مجلة الرسالة/العدد 406/مفتاح السر المجهول
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 406 مفتاح السر المجهول h |
في المصادر والأصول ← |
بتاريخ: 14 - 04 - 1941 |
(لكاتب كبير)
لكل موجود قوة حيوية تنفع كل النفع أو بعض النفع في إذكاء روح
الوجود، وما كان تفاوت الأوصاف بمانع أهل الضعف من القول بأن
لهم فضلاً في إكمال الصورة الملونة لخريطة الموجودات. وهل عرفت
قيمة الفاضل إلا بالقياس إلى المفضول؟
ولكني لا أريد لك أن تكون إشارة تكميلية في الصورة الوجودية، ولا يرضيني أن يقال أنك على ضعفك مظهر من مظاهر الوجود، فما أرضى لك هذا المصير إلا يوم يصح عندي أنك لا تملك تغيير ما بنفسك، وانك لم تخلق إلا لتكون شاهداً على أن الناس درجات. ومن أين عرفت يا جاهل أن الله لم يرد لك الصيرورة إلى منازل الأشراف من أحرار الرجال؟
أنك تستطيع أن تكون عظيما حين تشاء، والعظمة الحقيقية هي أن تكون رجلاً نافعاً إلى أبعد الحدود في الميدان الذي أرادت الطبيعة أن تقفك فيه وقفة الحارس الأمين، فتكون أعظم الأدباء والمفكرين أن شئت، وتكون أكبر رجال الأعمال أن أردت، وتكون إماما في الصناعة أو التجارة أو الزراعة، وفقا لما خصك به الله من المواهب الأساسية، على شرط أن تهتدي إلى مفتاح السر المجهول.
فما هذا السر؟ وما ذلك المفتاح؟
السر هو نفسك، والمفتاح هو عقلك. واليك أسوق الحديث:
في النفس قوى غافية تفوق العد والإحصاء، وهل عرف إنسان قيمة ما تنطوي عليه نفسه من أعاجيب البراعة وغرائب القدرة على خلق المستحيل؟! لو عرف بنو آدم أقدار أنفسهم لحولوا الصحارى إلى رياض وبساتين، وعاشوا من أرواحهم في جنات وفراديس. وكيف وبنو آدم بلا عقول، كما عبر أبو العلاء؟!
ادرس نفسك في كل وقت وحاول التعرف إلى ما في قرارها من القوى الغافية، وتذكر يا جاهل أن أكثر العظماء لم يكونوا في بداياتهم إلا نكرات لا تبشر بشيء، وتذكر أنك لم تصل إلى غاية بعيدة أو قريبة إلا بعد لاستصباح بالأقباس المكنونة في سرائر نفسك، الذي يمنع من أن تجعل التعرف إلى قواك النفسية والروحية فرضاً من فروضك في صباحك ومسائك؟
احترس من الغفلة عن نفسك، فللنفس ومضات تغير أرجاء الوجود. والتأهب للاستفادة من ومضات النفس يزيدها إشراقا إلى إشراق.
وهل كان ما ترى من الروائع والنوادر والغرائب في آثار الأذواق والقلوب والعقول إلا إثارة من التأهب لتلقي الوحي الصادر عن ومضات النفس؟
هي جوهر يشع في كل وقت، فارفع الحجاب عن عينيك لتنتفع بذلك النور الوهاج، فإن لم تفعل فأنت مجرم في حق نفسك، وفي حق وطنك، وفي حق الإنسانية.
وهل ترى من المستحيل أن توفق إلى كشف أفق جديد يزيد ثروة الناس في الفكر والمعاش؟
جرب حظك في محاولة التعرف إلى سرائر نفسك، فقد تصبح قوة كهربائية تغير ما بحيوات الناس من ألوان وأفانين؛ وقد تكون لمحة واحدة خليقة بأن تجعل لك مكانا بين أهل الخلود أن أحسنت التأهب لتلقي ذلك الوحي الجليل.
ولكن متى تحسن فهم أسرار نفسك، وأنت عنها في شغل بالظواهر الخوادع من توافه الشؤون؟
أن عقلك هو الذي يهديك إلى الانتفاع بالقوى المستورة في أطواء نفسك، فهل استهديت عقلك؟ وهل فكرت في أن أكابر الموهوبين قد لا يكون بينهم وبينك من الفروق ما يستوجب أن يتقدموا وتتخلف؟
فكر في مصيرك، يا جاهل، فقد يحطك الله في جهنم لأنك لم تحسن الانتفاع بهدى عقلك في معرفة قوى نفسك، والنفس هي اشرف الأرزاق.
وما النفس وما العقل؟؟
الذي يهمني هو الاطمئنان إلى أنك تعرف جيدا أنك خلقت لغاية غير الغاية التي خلق لها أخوتك وزملاؤك، فالإنسان هو الحيوان الوحيد الذي تختلف فيه ملامح الوجوه، ومن الواجب أن تختلف فيه ملامح العقول، فمن أنت؟ وما صورة وجهك؟ وما سمة نفسك؟ وما صبغة عقلك؟ تفرد وتوحد، يا خلقة الواحد المتفرد. كن أمة وحدك ليرضى عنك من سواك، فما خلقك إلا وهو يريد أن تكون فريداً في الصورة والمراد. فهل تراني دللتك على مفتاح السر المجهول، وأنا من البحث عنه في حيرة وضلال؟
أنا وأنت رفيقان هائمان في بيداء الوجود، وفي صدري من اللوعة إلى كشف المجهول بعض ما في صدرك، فخذ بيدي كما أخذت بيدك، لنصل إلى شاطئ المعرفة واليقين بسلام وأمان، والله يهديني ويهديك!!
(كاتب)