مجلة الرسالة/العدد 405/الأندية العربية في العراق
→ في المصادر والأصول | مجلة الرسالة - العدد 405 الأندية العربية في العراق [[مؤلف:|]] |
في العقد ← |
بتاريخ: 07 - 04 - 1941 |
للدكتور زكي مبارك
تمهيد - حفلات القبول - السهرات الصحفية بين القاهرة
وبغداد - نادي المعارف - نادي المثنى - نادي الشبان
المسلمين - نادي الهداية الإسلامية - النادي العسكري - نادي
البصرة - نادي الجزيرة - الرابطة العلمية والأدبية بالنجف -
نادي القلم العراقي.
تمهيد
حين زرت بغداد للمرة الثانية سألت معالي الدكتور سامي شوكت عن منزل أخيه الدكتور صائب شوكت فقال: (إنه يقيم في شارع المرحوم أبي نؤاس) وقد فخم كلمة (المرحوم) ليبرز معنى الدعابة في تعبيره الطريف.
والمرحوم أبو نؤاس يحدثنا في خمرياته أنه كان يجد الحانات مغلقة الأبواب، وأنه كان ينادي أهلها من وراء الحجرات ليسعفوه بالشراب وأدوات الشراب، وللشراب أدوات مختلفات الألوان.
وقد سمعت أن حانات بغداد لا تزال على عهدها القديم: فهي تغلق بعد مضي ساعات قلائل من صدر الليل، وتحوج قاصديها إلى قرع الأبواب، برفق أو بعنف، وفقاً لظرف الزمان وظرف المكان، فلكل محلة في بغداد ظروف.
ماذا أريد أن أقول؟
أنا أريد القول بأن تقاليد العراقيين في القديم والحديث توجب أن تكون سهراتهم في البيوت، على نحو ما كانت الحال في مصر إلى عهد قريب، ويشهد بقوة تلك التقاليد إغلاق الحانات في صدر الليل، وسهرات البيوت في العراق القديم وجدت خلفاً سعيداً هو سهرات الأندية في العراق الحديث.
فكيف الحال هنالك؟ وهل بقى للمنازل حظ بجانب الأندية الأدبية؟ حفلات القبول
في العراق ما يسعى (يوم القبول) وهو ما نسميه في مصر (يوم الاستقبال) وهو يوم من أيام الأسبوع ينتظر فيه الرجل زائريه في الصباح أو في المساء: فمعالي السيد محمود صبحي الدفتري يستقبل زائريه في صباح الجمعة، وهو صباحية جميلة يتلاقى فيها أعيان أهل الأدب في بغداد، ولها تأثير شديد في توجيه الحياة الأدبية والاجتماعية. ومعالي الشيخ محمد رضا الشبيبي يستقبل زائريه في مساء الخميس، وقد يتلطف باستقبال زائريه في كل مساء، لأنه يقيم بضاحية نائية تسمى (الزوية) وله على شط دجلة ناد جميل يشرح الصدور، ويؤنس العيون، وفي ذلك النادي تثار مشكلات متصلة بالعلوم والآداب والفنون، وتسمع فيه أغاريد (أبى كلثوم الوفدي) وهو الشاعر المفتون بأغاني أم كلثوم وأخبار الوفد المصري، هو السيد باقر الشبيبي الذي يحب مصر أكثر مما يحبها المصريون أعزه الله وأدام عليه نعمة الوفاء.
وخلاصة القول أن لأكثر أهل العراق أندية تقام في البيوت أيام القبول وهي أندية توجه الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية وتسير بالمجتمع العراقي إلى غايات فيها القريب والبعيد، وقد تكون لها صلة بما يظهر في الجو العراقي من شؤون وشجون، فالرجال هنالك لا يكفون عن مراقبة الاتجاهات المحلية إلا في أندر الأحايين.
السهرات الصحفية
وبجانب حفلات القبول تقام سهرات الصحفيين في دور الجرائد والمجلات، وهي سهرات فاتنة إلى أبعد الحدود. وهل أنسى سهراتي في إدارة جريدة (العراق) وجريدة (البلاد)؟ وهل أنسى أن إخواني في جريدة (الهدف) كانوا يمدون روحي بأكواب الصفاء؟ وهل أنسى أن كؤوس الشاي في جريدة (بغداد) كانت أطيب من كؤوس الصهباء؟
الصحفيون في العراق يذكرون بإخوانهم في مصر من حيث الجاذبية وخفة الروح، وأنديتهم في جرائدهم تذكر بأنديتنا في جرائدنا، فما ينسى أحد كيف كان النادي الأدبي في جريدة (الجهاد) وكيف يكون النادي الأدبي في جريدة (الأهرام) وجريدة (المصري) وجريدة (السياسة) وإن امتزج نادي (السياسة) بنادي الأحرار الدستوريين. وهل كانت (ندوة الدستور) إلا ندوة أدبية قليلة الأمثال؟
إن الأنس الذي يجده من يسمر بدار (الرسالة) أو دار (الأهرام) له نظائر فتانة في دار (العراق) أو دار (البلاد)
وكما نجد في سهرات الصحافة المصرية أقطاب الرجال في أكثر الميادين، نجد في سهرات الصحافة العراقية أقطاب الرجال في الأدب والسياسة والاجتماع.
