الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 404/الأدب العربي الحديث في العراق

مجلة الرسالة/العدد 404/الأدب العربي الحديث في العراق

مجلة الرسالة - العدد 404
الأدب العربي الحديث في العراق
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 31 - 03 - 1941


للدكتور زكي مبارك

تمهيد - الصلات الأدبية بين مصر والعراق - كيف صارت

العروبة في ديار الرافدين بعد سقوط بغداد؟ - الجدال بين

السنة والشيعة هو الذي حفظ اللغة العربية في عهود الاحتلال

الفارسي والاحتلال التركي - بواكير النهضة الأدبية في

العراق - إحياء الأمجاد العربية - الأدب المجهول - روافد

الأدب العراقي - لمحات من الفروق بين الاتجاهات الأدبية في

مصر والعراق.

تمهيد:

صار من المقرر في وزارة المعارف المصرية أن تكون الترقية من التعليم الابتدائي إلى التعليم الثانوي مقصورة على من يفوزون في امتحان المسابقة لذلك الترفيع، وهذا نظام يسوق المدرسين سوقاً إلى تزويد عقولهم بما يجد في ميادين الدراسات العلمية والأدبية والاجتماعية

وفي هذا العام يجب على المتسابقين في اللغة العربية أن يؤدوا امتحاناً في الأدب الحديث بمصر وسائر البلاد العربية، وهي مفاجأة لم يستعد لها مدرسو اللغة العربية، لأن الأدب الحديث في غير مصر، لا يعرفه من بين المصريين إلا أفراد سمحت لهم الظروف بأن ينتقلوا في بعض أقطار الشرق من أمثال: المازني والزيات وعزام. فكيف السبيل إلى تعرف اتجاهات الأدب الحديث في بلاد مثل: المغرب واليمن والحجاز وفلسطين وسوريا ولبنان والعراق؟

وقد دعاني جماعة من المدرسين إلى إنشاء طائفة من البحوث في التعريف بالأدب الحديث في غير مصر من البلاد العربية، فأجبت بعد تردد، لأني أعرف أن ذلك عبء لا ينهض به رجل واحد، فقد تعددت المذاهب الأدبية في تلك البلاد، وصار من الواجب أن يلتفت إليها عدد كبير من الباحثين ليسجلوا ما فيها من خصائص ذوقية وأدبية واجتماعية

ولو لم تفاجأ (الرسالة) بغلاء الورق، لكان في تنفيذ الاقتراح الذي قدمته إليها في صيف سنة 1939 ما يغني المدرسين المصريين من التعب في تعرف الاتجاهات الأدبية بالأقطار العربية؛ فقد كنت اقترحت أن تصدر (الرسالة) أعداداً خاصة تصور ما بتلك الأقطار من المذاهب الفكرية والأدبية، وتعرف المصريين بأحوال إخوانهم في بلاد لا يعرفون من أخبارها العقلية غير بوارق تنقلها الجرائد والمجلات من حين إلى حين بأسلوب قد يصل في الإيجاز إلى الإخلال

وأنا لم أبتكر الاقتراح الذي قدمته إلى (الرسالة) في صيف سنة 1939، فقد استوحيته من العدد الممتاز الذي أصدرته مجلة (العرفان) عن مصر، والعدد الممتاز الذي أصدرته مجلة (المكشوف)؛ وهما عددان يفصلان الأحوال الأدبية والاجتماعية في مصر أجمل تفصيل، فإلى هاتين المجلتين أقدم أطيب الشكر وأصدق الثناء

ثم رأيت أن أبدأ بالكلام عن الأدب الحديث في العراق، إلى أن أستعد للكلام عن الأدب الحديث في سائر البلاد العربية، فماذا وجدت؟ وجدت المهمة أصعب مما تصورت، لأن العراق الذي عشت فيه وتعرفت إلى ما عند أهله من آراء وأهواء ونوازع وميول، يحتاج إلى دراسة دقيقة تستنفذ أوقاتاً لا أملك منها غير سويعات قصار أسترقها استراقاً من العمر الموزع بين أعباء ثقال أخفها الجهد إلى أواجه به قرائي من يوم إلى يوم أو من أسبوع إلى أسبوع

