مجلة الرسالة/العدد 409/في الأدب العراقي
→ عندما حيرها الصمت! | مجلة الرسالة - العدد 409 في الأدب العراقي [[مؤلف:|]] |
في الاجتماع اللغوي ← |
بتاريخ: 05 - 05 - 1941 |
ديوان الحبوبي
للدكتور زكى مبارك
حق الأدب على الأديب - خطبة لمبسون وخطبة تشرشل -
انتقام الغزاالي - الحبوبي بين الشعر والتدريس - لمحات من
شاعرية الحبوبي - مراجع - شهيد الدفاع - الشاعر المصري
المجهول احمد زناتى
حق الأدب على الأديب
بعد أن فرغت من مقالي عن (الصحافة العراقية) وقدمته لمطبعة الرسالة جاءت الأخبار بانقلاب جديد في العراق وهي أخبار آذتني اشد الإيذاء لأني أتمنى في كل وقت أن يعيش العراق في هدوء واطمئنان ليفرغ لتحقيق ما يسمو إليه من التفوق في ميادين العلم والأدب والاقتصاد
وكان من أثر ذلك الانقلاب وأثر اشتداد الأزمة الدولية أن أسكت عن حديث الأدب إلى أن تنكشف الغمة هنا وهناك فنجد ويجدون مساغاً للكلام عن الأدب والبيان
ولكنى رجعت فنظرت في حق الأدب على الأديب ومن حق الأدب الذي نتشرف بخدمته أن نجعل الهيام بتقييد أو أبده فرضاً من أوجب الفروض فلا نسكت عنه ولو آذنت أشراط القيامة بسقوط السماء على الأرض، والله الحفيظ من مكاره هذه الأيام. . .!
فمن طاب له أن يعجب من اشتغالنا بالأدب في أوقات لا يشغل فيها الناس بغير أخبار الحروب فليعرف أن للأدب ميداناً لا يقل خطرا عن ميدان القتال وقت شاءت المقادير أن نكون جنودا في الميدان الأدبي فمن واجبنا أن نقف صادقين في ذلك الميدان وان نتناسى ما سواه من الميادين وان كان تناسى ما يهدد مصر والشرق من المستحيلات
ولو شئت لقلت إن روح الغزالي ينتقم منى. ففي كتاب الأخلاق عند الغزالي تنديد بالرجل الذي غرق في خلوته وانقطع لأوراده، والدنيا من حوله تضج بغارة الإفرنج على بيت المقدس، وتذكره بالواجب في الدعوة إلى الجهاد
الآن عرفت أن العلماء والأدباء لا يصورون عصرهم أصدق التصوير من النواحي السياسية، وإنما يصورونها من النواحي العقلية والروحية، فأنا لا ألتفت التفاتاً جدياً إلى أخبار الحرب ولا يهمني أن أدون ملاحظاتي على ما أقرا من أقوال الزعماء، وإنما اوجه جهودي إلى متابعة الحياة الأدبية والفلسفية عساني أصل إلى أشياء يستنير بها روحي وعقلي
أليس من العجب أن تستهويني خطبة السير لمبسون عن القديس جورج أكثر مما استهوتني خطبة المستر تشرشل عن مراحل الحرب في لوبيا والبلقان، مع أن الظروف توجب أن يكون اهتمامي بالخطبة الأولى أقل من اهتمامي بالخطبة الثانية؟
كان في خطبة لمبسون فكرة فلسفية آذنتني بأنه يسايرنا في آفاق الأرواح والعقول؛ أما خطبة تشرشل فتسير في الطريق لست منه وليس مني، لأني بعيد كل البعد عن آفاق السياسة والحرب، ومن الخير ألا يعي خطبة تشرشل غير من يشتركون في توجيه دفة السياسة والاستعداد لدفع أخطار الحرب، فهم المسئولون عن وعي الدقائق من هذه الشؤون
