهل العزوبة ولو كانوا من العبيد المملوكين، ويطمئننا من جهة الرزق فيقول: (إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله، والله واسع عليم).
ويحدثنا المولى سبحانه عن الأنبياء وعن المؤمنين الصادقين بأنهم كانوا يتمنون الذرية الطيبة، والزوجة الموفقة الممتعة، فإبراهيم عليه السلام كان يقول: (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعائي)؛ وزكريا عليه السلام كان يقول: (رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء).
فأنت ترى مقدار حرص النبيين على الذرية الطيبة، وليس للذرية سبيل غير الحياة الزوجية؛ وهذا ما كان يدعو به المؤمنون فيقولون: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إماماً). . فالأمل الذي تردد على ألسنة النبيين والمؤمنين في الزوجة والذرية، مظهر صادق لسلامة الطبع وصدق الايمان، حتى ليرويه عنهم القرآن ويمتدحهم به، ويشهد لهم بحسن المقصد وصواب التقدير لما في الحياة الزوجية من خير لهم وللناس. وهاهم المؤمنون يختتمون دعاءهم بإجمال الطلب في قولهم: (واجعلنا للمتقين إماماً)؛ وهذا هو القرآن يشيد بتلك الأماني، ويعدهم بالاستجابة: (أولئك يجزون الغرفة بما صبروا - الجنة - ويلقون فيها تحية وسلاماً. . .).
وفي هذا النبأ عن الأنبياء والمؤمنين توجيه للناس أن يأخذوا بأسباب التقليد لأولئك الصفوة، ومتابعة السير على هداهم: قضاء لحق الدين، وتلبية للطبيعة، ورعاية لحاجة الأمة في الإكثار من سوادها وتقوية جماعتها. . . وهذا هو ما أجمله النبي (ص) في قوله: (تناكحوا، تناسلوا، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة).
فهذه دعوة ملحة جهر بها النبي (ص) في صراحة أكيدة ويرددها في وجه الشباب بنوع خاص، إذ هم مطمح الأمل، وهم القوة التي يشتد بها ساعد الأمة، وعلى أيديهم نهضتها ممثلة في كل أعمالهم، فيقول النبي (ص): (يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج. . .)، يعني من تيسرت له وسائل الحياة الزوجية، فعليه أن يفعل.
وإن النبي ليرثى لمن تخلف عن الحياة الزوجية، وينبه إلى أن شيئاً آخر لا يعدلها، وإن تهيأ لبعض الأذهان القاصرة، أو لبعض النفوس التي ألهتها مطامعها وشهواتها في غير هذه الناحية عن هذه الناحية.
فيقول (ص) في ذلك: (مسكين، مسكين رجل ليست له امرأة. قالوا: وإن كان كثير المال؟ قال: وإن كان كثير المال. مسكينة، مسكينة امرأة لا زوج لها. قالوا: وإن كانت كثيرة المال؟ قال: وإن كانت كثيرة المال). . . فأنت ترى من حِكم النبوة، بل من وحي الرسالة، أن متاع المال وأن كثر لا يعدل متاع الزوجة للرجل، ولا متاع الزوج للمرأة.
وإن يكن في الدنيا ضروب من المتاع وألوان أخرى للحياة فلعل الحياة الزوجية أول هذه الضروب وأصدق هذه الألوان. ولسنا نعني مطلق الزوجة ومجرد اقتناء الحليلة، بل الزوجة التي تكفل للزوج هناءة ووفاقاً، على ما يأتي - بعد - من أوصافها. وذلك ما أُوحى به إلى النبي (ص) وجرى على لسانه في إيجاز عذب وكلمات أخاذة هي قوله: (الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة).