فهل أحجم عن مواجهة هذا الموضوع الجليل إلى أن أجد الوقت المنشود؟

سأتوكل على الله وأتحدث عن الأدب العراقي في الحدود التي يسمح بها جهد المقل، وجهد المقل غير قليل. وسيكون الغرض تصوير أدب العراق في أشخاص شعرائه وكتابه بأسلوب يجمع ما تفرق من مذاهب الأدباء بتلك البلاد، إلى أن تسمح الظروف بإعداد كتاب شامل عن العقلية العراقية في العصر الحديث، والله سبحانه هو الموفق

الأدب العراقي:

بسم الله الرحمن الرحيم وبالبسملة أبتدئ حين أقدم على موضوع تعترضه عقاب وصعاب

وموضوع اليوم هو تحديد المرحلة التي يبتدئ بها الأدب الحديث في العراق، فما هي بداية النهضة الأدبية الحديثة في تلك البلاد؟

كان العراق يحمل مشاعل الثقافة العربية إلى أن أجتاحه المغول في منتصف القرن السابع، فبعدئذ نهضت مصر بما كان ينهض به العراق، وقامت القاهرة بما كانت تقوم به بغداد، ورحبت المدائن المصرية بمئات من العائلات الراقية، ولعل هذا هو السر في التشابه الشديد بين المصريين والعراقيين في النطق ومخارج الحروف، وفي كثير من العادات والتقاليد، بحيث يمكن الحكم بأن المصريين والعراقيين لم يكونوا على بعد الدار إلا أخوة أشقاء نقلتهم الحوادث من بلد إلى بلاد

فكيف صارت العروبة في العراق بعد سقوط بغداد وبعد انتهاء ما تلا عهد المغول من خطوب؟

ظل العراق العربي محتلاً بالقوى الفارسية نحو ثلاثة قرون، وهو أمد يقدر بثلاثة أرقام، ولكنه أمد طويل جداً، وكان يكفي لمحو اللغة العربية لو صادف أمة لا تمت إلى العروبة بعرقٍ أصيل. ثم جاء عهد الترك فأيد عهد الفرس من حيث الاستهانة بمقام اللغة العربية، فماذا صنعت تلك اللغة لتحفظ حيويتها إلى أن يجيء يوم البعث، وهو يوم استقلال العراق؟

ظفرت اللغة العربية في العراق بأسلحة تضر من جانب وتنفع من جوانب، وتلك الأسلحة هي مصادر النزاع والشقاق بين المذاهب السنية والمذاهب الشيعية. فقد تناسى العراقيون بلواهم بالاحتلال الفارسي والاحتلال التركي، وظلوا يتجادلون ويتناقشون بلغة القرآن، وهي اللغة التي حملت إليهم بذور ذلك الخلاف (السعيد)

ومن المؤكد أن المناقشات بين السنة والشيعية فتقت الأذهان وألانت الألسنة في العراق. ومن المؤكد أيضاً أن المساجد هي صاحبة الفضل الأول في تأريث الخصومات العقلية، وهي خصومات عادت بالنفع الجزيل على الأدب والبيان، فمن كان يهمه أن يعرف كيف عاشت اللغة العربية في العراق برغم الاحتلال الفارسي والاحتلال التركي فليسأل أساطين المساجد في البصرة والحلة والموصل وبغداد والنجف وكربلاء

تناسى العراقيون بلواهم بالاحتلال الفارسي والاحتلال التركي وأقبلوا على الجدال في المفاضلة بين الأمويين والهاشميين، فعاشوا في دنيا من الفكر والعقل والوجدان كانت أجدى عليهم من دنيا السيطرة المالية والسياسية، وبذلك حفظوا لغتهم من التضعضع والفناء. ولله حكمة عالية في خلق أسباب الشقاق بين الرجال.