وليس معنى هذا أني أفاضل بين ميدان وميدان، فجميع الميادين أمام الواجب سواء، وإنما أقول بأن الاشتغال بالأدب الصرف لا يعد انسحاباً من المعترك السياسي، ولا هرباً من الإصاخة لدعوة الواجب عند احتدام الخطوب، فقد أعدنا الوطن لفروض لا تقل أهمية عن السياسة والحرب، وهو لن يطالبنا بغير الوفاء لتلك الفروض، وسيرى كيف نكون عند ظنه الجميل إن أشار بإغماد الأقلام وإشهار السيوف، فلنا سواعد وعزائم وقلوب، ولن تضام مصر وهي موصولة الفتوة برجال أقوياء يعدون بالألوف وألوف الألوف
أما بعد، فإن الأخبار السود التي أطالعها في الصباح والمساء لن تصدني عن الواجب الذي أعدني له وطني، وهو خدمة الأدب في مصر وفي سائر الأقطار العربية، وأنا ماض في أداء ذلك الواجب مهما اعتكرت الظروف
فما حديث اليوم؟
ومن الأديب الذي نلوذ بماضيه الهادئ فننسى أو نتناسى ما يحيط بنا من متاعب لا يتجاهل وقعها الأليم إلا من قد قلبه من الصخر الجلمود؟ الحبوبي
نحن أمام ديوان طبع في بيروت سنة 1331هـ 1913 م على نفقة الحاج عبد المحسن شلاش، والشاعر هو السيد محمد سعيد حبوبي (أشعر شعراء الشرق أمس وأكبر علمائه اليوم) كما كتب في صدر الديوان، فمن هو بين الشعراء والعلماء؟ إن العبارة التي رقمت على صدر الديوان تشهد بأن الرجل واجه لونين من ألوان الحياة الفكرية، فعاش أولا للشعر، ثم أنقطع للعلم، وبذلك طغت شخصيته العلمية على شخصيته الشعرية؛ فإن انتهى بنا البحث إلى القول بأنه كان من الطبقة الثانية أو الثالثة بين الشعراء فسيصدق أقوام حين يقولون بأنه كان في صدر الطبقة الأولى من العلماء، وهل من القليل أن يسمو العلم بالحبوبي فيحفظ له ضريحاً في رحاب الحرم الحيدري بالنجف؟
ولكن كيف هجر الحبوبي حياة الشعر وانقطع العلم والتعليم مع ذلك الحظ من الفطرة الشعرية؟
يرجع السبب فيما أفترض إلى الرغبة في التفوق، وكان الحبوبي يعرف في سريرة نفسه أن طاقته العلمية أقوى من طاقته الأدبية. وفي المقدمة التي كتبها الشيخ عبد العزيز الجواهري لديوان الحبوبي عبارة تشهد بأنه كان مفهوما أن الحبوبي لا يقدر على مسايرة شوقي وحافظ وزناتي وصبري، وهم شعراء وصلت قصائدهم إلى العراق في ديباجة مصقولة لم يسبق لها نظير في الشعر الحديث، ولا تسهل محاكاتها على رجل يعيش في بيئة تأخذ زادها الأعظم من أقوال النحاة وقضايا الفقه والأصول
على أنه لا موجب للتكلف في البحث عن الأسباب التي قضت بانتقال الحبوبي من ميدان الشعر إلى ميدان التدريس. فالرجل فيما يظهر كان يميل إلى إيثار الحياة العلمية، وكان الناس من حوله يطيب لهم أن يروه من أعاظم العلماء، إن صح أن البيئة التي سكن إليها وسكنت إليه كانت تملك صرفه عن الانخراط في سلك أكابر الشعراء، لو أرادت به شياطين الشعر غير ما يريدون!