وإذا صح للمنفلوطي أن يسجل أن النادي الأدبي في جريدة (المؤيد) خلق أكابر الباحثين فإنه يصح لنا أن نسجل أن الأندية الصحفية في مصر والشام والعراق سيكون لها فضل عظيم في تكوين الجيل الجديد.
نادي المعارف
وأنتقل إلى الحديث عن الأندية الأدبية فأقول:
أول ناد أدبي عرفته في بغداد هو نادي المعارف، والمعتمد لهذا النادي هو السيد رشيد العبيدي، وهو أديب عراقي تخرج في مصر بمدرسة دار العلوم، وهو زميل السيد حسين بستانة، إليه والى من تخرجوا في دار العلوم أقدم أطيب التحيات، فهم سفراء مصر في العراق.
ونادي المعارف هو نادي المعلمين، وفيه شربت أول كأس من ماء دجلة، وفيه كنت ألقى من يسألون عني في مساء كل خميس.
في نادي المعارف يلتقي المعلمون كل يوم، فيقرءون الجرائد والمجلات، ويتجاذبون أطراف الأحاديث، ويستعدون لاستقبال من يفد على بغداد من رجال العلوم والآداب والفنون.
فإن قلت إن (نادي المعارف) في بغداد له تأثير في توجيه الحياة الأدبية فأنت صادق كل الصدق، لأنه موصول الأواصر بأكثر البلاد العربية، ولأن رجاله من أكابر المدرسين، والمدرسون هم المصلحون الأوائل في جميع الشعوب.
نادي المثنى
ونادي المثنى هو نادي العروبة، ومعتمده هو الدكتور صائب شوكت، ولهذا النادي حفلات أسبوعية لاستماع المحاضرات ومجاذبة الأحاديث، ومن أعضائه السيد محمد مهدي كبة والدكتور عبد المجيد القصاب والسيد عبد المجيد محمود، وقد تفضل أعضاء هذا النادي فمنحوني (عضوية الشرف)، والذي وصلني بهم هو تلميذي القديم السيد جلال الأورفه لي، ذكره الله بكل صالحة، وأكرمني بدوام نعمته عليه، فهذا المحامي النابغ كان السبب في أن أقضي سهرات جميلة بقصر صاحب السمو الأمير عبد الإله قبل أن يصير وصياً على عرش العراق.
نادي الشبان المسلمين
هو ناد يقوم بالكرخ في دار جمعية الشبان المسلمين، وهو ناد خفيف الروح، وتقام به سهرات مصقولة الحواشي، وفيه سمعت محاضرة جيدة للأستاذ محمد بهجة الأثري، وهو شاعر مجيد يعرفه قراء الرسالة، وله صداقات متينة مع كثير من الأدباء الكبار في مختلف البلاد العربية. وكانت له مطارحة أدبية مع الأستاذ الزيات سجلها في كتيب لطيف. وقد عرفته أول مرة حين دعاني سعادة الأستاذ عبد القادر الكيلاني للتسليم عليه في دار المفوضية العراقية بالقاهرة، والسيد عبد القادر هو اليوم عراقي له دار مصرية في بغداد، وهو النموذج الحق للذاتية العربية والإسلامية، أدام الله نعمة التوفيق.
نادي الهداية الإسلامية
لم أزر هذا النادي، وإنما رأيت آثاره الجميلة في إحياء المواسم الإسلامية، وله مجلة باسمه يديرها الأستاذ الطائي، ومن أعاظم رجاله الأستاذ طه الراوي، وهو رجل عظيم لا أمل ولن أمل من الثناء عليه، بعد أن رأيت دموعه تنحدر يوم أطلق الرصاص على بعض الأساتذة المصريين في بغداد.
وطه الراوي أستاذ مخضرم تزود من الثقافة الدينية والثقافة المدنية، وهو من أقدر الناس على ضبط النفس، فما تسمع منه كلمة تشوك خصومه في محضر أو مغيب. ويوم تفكر مصر في مبادلة الأساتذة سيكون من واجبي أن أقترح استقدامه للتدريس في كلية اللغة العربية أو دار العلوم أو كلية الآداب.
