الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 404/هل يكفي التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند

مجلة الرسالة/العدد 404/هل يكفي التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند

مجلة الرسالة - العدد 404
هل يكفي التراث الشرقي لنضج الحياة العقلية عند
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 03 - 1941

الشرقيين؟

للأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك

التراث الشرقي في العلوم والآداب والفنون هو ولا شك تراث مجيد، ولكنه مع ذلك لا يكفي لنضج الحياة العقلية الحديثة عند الشرقيين؛ بل يجب لكي يصل هذا النضج إلى مداه من التقدم أن يجمع إلى التراث الشرقي خير ما أنتجته وتنتجه القرائح والعقل البشري في الغرب. ولا غضاضة علينا في ذلك، فإن الأمم الأوربية نفسها وهي التي تم نضج الحياة العقلية فيها، لا تفتأ كل منها تقتبس عن آية أمة أخرى في الغرب أو الشرق ما يظهر فيها من مستحدثات التجارب والاكتشافات والمذاهب العلمية. ولذلك قالوا: إن العلم لا وطن له، وإن كان العالم له وطنه كما قال (باستور)

إن التراث الشرقي في ذاته لم يقف عند مستوى واحد، ولم يقتصر على طابع واحد، بل كان ينمو ويتطور على مدى العصور. وفي خلال هذا التطور قد اقتبس عن التراث الغربي القديم، وكان ذلك من عناصر نموه وارتقائه

فالآداب والعلوم والحياة العقلية في عصر الجاهلية تختلف طبعاً عما صارت إليه في الإسلام على عهد الخلفاء الراشدين، ثم في عصر الأمويين والعباسيين؛ وإنتاج القرائح العقول في هاتيك العصور قد نما وتطور تبعاً لسنة التقدم الإنساني، بحيث أن التراث الشرقي يحتوي على أدوار متعاقبة، لكل دور طابعه وخصائصه. ولست أريد التوسع في بيان ذلك لكي لا تخرج عن جوهر الموضوع، واكتفى بالإشارة إلى أن الحياة العقلية والأدبية في عصر العباسيين قد نمت وازدهرت واتسعت آفاقها عما كانت عليه في عهد الأمويين، وكان من مظاهر هذا الازدهار ظهور العلوم الدخيلة أي المقتبسة عما وضعه رجال العلم والفلسفة والأدب في الحضارات القديمة: كالمصريين والفرس واليونانيين والرومان. فإذا قلنا: إن علوم المصريين القدماء والفرس تعد من التراث الشرقي، فإن علوم الإغريق والرومان وآدابهم هي من التراث الغربي القديم

نقل إذن علماء العصر العباسي علوم اليونانيين إلى اللغة العربية، فترجموا الفلسفة والأدب والمنطق عن أفلاطون وأرسطو، والطب عن أبقراط وجالنيوس، والرياضيات و أقليدس وأرخميدس، وغير ذلك كثير، فكان لهذا الاقتباس أثره في نضج العلوم والأفكار واتساع محيط الحياة العقلية عند الشرقيين. ولاشك أن العصر العباسي في التراث الشرقي يعد العصر الذهبي من الناحية العلمية والأدبية والفلسفية. وقد ظهر طابع هذا العصر في الشعر والأدب والعلم والفلسفة، وفي تعدد العلوم وظهور علوم جديدة، كالطب والكيمياء والصيدلة والجغرافيا والموسيقى والفنون الجميلة. فهذا الطابع يدلنا على أن ازدهار الحياة العقلية في التراث الشرقي في ذاته كان مقترناً بالاقتباس عن الحضارات الأخرى

