مجلة الرسالة/العدد 409/وتقديم الساعة مرة أخرى
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 409 وتقديم الساعة مرة أخرى [[مؤلف:|]] |
صورة. . . وصورة. . . ← |
بتاريخ: 05 - 05 - 1941 |
للأستاذ عباس محمود العقاد
يقول الراوي: سمعت فيما سمعت من فكاهات الناس أن غريباً نزل ببلد من البلدان يتفرج بالسياحة ويحتال للرزق، فلم ينفرج ضيقه، ولم يتسع في طلب الرزق طريقه؛ فخرج يوماً إلى مدافن البلد يتعظ ويستعبر، ومال على القبور يقرأ ما كتب عليها، فأذهله ما قرأ وعى بتفسيره وتأويله
هنا قبر كتبوا عليه أنه قبر الوزير العظيم فلان: حكم وعدل وأصلح وبلغ من العمر عشرة أيام
وهنا قبر كتبوا عليه أنه للقاضي الجليل فلان: كانت له أحكام يؤتم بها في مجالس القضاء، وأثرت عنه مؤلفات يتداولها الطلاب والأدباء، ومات ولم يجاوز من العمر أسبوعين
وهناك قبر لطبيب، وإلى جانبه قبر لأديب، ووراءهما قبر لسرى حسيب، وعلى مقربة منه قبر لناشئ نجيب، وما منهم معمر ولا مغتضر يجاوز الساعات والأيام، إلى الشهور والأعوام، ولا منهم إلا من تذكر له المآثر ويرتفع به المقام
فأستغرب الغريب، وسعى إلى الحارس يسأله في هذا الكلام المريب: ما خطبكم يا هذا؟. . . أحياؤكم في المدينة يشيبون ويعمرون، وأمواتكم في المقابر لا تعدّ لهم شهور ولا سنون. فهل يجاء بالأموات من بلد غير هذا البلد، أو تعدون العمر عندكم بغير ما ألف الناس من عدد؟
قال الحارس: بل هي مدافن القوم، وهي أعمار أبناء آدم، ولكنهم يسقطون منها مالا يسر ولا يؤثر، ويثبتون منها ما قضى في سرور وعمل مشكور. فمن ثم تنحسر السنوات بعد السنوات، فلا يبقى غير لحظات ولمحات، وهي التي تراها، وتحار في معناها!
قال الغريب: إن كان هذا فوصيتي لك أن تكتب على قبري حين يتوفاني الله في بلدكم: من بطن أمه إلى القبر!
ويقول الراوي مرة أخرى: ثم أدركتني سنة من النوم وأنا أعيد حكاية هذا الغريب اليائس وأسل نفسي: كم من الناس يحق له أن يزيد على ما أوصى؟ وكم من الأعمار يبلغ الساعات على هذا الحساب؟ وإني لكذلك إذ ارتفع بصري إلى دائرة هائلة الأقطار كأنها صفحة الساعة التي نقيس بها الزمن، ولولا أنها شيء لا يدرك له آخر ولا تظهر لعقربيه حركة، ولولا أن العقربين لا ينتهيان ولا يزالان ذاهبين ذاهبين إلى وجهة بخيل إليك أنها حافة وما هي بحافة، ولكنها أشبه شيء بخط الأفق المخلوق من وهم الناظر إليه الأبد كله يقاس بهذه الصفحة!! أو هي الساعة السرمدية التي ترصد بها حركات الأكوان، إن صح أن تسمى هذه الساعة وهي تشمل كل حين!
يقول الراوي: وألمح على الصفحة علامات مختلفة الشيات، لا أهم بأن استوضحها حتى يتضح لي جواب ما هممت بالسؤال عنه كأنه خطرة من خطوات الضمير لا أسمعها ولا أرى قائلها. . . هذه علامات السعود والنحوس، وهذه مفاتيح الإسراع والإبطاء، وهذه لوالب الأفلاك ومنها فلك الأرض الصغير، وهذه وهذه إلى آخر ما في الصفحة السرمدية من مجهول ومعلوم
وتتحرك يدي إلى مفتاح من المفاتيح، ويهجس في ضميري المجيب الذي لا أسمعه ولا أراه: مكانك! إلى أين؟
قلت: إلى المفتاح الذي يعبر أوقات النحوس في لمحة عين
قال: ويحك. وما أنت وعلم هذا؟ وأي نحوس تريد؟ نحوسك أنت، أو نحوس العالم أجمع، أو نحوس فريق من الناس دون فريق؟ هذه أسرار لا تهديك فيها العلامة ولا يطيعك فيها المفتاح. وإنما قصاراك أن تنظر في الساعة التي تخص حياتك إن اهتديت إليها. فهنالك ترى من ساعاتك وأيامك ما يقتضب أو يستطال، على شروط يدلك عليها الدليل الموكل بتلك الآجال
قلت: وأين أجد هذه الساعة أصلحك الله؟
قال: في خلف هذه الصفحة. . . فهنا صفحة الكون الخالد وهناك صفحات الأحياء من أبناء الفناء