فمتى تفكر مصر في هذا النظام ليتعارف المصريون والعراقيون بدون التعرض للتكاليف المالية؟
والمهم أن أسجل أن هذه الجمعية لها مجلة تنشر الثقافة الدينية والأدبية كالجمعية الشبان المسلمين مجلة تسمى (العالم الإسلامي) ولهاتين المجلتين تأثير في تكوين الأذواق وتهذيب النفوس، وإن كنت لا أدري ما صارتا إليه بعد أن حرمت الاستصباح بظلام الليل في بغداد.
النادي العسكري
هو نادي الضباط، وهو ناد له في ذهن الأستاذ الزيات تاريخ. فقد قال فيه كلمة لن ينساها البغداديون، فما هي تلك الكلمة؟ أظنه قال أنه كان يسمع فيه صوت السكون، فما استطعت الاتصال به عند كتابة هذا الحديث فأعرف بالضبط ماذا قال، لأني شرعت في كتابة هذا الحديث وأنا بغبار السفر بعد الرجوع من بغداد، بل أسوان.
وفي النادي العسكري سمعت نكتة عراقية: صحبني إليه رفيقان: هما السيد صادق الوكيل، والسيد جواد الشهر ستاني، وأراد السيد جواد أن يدلني على الطريق، فقال السيد صادق: لن يحتاج الدكتور مبارك إلى دليل عند الدخول، ولكن سيحتاج إلى دليل عند الخروج!
فهل كان يعرف هذا الشقي أن نشوة الأسمار والأحاديث ستحوجني بعد السهرة إلى السؤال عن الطريق؟
في النادي العسكري يسهر جماعات من ضباط الجيش العراقي وهم رجال على جانب من العلم والأدب والوطنية، وفيهم السيد مجيد الهاشمي، وهو رجل منوع المواهب، وله دراية بكثير من فنون المعارف والآداب، وهو من صلات الوصل بين مصر والعراق، لأنه موصول القلب والعقل بأكثر ما يصدر عن وادي النيل.
نادي البصرة
هو مجتمع أهل الفضل بوطن (الجاحظ) و (إخوان الصفاء)، ولو طالت إقامتي بالبصرة لاستطعت تسجيل ما به من خصائص تمثل ما عند أهل الجنوب من شمائل بيض، فأهل البصرة بشهادة جميع أهل العراق يمتازون باللطف والوداعة والكرم والجود، وقد سمعت عن السيد الشمخاني أحاديث تذكر بأخبار معن بن زائدة الشيباني، وآخر ما سمعت هو ما قرأت في جريدة الأستاذ عبود الكرخي عن أخبار السيد الشمخاني في مواسم الصيد.
نادي الجزيرة
هو منتدى أهل الفضل بالموصل، ومعتمد هذا النادي هو تلميذي القديم الأستاذ جيلمران، وهذا النادي يقع على شط دجلة وفي رحاب حديقة جميلة هي معترك العواطف بالموصل، وله تأثير شديد في وصل الأواصر الأدبية بين الأمم العربية.
الرابطة العلمية
هي أعظم جمعية أدبية بالنجف (الأشرف)، وإنما وصف النجف بالأشرف منافسة للأزهر (الشريف). ففي النجف معهد ديني يسير على أسلوب الأزهر في أكثر الشؤون، وإن لم يستطع مسايرة الأزهر في الانطباع بطابع الزمان.
والرابطة العلمية والأدبية بالنجف لها لون خاص، فأدباؤها في حكم المنعزلين عن أدباء الموصل والبصرة وبغداد، ولهم في إنشاء الشعر طريقة لا يعرفها من سكان العراق غير النجفيين، وهي طريقة تقوم على قواعد الترنيم، وعلى مثلها كان الشيخ سيد المرصفي ينشد الشعر في دروسه بالأزهر الشريف.
نادي القلم العراقي
هو تاج الأندية العراقية، أسس منذ سبع سنين أسوة بأندية القلم في كثير من أقطار العالم القديم والعالم الجديد، واختير الشاعر جميل صدقي الزهاوي رئيساً، والدكتور محمد فاضل الجمالي نائب رئيس، والدكتور متي عقراوي أميناً للصندوق، والأستاذ إبراهيم حلمي العمر كاتم أسرار.
والرئيس اليوم هو معالي الشيخ محمد رضا الشبيبي، ونائب الرئيس هو الدكتور محمد فاضل الجمالي، وأعضاؤه يزيدون على الثلاثين، وهم يختارون من بين الرجال الموسومين بالمواهب العلمية والأدبية.
ليس لهذا النادي دار، وإنما يجتمع الأعضاء من وقت إلى وقت في منازل يتوافون إليها على ميعاد، فهم اليوم في منزل الأستاذ عباس العزاوي، وهم غداً في منزل الأستاذ جعفر خياط، وهم بعد غد في منزل الأستاذ باقر الشبيبي. . . الخ. وعلى من يجتمعون في داره أن يقدم إليهم الشاي أو المرطبات، إن اجتمعوا في العصرية، فإن اجتمعوا في المساء كان من واجبه أن يتلطف بتقديم العشاء الخفيف. ولا يجتمعون في المساء إلا إن كانت دار الداعي في مكان بعيد.