انتهى هذا العصر الذهبي بسقوط الدولة العباسية، أو بعبارة أخرى بسقوط بغداد في يد التتار سنة 656 للهجرة (1258م) وجاء العصر المغولي، ثم العصر العثماني، وفيهما أصاب التراث الشرقي الركود ثم الجمود، وتبع ذلك وقوف حركة التقدم. نعم إن قرائح العلماء والأدباء في الشرق قد استمرت في الإنتاج إلى ابتداء العهد العثماني، ولكن مما لا شك فيه أنه منذ الفتح العثماني لمصر سنة 1517 قد وقفت حركة التقدم تماماً، فكسدت العلوم، وانحط الأدب، وجمدت القرائح، وتراجعت العقول، وانقضت نحو ثلاثة قرون والشرق في تأخر من الناحية العلمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ بينما الغرب قد أخذ بأسباب الحياة والنهوض فسبق الشرق عدة قرون في النضج العقلي. فبديهي أنه عندما ابتدأ الشرق يستفيق من سباته العميق في نهاية القرن الثامن عشر كان لابد أن يقتبس من الغرب ما سبقه إليه في خلال القرون المتعاقبة؛ لأن العلوم والآداب والاكتشافات والاختراعات قد ضاعفت تراث الغرب بحيث لا يستطيع الشرق أن يأخذ قسطه من الحياة العقلية إلا إذا اقتبس عنه خير ما أنتجته قرائح علمائه وفلاسفته وأدبائه في خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمن. فمثل الشرق في ذلك كمثل التلميذ الذي يقعده المرض أو الكسل عن متابعة الدرس والتحصيل زمناً ما، فإذا عاد إلى الدرس كان مضطراً إلى أن يأخذ عن أساتذته أو عن مؤلفاتهم ومذكراتهم ما فاته في مدة المرض أو الكسل لكي يصل إلى مستوى أقرانه في المدرسة

ولم يتردد الغرب حين بدأ عهده بالبعث والنهوض في أن يقتبس عن التراث الشرقي حضارته وعلومه؛ فقد نقل علماؤه فلسفة ابن رشد ودرسوها واقتبسوا منها، وكانت ينبوعاً لليقظة العلمية في الغرب واقتبسوا أيضاً في عهد الحروب الصليبية العلوم والحضارة الشرقية وحملوها إلى بلادهم وأفادوا منها، وكانت من العوامل الجوهرية في نهضة أوربا

فمن الواجب إذن على الأمم الشرقية إلى جانب إحياء التراث الشرقي القديم أن تقتبس عن الغرب تراثه الجديد، وتأخذ عنه محاسنه ومزاياه. ولو أن حركة التقدم قد تابعت سيرها في الشرق ولم يقفها ذلك التأخر الذي أصابه خلال قرون عديدة لزاد من غير شك تراثه في العلوم والآداب، ولما سبقه الغرب في هذا المضمار. أما وقد بعد عهده بازدهار الحياة العقلية فعليه إذا أراد بعث هذه الحياة أن يقتبس عن الغرب علومه الحديثة. وهذا على وجه التحقيق ما اتجهت إليه حركة النهضة العلمية والعقلية في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، عندما ولى أمرها محمد علي الكبير. فهو إذ أراد أن يبعث الحياة العلمية والعقلية في مصر لم يقتصر على إحياء التراث الشرقي القديم بل نقلها إليها إلى جانب ذلك علوم الغرب وآدابه. وأوفد لذلك البعثات العلمية إلى أوربا فتلقى أعضاؤها العلوم والفنون والآداب في جامعات فرنسا وغيرها وعادوا إلى مصر وقد اكتملت ثقافتهم فنقلوا إلى اللغة العربية كتب الطب والطبيعيات والرياضيات والفنون الحربية والآداب والحقوق والعلوم الاقتصادية والاجتماعية. فهؤلاء العلماء الذين استوفوا قسطهم من التراث الغربي هم الذين على يدهم بعث التراث الشرقي القديم في ثوب قشيب، فعادت إليه الحياة. ولو انهم اقتصروا على هذا التراث وحده لما كان في استطاعتهم بعثه واستظهار مفاخره ومزاياه. فعلى ضوء العلوم الأوربية والثقافة الأوربية قد تكشفت لهم حقائق التراث الشرقي وفهموها حق الفهم، وربطوا بينها وبين عوامل التقدم الحديث بحيث تابعوا هذه العوامل فنهضوا بهذا التراث وجعلوه ملائماً لمقتضيات العصر الحاضر