واستدرنا أو خيل إلينا أننا نستدير فإذا الدوائر أمامنا متشابكات متداخلات لا يحدها الطرف ولا يحصيها الحساب، وإذا بالمجيب الذي لا أراه ولا أسمعه يشير إلى إحداهن ويقرئني عليها أسمي وعلامات السعد والنحس في عمري، ويقول لي: دونك ساعتك فاصنع بها ما أنت صانع. فهي إن عمرت أو خربت لك أو عليك قلما يضار من جرائها أحد سواك
ثم يعود صاحبنا فيقول: وأعلم أنك لا تأخذ السعادة ولا تتقي الشقاوة في هذا المكان، فإنما هو للحصر والتسجيل ثم تحال إلى الخزانة التي فيها ما تشتهيه وتتقيه، فعلى حسب ما في يدك من سجل أوقاتك وسعادتك وشقاواتك يكون التسليم من يد الخازن الموكل بهذه الأمور
ودارت المفاتيح، وذهبت إلى الخازن، وأريته السجل والتعداد، وانتظرت ما يقول، فإذا هو يراجعني مراجعة البائع المتحرج الذي تأبى له ذمته أن يستر بخساً أو يبالغ في مزية، ولا يثنيه عن ذلك غضب ولا استعجال
قال: هذه سويعات بل لحظات لك في سجل السعادة، أفأنت نازل عن عمرك كله من أجل هذه اللحظات؟
قلت: أو ليست هي سعادة خالصة؟
قال: بلى، ولكن مأمور بأن أبصرك بالحقيقة قبل أن آخذ منك أو أعطيك
فهذه اللمحات لا يدخل فيها الوقت الذي تشتاق فيه إلى السعادة، ولا الوقت الذي تحن فيه إلى ذكراها، ولا الوقت الذي تعرف فيه قدرها بفقدانها والشعور بالفارق بينها وبين نقيضها.
وهذه اللمحات تتصل بسعادات أناس آخرين لولا هم لما ظفرت بحصتك التي كتبت بعنوانك، فإما أن تتسلموها جميعاً أو تتركوها جميعاً ولا انفراد لك بالرأي فيما تختار
وهذه اللمحات إنما هي كالري للظامئ فلا إرواء لها إلا بعد إظماء، ولا محل للإيجاز في أوقات الشقاء إلا أن تصاب لمحات السعادة بمثل هذا الإيجاز
قلت: أني أغليت الثمن وبذلت عمراً كاملاً في سبيل هذه اللمحات القصار
قال: أنك لم تبذل شيئاً بل استرحت مما أنت باذل من شقاء، ولهذه الراحة ثمنها، فمن عسى أن يبذل الثمن غير المستفيد؟
قلت: أننا في عالم الدنيا نشتري الحلو والحامض ونلقي بالحامض جانباً إذا كرهناه، وغاية ما يسومنا البائع أن يبيعنا الفاكهة المنتقات بأغلى من سعر الفاكهة التي ليس فيها انتقاء. فلم لا تتبعون في بيعكم وشرائكم ما نتبعه فيما بيننا من بيع وشراء؟
قال: ذلك لأن حلاوة الحلو عندنا من حموضة الحامض، فليس بينهما انفصال! وسألته: وما النتيجة؟
فأجابني: والنتيجة أننا ننقصك من السعادة بمقدار ما ننقصك من الشفاء، وليس الأمر كما ظننت زيادة على هذه يقابلها نقصان من ذاك
يقول الراوي: فتدبرت كلام الخازن الناصح فوجدته على صواب، وتبين لي أن الصفقة لا تنعقد إذا هي انعقدت إلا على ما أشترط ووفق ما رسم. فهذه الساعة التي نعمت بها لأنني قضيتها مع من أحب، كيف أنتزعها وحدي وأعزل حسابها من حساب عمره؟ وهذه الواحة التي ابتهجت بها لأنني عبرت إليها الصحراء كيف أبتهج بها ولا أبتئس بصحرائها؟ وهذه المرارة في كأس الفتنة، كيف أتركها ولا أترك معها نشوتها وأحلامها؟ وهذه الخلاصة كيف أستخلصها ولا أتعب في استخلاصها
أيها الخازن الناصح: شكراً لك، فقد نصحت وأبلغت فهل يضيع تعبي في تقديم الساعة بغير جزاء؟
أيها الباحث عما ليس يوجد: هذا هو الجزاء، وهكذا يتعب من يختصر العمر ليختصر الشقاء!
وبعد فقد كتبت في السنة الماضية عن تقديم الزمن وتأخير الزمن، فحق لهذه السنة أن نحفل بتقديم ساعاتها وإن كنا لا نقدم ولا نؤخر بهذا الاحتفال
وأراني عشت عشرين سنة ولم أتبين جديداً يقال منذ قلت:
تبغي السعادة لا سعادة مثلها ... والعدم قسمة طالب الإكسير
ومنذ تبين لي أن الفقر نصيب من يطلب الإكسير الذي يعطي المعادن الخسيسة قيمة الذهب الإبريز، وأن الشقاء نصيب من يطلب الإكسير الذي تتساوى به معادن الأيام فكلها نفيس وكلها محمود وكلها سعيد؛ فلا ذاك يبلغ الغنى ويسلم من الفقر، ولا هذا يبلغ السعادة ويسلم من الشقاء، وحسبنا نصيب أهل، الفناء فهم في أخر الأمر تراب، وكل ما أصابوه أنفس من التراب
عباس محمود العقاد