والواقع أن البيئة التي أحاطت بالحبوبي كانت ترجو أن يظفر بأعظم الحظوظ من الشاعرية، ولكن الرجل عرف ما يملك من الطبع، فلم يجاوز ما يطبق إلى ما لا يطبق، وإن أثقله محبوه بأضخم الألقاب والواقع أيضاً أن الحبوبي الشاعر أضاعته الحياة الفقهية، وهي حياة لا يرتفع معها شعر ولا خيال، وإن كانت في ذاتها من أجمل الحيوات، وهل تعز الشاعرية على من يسعفه الروح بمثل هذا الهتاف
إسقني كأساً وخذ كأساً إليك ... فلذيذ العيش أن نشتركا
وإذا جدت بها من شفتيك ... فاسقنيها وخذ الأولى لكا
أو فحسبي خمرة من ناظريك ... أذهبت نسكي وأضحت منسكا
وانهب الوقت ودع ما سلفا ... واغتنم صفوك قبل الرَّنق
إن صفا العيش فما كان صفا ... أو تلاقينا فقد لا نلتقي
وقد فتن الشاعر بهذا المعنى فأعاده بأسلوب آخر حين قال:
يا غزال الكرخ وأوجدي عليك ... كاد سرى فيك أن ينهتكا
هذه الصهباء والكأس من لديك ... وغرامي في هواك احتنكا
فاسقني كأساً وخذ كأساً إليك ... فلذيذ العيش أن نشتركا
أترع الأقداح راحاً قُرْقفا ... واسقني واشرب أو اشرب واسقني
فلماك العذاب أحلى مرشفاً ... من دم الكرم وماء المُزن
إن الشاعرية لا تعز على من يسعفه الروح بمثل هذا الهتاف ولا تعظم على من يزور داراً في بغداد فيروعه ما عند أهلها من صباحة الوجوه وطهارة القلوب فيقول:
فلست أدري أَأُملي فيهم غزلاً ... لما رأيتهُم أو أُنشئ المِدَحا
إن الفقه هو الذي وأد الشاعرية في صدر من كان يجيد مثل هذا النشيد:
رويداً سائق النوق ... فما ودعتُ معشوقي
فبالأحداج لي رشأٌ ... رمى سهماً بلا فُوق
يسهم اللحظ يرشقني ... وقلبي جِدَّ مرشوق
كأن القلب يوم سرى ... هوى من فوق عيِّوق
فليت العيس ما رحلت ... ولا قامت على سوق
فقد خفَّت بمنبلجٍ ... من اللألاء مخلوق
والبيت الأخير من وثبات الخيال الفقه هو الذي أضاع صاحب هذا الهتاف:
يا حامل الوردة ما ألطفك! ... فهل ترى لي اليوم أن أرشفك؟
يا وردة الناظر بالله قل ... بهذه الوردة من أنحفك؟
لا أقطف الوردة، ولكنني ... قد كدت من روضك أن أقطفك
وخلاصة القول أن الحبوبي كان آية في قوة الطبع، ودقة الذوق، ولكن الفقه جني عليه فلم يحفظ له مكان بين أكابر الشعراء
مراجع
رأى القارئ في صدر هذا المقال أني ضيق الصدر بسبب ما يثور من الأزمات الدولية، وقد حاولت أن أنتفع بفرصة الكلام عن الحبوبي فأسوق طوائف من البحوث المتصلة بتاريخ الشعر العراقي في العصر الحديث، ولكن الحوادث صدتني عما أريد، فلم يبق إلا أن أوجه نظر القارئ إلى المراجع التي تساعد على فهم شاعرية الحبوبي، وأهمها بعد الديوان كتاب (العقد المفصل) ففيه أخبار كثيرة عن الحبوبي، وفيه إشارات تشرح بعض الغوامض من ذلك الديوان
شهيد الدفاع
هذا عنوان قصيدة نظمها معالي الأستاذ محمد رضا الشبيبي في رثاء الحبوبي ومن هذه القصيدة نعرف أن الحبوبي كان نهض إلى الدفاع في المحرم سنة 1333 (1915) فأجابه خلق من أهل الفرات والأقاليم الجنوبية وسار بهم إلى (الشعيبة) ولكنهم أصيبوا بالخذلان فعاد إلى الناصرية ورابط فيها إلى أن مات في عشية الأربعاء ثاني شعبان سنة 1333
ومعنى ذلك أن الحبوبي لم يكتف بالمنزلة الأدبية والعلمية فتسامت نفسه إلى الاتسام بوسم الجهاد
وقصيدة الشبيبي في رثاء الحبوبي تضمنت إشارات إلى أغراض سياسية يضيق عنهما هذا الحديث، وفيها نفحة من قصيدة شوقي في (الأندلس الجديدة)
زناتي
مرت إشارة إلى الشاعر زناتي عند الحديث عن الشعراء الذين عجز عن مجاراتهم الحبوبي، فمن هذا الشاعر المصري المجهول؟ هو الشيخ أحمد زناتي، أحد أساتذة اللغة العربية، وكان الشاعر الثاني بعد شوقي في نظر أستاذنا الشيخ محمد المهدي، وكنا نحفظ له في عهد الحداثة قصيداً نخاله مبتدأ بهذين البيتين
أرِقتُ وأصحابي خليّونُ نوَّمُ ... وما أنا ذو شوقٍ ولا أنا مُغرَمُ
ولكنَّ هَّما بين جنبيِّ شبَّهُ ... علىَّ ذوو القربَى عفا الله عنهمُ
وقد أرجع إلى البحث عن آثار هذا الشاعر بعد حين، الشاعر الذي جهله المصريون وعرفه العراقيون.
زكي مبارك