مجلة الرسالة/العدد 41/شهر بالغردقة
→ في المزرعة | مجلة الرسالة - العدد 41 شهر بالغردقة [[مؤلف:|]] |
العالم المسرحي والسينمائي ← |
بتاريخ: 16 - 04 - 1934 |
4 - شهر بالغردقة
للأستاذ الدمرداش محمد
مدير إدارة السجلات والامتحانات بوزارة المعارف
عند آبار البترول
في الشمال من محطة الأحياء المائية وراء الأفق جبل عال تراه من المحطة إذا كان الجو صافياً ناتئاً بالبحر ببروز كبير. كان لهذا الجبل شأن كبير في قديم الزمان عند القدماء: من مصريين ورومان، فامتدت إليه همتهم وقصدوه من وادي النيل عبر الصحراء طلباً في سائل أسود كثيف ذي رائحة شديدة ينضح من جدار الجبل عند سطح الماء - هذا الجبل هو جبل الزيت، وهو سائل هو زيت البترول ولا يزال الجبل ينز بالزيت إلى يومنا هذا. وفي القرن الماضي عثر على الزيت في مغارات بالقرب من دمشة (جمسا) جنوبي جبل الزيت بنحو عشرين كيلو متراً، فدل هذا على وجود الزيت في باطن الأرض بكميات كافية للاستغلال التجاري، فتقدمت لاستغلاله شركة شل الإنكليزية، واستحوذت من الحكومة المصرية على منطقة امتياز في هذه البقعة، وبدأت العمل في مستهل هذا القرن، ثم حفرت أربعة وثلاثون بئراً مكثت تجود بالزيت حتى سنة 1927، ثم نضب معينها فهجرتها الشركة وتحولت إلى غيرها.
ويظهر إن هذا النجاح حفز حكومتنا السنية للبحث عن البترول، فاختارت بقعة جنوبي دمشة بخمسين كيلو متر تعرف بابي شعر، فأنشأت فيها في أوائل هذا القرن أيضاً مرفأ حسناً، وجعلت حوله رصيفاُ لإرساء السفن. مدت عليه سكة حديد ضيقة تربطه بالداخل لمسافة طويلة، ثم أقامت بالقرب من الرصيف المخازن والمساكن لإيواء الموظفين والعمال وجلبت إليهم الفناطيس والماكينات والسيارات والأنابيب، وكلها من أجود أنواع الصلب المتين، ثم أخذت في حفر بئر وقبل أن تتمها بدأت في حفر بئر ثانية على مسافة من الأول وقبل إكمالها توقفت عن العمل فصرفت العمال والموظفين وشونت الماكينات والأدوات وتركت الأبراج قائمة على الآبار إلى اليوم،
وقد زرنا أبا شعرة عصر أحد الأيام وهو قريب من محطة الأحياء المائية، فاستقبلن من المرفأ الخفير القائم بالحراسة من قبل مصلحة المناجم، وقال هنا في هذا المخزن عربات الترولي وفي ذاك المخزن ست عربات لوري، وهناك الوابورات (ملقحة) وعلى يمينكم بيت المدير والإدارة وعلى يساركم منازل الموظفين والعمال، وعلى رأس السكة فنطاس الزيت، وخلف التل البئر الأولى وفي الوهدة أمامكم البئر الثانية. ثم تقدمنا فتبعناه فشاهدنا برجاً عظيماً من الحديد قد أقيم فوق البئر ولا زالت الأحبال والعدد هناك كما تركها العمال منذ عشرين عاماً ونيف.
وكنت أتخيل الحارس وهو يعد محتويات أبي شعر كأنه الترجمان في منطقة سقارة أو الهرم وهو يرشد السائحين إلى مقابر الفراعنة وآثار الغابرين. وكنت أسائل نفسي في حيرة عن السبب أو الحكمة التي أملت هذا التصرف الغريب وعن العقلية التي أوحت بترك كل هذه الأدوات والعدد وثمنها لا يقل عن سبعين ألفا من الجنيهات كما قال الحارس ملقاة هكذا وسط الرمال طوال هذا الزمن حتى كادت تبلى ما دامت الحكومة قد قطعت الأمل من وجود البترول في هذه المنطقة.
