الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 407/القرآن والمسلمون

مجلة الرسالة/العدد 407/القرآن والمسلمون

بتاريخ: 21 - 04 - 1941


للأستاذ الشيخ محمود شلتوت

وكيل كلية الشريعة

إن خير حديث يتحدث به المسلمون بعضهم إلى بعض في هذا

الشهر الذي يذكرون فيه ميلاد نبيهم محمد صلى الله عليه

وسلم، هو ما يتصل بهذه المعجزة الخالدة التي أظهرها الله

على يد هذا النبي الكريم، وبها حول العالم من سبل الشر

والشقاء، إلى سبل الخير والسعادة

وإن الحديث فيما يتصل بالقرآن الكريم لكثير النواحي. متشعب الأطراف. وقد رأينا أن يكون حديثنا في ناحية من هذه النواحي هي علاقة المسلمين بالقرآن في عصورهم المختلفة، وذلك ينتظم:

(1) القرآن والمسلمون في العهد الأول

(2) القرآن والمسلمون في العصور التالية

(3) القرآن والمسلمون في العهد الأخير

وقد رأينا تمهيداً لعرض الموضوع الذي نحاوله أن نقدم بين يديه ما يجلي لنا الغاية التي من أجلها نزل القرآن، والفكرة التي يعمل لإقرارها في هذا العالم

مقدمة

أ - كان الناس قبل القرآن في عقائدهم وأعمالهم على طرفين متناقضين: إما الإفراط أو التفريط؛ وكلا الفريقين بعيد عن جادة الاعتدال. فبينما كنت ترى فريقاً عكف على المادية البحتة، وشغف بها حتى جرت منه مجرى الدم في العروق، وحرص على تنمية عواملها، وتوطيد وسائلها، وحرم نفسه تذوق اللذة الروحية، إذا بك ترى فريقاً آخر قد نزع إلى الطرف المقابل، ونسي حظه المقدر له في المادة بمقتضى خلقه وتكوينه، فتحكمت فيه تقاليد الروح المحضة، وأعرض عن الدنيا وما فيها، وحرم نفسه متاعها ومباهجها

هذان هما الفريقان المتقابلان يستظل أولهما بظل اليهودية أو الوثنية، ويستظل الآخر بظل المسيحية أو الصابئية أو نحو ذلك

ب - إن اقتسام هاتين الفكرتين للعالم على هذا النحو، أو طغيان إحداهما على الأخرى، من شأنه أن يحول بين الناس وبين القيام بواجبهم الذي من اجله خلقوا، وجعلهم الله خلفاءه في أرضه: ذلك الواجب هو عمارة الكون والانتفاع بما خلق الله فيه من شيء، والسمو بالعقل الإنساني على وجه يسعد به الناس في معاشهم ومعادهم؛ ذلك الواجب هو الذي تضمنته الآية الكريمة في بيان حكمة هذا الخلق

(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً. ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم. وإذ قال ربك للملائكة أني جاعل في الأرض خليفة. قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك؟ قال: أني أعلم ما لا تعلمون!)

ج - جاء الإسلام وهاتان الفكرتان تقتسمان العالم وتسيطران عليه. فحدد غاية الإنسان في الحياة وأرشده إلى مقوماتها الصحيحة، وأهاب به إلى الفكرتين جميعاً، وحثه على قصد الجادة والاعتدال، وطلب إليه أن يأخذ في كل ناحية بقسط ملائم حتى تتحقق له السعادة على أكمل وجوهها. . .

أوسع له في ضروب القول مستدلاً على عقم المادية البحتة بأنواع الاستدلال، وأخذ يصورها أمامه بأبشع الصور، واتجه به إلى كثير من مواطن الحياة، وحثه على استكمال حاجته منها؛ ونعى على الروحية المحضة، وجعلها من الأساليب التي تنافر الغاية من خلقه لعمارة الكون وخلافته عن رب العالمين

اقرءوا - إن شئتم - قوله تعالى في التنفير من المادية البحتة:

(من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون) (وما الحياة الدنيا إلا لعب ولهو، ولدار الآخرة خير للذين يتقون. أفلا تعقلون؟)

واقرءوا قوله تعالى في الحث على ترك الروحية المحضة:

(قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق؟ قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة) (ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها)

واقرءوا قوله تعالى في الحث على الأخذ بالنصيبين:

(وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض)

(فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون)

جاء القرآن لهذا الغرض: مهمته أن يبلغ العقل البشري رشده، وإن ينتفع الناس بالصالح من المادة والمفيد من الروح

وقد اتخذ هذا الاعتدال نهجاً له في إصلاح العقائد وتهذيب الأخلاق وترسيخ قواعد التنظيم الاجتماعي، وصرح في كثير من آياته بأنه يعمل على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى الطريق الأقوم، وينذرهم سوء العاقبة، ويبشرهم بالحياة الطيبة إذا هم تمسكوا بمبادئه وعملوا بإرشاداته، وحرصوا على تنفيذ أحكامه

واقتضت حكمة العليم الخبير أن يكون بعضه مفصلاً وبعضه مجملاً: يفصل ما لا تختلف فيه أغراض الإصلاح، ولا تتغير فيه وجوهه بتغير الأزمان والأمكنة، وذلك ما يرجع إلى العقائد والأخلاق ورسوم العبادات، ويجمل ما تختلف أحكامه بحسب ما تقتضيه أحوال الزمن وتطورات الحياة واختلاف الأمكنة، تاركا للعلماء تطبيق ذلك على الحوادث والواقعات الجزئية التي يجود بها الزمن

وذلك كله عملاً على سعادة البشر، وإطلاقاً لسراح العقل، وحثاً لأهل البصيرة على التمتع بلذات النظر والتنافس في مجال الاجتهاد

عالج القرآن بذلك العلل النفسية والأمراض الخلقية، وحل المشاكل الاجتماعية، ورسم طريق الحياة الطيبة الصالحة فكان كما وصف نفسه:

(إن هذا القرآن يهدي التي هي أقوم)

(كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير)

(وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين) (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً)

القرآن والمسلمون في العهد الأول:

على هذا الأساس آمن الأوائل من المسلمين بالقران، فوضعوه بالمحل الأول من مكانة التقديس والعناية، وسلموا إليه نفوسهم، وتركوه يتصرف فيها بالتزكية والتطهير والتعليم والحكم والسياسة وسائر شئونهم، العامة والخاصة، الداخلية والخارجية، حتى اتسعت أمامهم مسالك الحياة وانفسحت رقعة المملكة الإسلامية طولاً وعرضاً، فما احتاجوا وهم يقبلون القرآن بين أيديهم، ويفهمون آياته الواضحة، وإشاراته الواردة على سنن اللغة العربية القويم، إلى قانون سياسي أو مدني، ولا إلى نظريات الآداب والأخلاق، بل كانوا كلما تقدمت بهم الحياة ونظروا في القرآن، رأوا فيه حاجتهم، واستفادوا منه أكبر ما تطمح إليه النفوس الوثابة المتطلعة إلى عز الدنيا ومجد الحياة!

حصروا نظرهم إلى القرآن في الفهم والاتعاظ وتنفيذ الأوامر واجتناب النواهي، وأخذوا ينشرون ما يفيضه عليهم من أصول التشريع وقوانين الأخلاق والاجتماع على سائر المسلمين في جميع بقاع الأرض شرقا وغرباً، فوحد القرآن بينهم حول الغاية التي لأجلها نزل. وما كانوا ليتجهوا أو ليحاولوا أن يخرجوا بشيء من آي القرآن كلا أو بعضاً عن هذا النهج: نهج العمل، وتهذيب الخلق، وإصلاح العقيدة

ما فكروا يوماً في أن القرآن يبرئ لهم مريضاً، أو يرد عنهم غائلة عدو، أو يكشف لهم عن معضلة كونية إلا عن طريق ما أمر به من اتخاذ الأسباب، وقدح زناد العقل، والسلوك في الحياة على ما تقتضيه سنة الحياة.

بهذا سار المسلمون الأولون، وعظم سلطانهم، وتربت مهابتهم في قلوب الأمم، ودخل الناس في دين الله أفواجاً.