وفي كل اجتماع يلقي أحد الأعضاء مسامرة علمية أو أدبية أو اجتماعية. ثم يدور النقاش بعد استئذان الرئيس، وقد يصل النقاش إلى درجات من العنف لا يخففها إلا ضحكات الدكتور الجمالي وفكاهات الأستاذ أبى إيناس.
وأعضاء هذا النادي في غاية من الحيوية، وهم يرسلون من يمثلهم في المؤتمرات التي يقيمها نادي القلم العالمي. وقد أصدر أخيرا مجموعة نفيسة ضمنوها طوائف من المحاضرات التي ألقيت في اجتماعاتهم الدورية، وتقع هذه المجموعة في أكثر من ثلاثمائة صفحة بالقطع المتوسط، وبها رسوم لجميع من حوى هذا السفر أبحاثهم الجياد.
نجد في صدر المجموعة مقالاً علمياً عن المجريطي إمام فلاسفة الأندلس في الرياضيات والطبيعيات، وهو مقال مفصل دبجه الأستاذ محمد رضا الشبيبي. ولهذا الأستاذ الجليل بحث آخر في هذه المجموعة سماه (قصة فتح بغداد)، وهو يصور ما كان عليه المغول من القوة الحربية والسياسية يوم استطاعوا اجتياح العراق؛ ويمكن بسهولة أن نعد هذا البحث من فلسفة التاريخ.
وهنالك بحث شائق للأستاذ أحمد حامد الصراف عن (الغلاة) وهي الفرقة التي تعبد عليا وتراه خالق الكون وسر الوجود
ولنا ملاحظات على هذا البحث يضيق عنها هذا الحديث، وقد نرجع إليها بعد حين.
وفي هذه المجموعة خلاصة وافية لأعمال المؤتمر الرابع عشر لأندية القلم وقد عقد في بونيس إيرس بالأرجنتين (5 - 15 أيلول سنة 1936)، وهذه الخلاصة هي تقرير قدمه الأستاذ مجيد خدوري مندوب نادي القلم العراقي، وفي هذا التقرير إشارات إلى شؤون أدبية وفلسفية تستحق الالتفات.
ويهمني أن أوصي قراء الرسالة باقتناء هذا السفر النفيس، فهو عصارة جهود محمودة في خدمة العلوم والآداب، وهو يصور جوانب من النشاط العلمي والأدبي في بغداد.
ثم ماذا؟ ثم أجمل الغرض من هذا الحديث فأقول: إن الآثار المدونة في الجرائد والمجلات والمطبوعات لا تمثل أعمال الأندية العراقية كل التمثيل، ففي تلك الأندية تدور مطارحات ومساجلات تفوق العد والإحصاء، وفيها تدرس أعمال الأدباء الذين يصل صرير أقلامهم إلى العراق. ولأدباء الرافدين موازين في النقد الأدبي لا تخلو من تحري الدقة والعدل، وهم يعرفون من أخبارنا الأدبية كل شيء، ولا تغيب عنهم مرامينا إلا في النادر من الأحيان، كأن يصدقوا أقوال المصريين بعضهم في بعض، وما دروا أن تهاجي الصحف المصرية باب من الرياضة على إجادة التعبير في مختلف الأغراض.
والظاهر أني مضطر إلى تذكير أدباء مصر بأنهم لا يكتبون لأنفسهم، وإنما يكتبون لأقطار كثيرة، وتلك الأقطار قد يغيب عنها غرام المصريين بالنكتة والمزاح، فما ترسله على سبيل الفكاهة قد يظن من الحقائق، ثم يؤول أسوأ التأويل.
أما بعد فهل يرى القراء أني دللتهم على مظاهر الحيوية الأدبية في أرجاء العراق؟
إنني أوجزت القول عن الأندية الأدبية لأدخر الفرص للحديث عن رجال الصحافة وقادة الفكر في تلك البلاد، فما أحوال الصحافة العراقية؟
سأرى ويرى معي القراء كيف تجول الأقلام وتصول في وطن دجلة والفرات، على شرط أن يرفع الحجاب بيني وبين زملائي هناك، فلا يقال إنني أخرج على آداب الصداقة والأخوة حين انتقل من الحمد إلى الملام. وهل أذكر أهل العراق بالسوء إلا مصانعة للكاشحين والحاقدين؟
كلانا مُظهِرٌ للناس بُغضاً ... وكلٌّ عند صاحبه مكينُ
تخبَرنا العيون بما أردنا ... وفي القلبين ثَم هوَى دفين
زكي مبارك
عضو نادي القلم العراقي