وفي عام 1914 استحوذت شركة شل (أيضاً) على شقة طويلة من ساحل البحر جنوبي أبو شعرة بعشرة كيلو
مترات (فقط) في منطقة الغردقة، ثم حفرت فيها الآبار وأقامت عليها الأبراج وشيدت المعامل والمنازل وما إلى ذلك كما سيأتي وصفه.
وقد توجهنا لزيارة هذه الآبار عصر أحد الأيام برفقة صديقنا الدكتور محمود أبو زيد مفتش مصلحة المناجم وهو مندوب الحكومة لدى الشركة وله الأشراف على تنفيذ اشتراطات العقد بينها وبين الحكومة، وقد استقبلنا لدى وصولنا إلى الشركة وكيل المدير وهو إنكليزي، وبعد تبادلنا التحية أجاز لنا الزيارة، فتوجهنا إلى المعمل الفني ثم إلى منطقة الآبار، ويدير المعمل عالمان لهما دراية خاصة بالجيولوجيا الصناعية فيقدم لهما عينات من أنواع التربة التي تخرج أثناء عملية حفر الآبار فيبحثانها بحثاً مستفيضاً من حيث التكوين والعصر الجيولوجي التي تكونت أثناءه ونوع الحيوانات التي كانت تعيش فيها وهكذا، ثم يعمل بذلك رسم تمثيلي لكل بئر يدل على الترتيب الطبقي للقشرة الأرضية في مكان البئر ونسبة السمك لكل طبقة وغير ذلك من البيانات الدقيقة. ومن هذا الرسم والشواهد الجيولوجية المحلية يكون في مكنتهما أن يقدما للشركة بيانات صحيحة لدرجة كبيرة من الأمور الآتية
1 - صلاحيات المنطقة من حيث وجود البترول
2 - عمق الطبقات الخازنة له
3 - نوع البترول
4 - اتجاه البحث عند المشروع في اختيار مكان حفر البئر التالية.
ولهذا المعمل على صغره وسكون الحركة من حوله أهمية كبرى في نظر الشركة وذلك لعظم النفقات التي يتكلفها حفر البئر الواحدة، فقيمة ذلك تتفاوت بين ستة آلاف وعشرة آلاف من الجنيهات. وللقارئ أن يتصور فداحة الخسارة التي قد تصيب الشركة إذا سارت في حفر الآبار على غير هدى كأن تقوم بالحفر في منطقة رحل عنها البترول أو كانت الطبقة الخازنة له قليلة العمق ينضب معينه منها بعد وقت وجيز.
وقد انتهزت فرصة وجودي بالمعمل وسألت أحد العاملين عن رأيه في مسألة أصل زيت البترول، وهي من المسائل العلمية التي لم تقرر بعد بصفة قاطعة فأجاب انه في جانب النظرية التي تقول بأن البترول ناتج من انحلال مواد نباتية وحيوانية معاً.
خرجنا من المعمل قاصدين الآبار، وتقع في منطقة الاستنباط الأساسية عند سفح تل من حجر جيري
- المحطة نمرة 1 - وفي هذه النقطة حفرت الشركة أول بئر لها، وفد قيل لنا ان خروج الزيت منها كان بكميات عظيمة مكثت مدة تتدفق ليل نهار على هيئة نافورة، حتى أنها أغرقت من الأرض حولها مساحة كبيرة - ثم توالى بعد ذلك حفر الآبار شمالاً وجنوباً حتى بلغ عددها التسعين - وفي السنوات الأخيرة قل الناتج منها قلة ظاهرة دعت الشركة إلى الانتقال إلى المحطة نمرة (2) وهي تقع في شقة جبلية قريبة من البحر على مسافة كيلو مترين تقريباً جهة الشرق من المحطة الأولى. وعدد ما حفر من الآبار حتى وقت الزيارة بلغ سبع عشرة بئراً كلها تجود بزيت غزير.