وبهذا حافظوا على وحدتهم فلم يتفرقوا في العقائد، ولم تشتتهم الأهواء والمذاهب، وسلم لهم دين الله وكتابه خالصين متينين لم تلعب بهما الشهوات، ولم يتطرق إليهما عوامل الأحداث والابتداع

القرآن والمسلمون في العهود التالية مضى ذلك العهد، وقد اتسعت بفضل القرآن وتأثيره في النفوس رقعة الإسلام، وامتد سلطانه، ودخلته حضارات وثقافات وعناصر مختلفة وأمم متباينة، فبدأت عوامل التفكك تتسرب إلى الوحدة الإسلامية

حدثت بدعة الفِرق، والتطاحن المذهبي، والتشاحن الطائفي، وأخذ أرباب المذاهب وحاملو رايات الفرق المختلفة يتنافسون في العصبيات المذهبية والسياسية، وامتدت أيديهم إلى القرآن، فأخذوا يوجهون العقول في فهمه إلى وجهات تتفق وما يريدون وبذلك تعددت وجهات النظر في القرآن، واختلفت مسالك الناس في فهمه وتفسيره، وظهرت في أثناء ذلك ظاهرة خطيرة هي تفسير القرآن بالروايات الغريبة والإسرائيليات الموضوعة التي تلقفها الرواة من أهل الكتاب وجعلوها بياناً لمجمل القرآن وتفصيلاً لآياته، ولم يروا بأساً من أن يضيفوا إليه خصائص موهومة في شفاء الأمراض وقضاء الحاجات وتفريج الكربات

ومنهم من عني بتنزيل القرآن على مذهبه أو عقيدته الخاصة، وبذلك وجدت تحكمات الفقهاء والمتكلمين وغلاة المتصوفة وغيرهم ممن يروجون لمذاهبهم ويستبيحون في سبيل تأييدها والدعاية لها أن يقتحموا حمى القرآن، فأصبحنا نرى من يؤول الآيات لتوافق مذهب فلان، ومن يخرجها عن بيانها الواضح وغرضها المسوقة له لكي لا تصلح دليلاً لمذهب فلان، وبهذا اصبح القرآن تابعاً بعد أن كان متبوعاً، ومحكوماً عليه بعد أن كان حاكما

كانت هذه ثورة، وثورة غير منظمة، عقدت حول القرآن غباراً كثيفاً حجب عن العقول ما فيه من نور الإرشاد والهداية. وكان من سوء الحظ أن صادفت هذه الثورة عهد التدوين، فحفظت ودونت كثير من الآراء الباطلة في بطون الكتب، وأخذت بحكم الأقدمية ومرور الزمن نوعاً من القداسة التي يخضع لها الناس، فتلقاها المسلمون في عصور الضعف الفكري والانحلال السياسي كقضايا مسلمة وعقائد موروثة لا يسوغ لهم التحلل منها ولا الاعتداء عليها ولا التشكيك فيها

قيد هذا التراث العقول والأفكار بقيود جنت على الفكر الإسلامي فيما يختص بفهم القرآن، والانتفاع بهداية القرآن، فجمد الناس على تقليد هذه الكتب، واتخذوها حكما بينهم، واعتقدوا كل ما فيها من غير تمييز بين حق وباطل ونافع وضار، واعتقدوا أنه لا يصح لمؤمن أن ينكر شيئاً منها، وقالوا: هذا شيء درج عليه السابقون المتقدمون، ودونوه في كتبهم، وشرحوا به كتاب الله، وتلقته الأمة بالقبول؛ وما كان لنا، ولسنا بأعلم منهم بالدين، ولا بأبعد نظراً في فهم أساليب القرآن وتخريج الأحكام، أن نحيد عما تلقيناه منهم قيد شعرة، ولا أن نخالفه في قليل ولا كثير

وبذلك اسلموا عقولهم إلى غيرهم، وجنوا على أنفسهم بحرمانها لذة التفكير، وجنوا على دينهم باعتقاد أن هذه الأوهام من الدين

وكما أفسدت عليهم هذه النزعة حياتهم الفكرية، وصورت لهم دينهم بهذه الصورة المشوهة، جنت كذلك على حياتهم العملية فتركتهم يزهدون في الدنيا، ويكبلون الناس بما يفهمونه من معنى القضاء والقدر، ويكلونهم إلى التوكل الجاف الذي لا يعتمد الأسباب: وبذلك افتقر المسلمون والناس من حولهم أغنياء، وضعفوا والناس من دونهم أقوياء، وحيل بينهم وبين الأخذ بالأسباب على حين سخر الناس السماء والأرض والجو والماء!

(البقية في العدد القادم)

محمود شلتوت