لا نجد من القول للترغيب في الدنيا وامتداح ما فيها خيراً من هذا ولا قريباً من هذا. وإنه لإحباط وتزييف لما يحاوله نفر من الناس في الترغيب عن متع الحياة وصرف النفوس عما خلق الله من الطيبات. فلم تكن الدنيا وما اشتملته من مظاهر القدرة وأنواع الخير إلا متاعاً للإنسان: يناله، ويشكر، ويمن به المولى - بعد - على عباده، ويثيب من شكر. ثم يترقى كلام النبي (ص) في المدح لمتاع الدنيا فيقول: (وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة). أفرأيت ما يجذب الرجل نحو الزوجة خيراً من هذا وأبلغ؟ أو رأيت أن الزوجة تعتبر خير متاع في الدنيا ثم ينظر إليها فريق منا نظرتهم إلى شيء مشؤوم، ويفرون منها فرارهم من أمر بغيض؟؟ هذه غاية الغايات في امتداح الحياة الزوجية. أفلا يكون التغاضي عنها إلا من مكابر استعذب المر واستمرأ الخبيث؟؟ إنه لكذلك.
ولقد اعتزم ثلاثة من أصحاب النبي (ص) أن يجتهدوا في العبادة، فاختار أحدهم أن يصوم دائماً، واختار الثاني أن يصلي ليله دائماً، ورغب الثالث أن يترك الزواج دائماً، فجاء إليهم النبي (ص) وقال لهم: (أنتم قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكن أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنت فليس مني) فهو يأبى على أصحابه أن يهجروا الدنيا للدين، وأن ينقطعوا عن النساء ليتصلوا بالعبادة، ويعلمهم أنه لا رهبانية في الإسلام، وأن ما يحسبونه متاعاً محضاً إن هو إلا دين محض، وهو على ما فيه من ترضية النفس أكرم وسيلة لترضية الله، وخير سنة نأخذ بها عن رسول الله، فمن زهد في متابعته فليس من دينه في شيء، ولا من الصلة بالنبي على طرف.
وإذاً كان الانقطاع للعبادة أمراً مستهجناً، والتعفف عن الزواج لذلك نبواً عن الدين، وجهلاً بمزاياه. فما بالك بمن يعتاض عن الزيجة الحلال بمن لا يحل؟ وما ظنك بمن يعاف الطيب الشهب ويتكالب على القذر الكريه؟ رب: (إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء. . .).
ورضي الله عن عمر فقد قال يوماً لرجل أعزب يراه قادراً على الزواج: لا يمنعك من الزواج إلا عجز أو فجور.
وكذلك قال بعض الأئمة من سلف المسلمين: ليست العزوبة من الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى ترك التزوج فقد دعاك إلى غير الإسلام. ولقد صدق الله ورسوله، وصدق الأئمة السابقون.
وبعد، فهذه طائفة من القول في دعوة الإسلام إلى التزوج ومفهوم طبعاً أن العاجز - لعذر قاهر - مطلوب إليه أن يتعفف عن الحرام حتى تتهيأ له الفرصة (وليستعفف الذين لا يجدون نكاحاً حتى يغنيهم الله من فضله).
فماذا لقيت دعوة الله ورسوله عند أهل الجيل الذي نعيش فيه؟ لقيت رواجاً غير منظم في الطبقات الصغيرة، ولقيت إعراضاً غير منظم في الطبقات المستنيرة، حتى أصبحت الفوضى في محيط الجماعة الأولى، وبين الجماعة الأخيرة مثلاً سيئاً تتهم به الحياة الإسلامية، وأصبحتَ ترى الفتيات الصالحات للزواج يَتطلعنَ إلى الزوج فلا يجدنه، وتلتمس الفتيات المهذبات أملهن في الرجل فلا يصادفنه.
ووراء ذلك ما وراءه مما يحزن كثيراً ولا يسر قليلاً. ووراءه ما وراءه من كساد يطفئ لمعة الشباب في وجوه الحسان، ومما يساور الآباء والأمهات على بناتهم من هموم وأحزان.
فكم من آهات حزينة، وتنهدات موجعات تلتهب بها قلوب الآباء والأمهات!
فمتى يكون في مصر قانون يردع، ما دامت القلوب لا تخشع، والآذان لا تسمع؟
(لها بقية)
عبد اللطيف محمد السبكي
المدرس في كلية الشريعة