وعملية حفر الآبار من العمليات الهندسية الدقيقة، وقد شاهدنا بئراً في دور الحفر في المحطة الثانية وقد أقيم عليها برجاً من الحديد لا يقل ارتفاعه عن عشرين متراً تتدلى من قمته أحبال من الصلب معلقة في بكرات ووقف في البرج حول البئر المهندس والعمال وكانوا يدخلون في جوف الأرض أنبوبة طويلة من الصلب، ومصدر الحركة من البرج طارة كبيرة من الخشب تديرها ماكينة قوية وقودها الزيت الثقيل.
وعلى خبرة المهندس وبراعته يتوقف نجاح حفر البئر فمثقاب ثقيل صاعد هابط وأنابيب ترسل في جوف الأرض إلى عمق ألفين وربما ثلاثة آلاف من الأقدام الواحدة تلو الأخرى في استقامة رأسية، وإشارات المهندس يتلوها أفعال وأعمال بأوضاع مختلفة مؤتلفة. والمثقاب دائب الحركة داخل الأنابيب، وفتات الصخور والرمال ترتفع من باطن الأرض إلى سطحها بطرق ميكانيكية وبصيرة المهندس تلحظ ما هو جار في الأعماق فتصلح أي انحراف يطرأ على اتجاه الأنابيب أو تسد بالسمنت ما قد يحدث من الثغرات في جدرانها حتى لا يتدفق فيها ماء الرشح أو يتسرب منها الرمل فتفسد البئر، ويستمر العمل جارياً هكذا مدة ثلاثة شهور أو أربعة وأحياناً عشرة حتى يصل المثقاب إلى طبقة البترول، وهنا يسير العمل بحذر شديد وبعناية كبيرة، وتتجلى في هذا الدور ألمعية المهندس في توقيه ما قد يحدث أحياناً من انبثاق الزيت وهو تحت ضغط هائل من الأعماق السحيقة إلى وجه الأرض بشدة عظيمة تخرب البئر وتقذف الأنابيب والأدوات في الهواء إلى علو كبير، وتغرق الأرض بكميات كبيرة من الزيت يذهب معظمه هباء وتكون الخسارة افدح لو اتصلت النار بهذا الزيت فنشب حريق هائل قد يلتهم باقي الآبار ومستودعات البترول ومباني الشركة. للمهندسين طرائق مختلفة لاجتناب هذه الكارثة - فإذا اجتاز الحفر هذه الخطوة الدقيقة ووصل المثقاب إلى الزيت نفسه رفع المثقاب وأدليت مكانه مضخة ماصة كابسة تستقر وسط الزيت على عمق لا يقل في المتوسط عن 600 متر، هذا إذا كان ضغط الغازات في باطن الأرض عاديا، أما إذا كان الضغط كبيرا فان الزيت يستمر متدفقا داخل الأنابيب من نفسه مدة طويلة حتى يهبط ضغطه، وعندئذ تدار المضخة بواسطة محركات قوية فيخرج الزيت على هيئة سائل كثيف لونه اسمر داكن مشبع بغازات فوارة ومختلط بدقائق الماء الملح وبعض المواد الصلبة والأملاح فيرسل في أنابيب إلى أجهزة خاصة لتنقية مما فيه فتنفصل عنه أولا الغازات الخفيفة التي ينتفع ببعضها محليا كوقود ثم تفصل عنه الأملاح بغسله بالماء الغذب في أحواض مقفلة ثم يفصل عنه الماء بطرق كهربائية في مصنع كبير مشيد بالقرب من الآبار، ومن جهازات التنقية يذهب الزيت إلى مستودع كبير بالقرب من الميناء لتخزينه بها حتى شحنه في السفن للسويس لتكريره وفصل مركباته عن بعضها كزيت الإضاءة وزيت الوقود والبنزين وغير ذلك - ويبلغ الناتج اليومي من البترول الخالص في حقل الغردقة 600 طن يصيب الحكومة منه نحو 60 طنا وذلك قيمة الضريبة.
يتبع
الدمرداش محمد