هناك وجهات نظر ثلاث لا تزال النهضة العلمية والعقلية في الشق مترددة حائرة بينها: إحداها ترمي إلى الاقتصار على التراث الشرقي القديم وإحيائه، وقصر الحياة العقلية على حدوده، ومقتضياته؛ وهذه الوجهة لا تكفي فيما أعتقد لاستكمال أسباب النهضة والحياة في العصر الحديث. والثانية إطراح التراث الشرقي جانباً وقطع صلاتنا بالماضي واقتباس الحضارة الأوربية والعقلية الأوربية كما هي بما لها وما عليها، بمزاياها وعيوبها. وهذه أيضاً وجهة نظر خاطئة تنتهي بنا إلى اقتباس العيوب دون المزايا، وتؤدي إلى نوع من التبعية العقلية والثقافية لأوربا تتطور مع الزمن إلى تبعية سياسية وقومية. والوجهة الثالثة هي إحياء التراث الشرقي مع اقتباس خير ما أنتجه وينتجه التراث الغربي من الناحية العلمية والأدبية؛ وهي في اعتقادي الطريقة الوسط التي تكفل لنا نهضة صحيحة في الحياة العقلية والفكرية

إني أجد في تاريخ الأستاذ الإمام لشيخ محمد عبده ما يؤيد وجهة نظري؛ فهو الإمام الديني العظيم، ومع ذلك قد اقتبس في علمه وتفكيره عن العلوم والفلسفة الأوربية، وطالع الكثير من كتب العلماء والمستشرقين والفلاسفة الأوربيين. وكان يتابع دائماً حركة التقدم العلمي في أوربا ويخالط العلماء الغربيين ويحادثهم ويأخذ عنهم خير ما أنتجوا. ولقد كان لذلك أثر كبير في اتساع مداركه وتفكيره، بل في قدرته على الدفاع عن الإسلام وتخليصه من الشوائب التي علقت به في عصور الركود والجمود، وتفهم المسلمين وغير المسلمين حقائقه السليمة. ولا اعتقد أنه كان يصل إلى هذه المنزلة لو اقتصر في علمه وإدراكه على مدارك التراث الشرقي. ولا اعتقد أن معاصريه من العلماء الذين اقصروا على التراث الشرقي قد وصلوا إلى مثل هذه المنزلة أو خدموا الإسلام مثلما خدمه الأستاذ الإمام

فحينما حمل (هانوتو) حملاته المشهورة على الإسلام لم تجد من يرد هذه الحملات ويفندها تفنيداً علمياً سديداً مثل الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وكذلك لا تجدون كتاباً دحض حجيج الطاعنين في الإسلام مثل كتابه (الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية) ومن يطالع هذا الكتاب أو يطالع رده على هانوتو يجد مبلغ ما اقتبسه عن الفلسفة الأوربية والعلم الأوربي والشواهد الأوربية

قد يكون لنبوغ الشيخ محمد عبده دخل فيما بلغه من ألمكانه ألعلميه، ولكن هذا النبوغ ذاته قد وجهه إلى الاقتباس من التراث الأوربي إذ وجده ضرورياً لاكتمال نضجه وثقافته وعلمه وفي الحديث الشريف: (اطلبوا العلم ولو في الصين)

وصفوة القول أن التراث الشرقي يحتوي ولا شك على كنوز من العلم والحكمة والأدب، ولكننا في حاجة أيضاً إلى كنوز التراث الغربي الحديث لكي يتم لنا النضج والكمال في حياتنا العقلية

عبد الرحمن الرافعي