اللغة العربية في العراق مدينة أثقل الدين للخلافات المذهبية، فتلك الخلافات هي التي أوجبت أن يحرص أقوام على رواية أخبار بني أمية وبني العباس، وإن يحرص قوم على رواة أخبار الحسن والحسين، وكانت جميع تلك الأخبار مصبوبة في قوالب هي الغاية في الفصاحة والبلاغة والبيان

ولو جاز لي أن أستعين هذا الأسلوب من المنطق لقلت أن اللغة العربية لم تنهزم في البلاد الفارسية والتركية إلا بسبب انعدام الخلافات المذهبية في تلك البلاد، فالفرس انحازوا إلى جانب، والترك انحازوا إلى جانب، وبهذا السلام خلوا إلى أنفسهم هنا وهناك فحلت النزاعات القومية محل النزاعات المذهبية، واستغنى أولئك وهؤلاء عن الاستنصار بلغة القرآن

فمن كان غلب عنه أن الخلاف نعمة من نعم الله فليذكر هذه الحقيقة ليعرف أن الله قد يبتلي بالخلاف عباده الأصفياء

عاشت لغة العرب في العراق أجيالاً طوالاً بإسناد مذهبية، فمتى فكر العراق في أن يجعل لغة العرب لغة رسمية بعد انقضاء عهود الخلفاء؟

العراق الحديث

هنا يتسع المجال لبيان الأسباب التي أنهضت العراق العربي في عهده الحديث، فمتى انبثقت شرارة العروبة في العراق؟

ثبت عندي بعد مطالعات كثيرة أن الأدب العراقي كان انطوى على نفسه في عهود الظلمات فلم يكن إلا مطارحات شعرية أو مراسلات نثرية لا تصور صراع العواطف ولا صيال العقول، بغض النظر عن الشجار الذي لم ينقطع بين المذاهب والآراء

فمتى خرج الأدباء العراقيون من صوامعهم ليحدثوا الجمهور عن المطامح السياسية والقومية؟

كان ذلك يوم صار العراق مبعوثون في استنبول، فهنالك وجدوا أخواناً ثائرين على (الدولة العلية) من رجال مصر واليمن والحجاز والشام ولبنان، ومن أولئك وهؤلاء تكونت جماعات أدبية وسياسية تنتصف للعرب من الأتراك، وتطالب بأن يكون للعرب وجود أدبي وسياسي يسترد الحقوق التي أضاعها الزمان

ولهذه النزعة جذور دخيلة سجلتها بصراحة في كتاب (ليلى المريضة في العراق) ونشرت من أخبارها أشياء فيما تحدثت به إلى قرائي في مجلة الرسالة، ولكن المصير الواحد وإن اختلفت الأسباب، وذلك المصير هو الإيمان الراسخ بأن العروبة فكرة سليمة قد تؤتى أطيب الثمرات إذا تعهدها الوطنيون المخلصون بالرعاية والتشجيع

إذا عرفنا هذا صح لنا القول بأن النهضة الأدبية الحديثة في العراق نشأت مع ثورة الأمم العربية على الدولة التركية، وهي ثورة كانت لها بواعث كثيرة أهمها تطلع تلك الأمم إلى التمتع بنعمة الاستقلال

ومن الواضح أن اللغة العربية كانت أداة التعبير عن تلك الثورة بالتصريح أو التلميح فظهرت مقالات وقصائد ومطبوعات أثارت ما أثارت من نوازع الحمية العربية، وانطلقت الألسنة والأقلام بأدب جديد هو الأدب السياسي، وأريد به الأدب الذي لا يقف عند شرح العواطف الذاتية، ونما يتسامى إلى شرح ما يعاني المجتمع من أزمات قومية كما يصنع الأدب الاجتماعي

تلك الفترة من حياة العراق الثائر على حكم الأتراك هي التي فتحت عيون أدبائه على فنون الأدب الحديث في الديار المصرية والسورية، وهي التي أوحت إليه أن يجعل العروبة عماد سياسته القومية في أكثر الشئون.

ثم ماذا؟ ثم نجا العراق من الاحتلال التركي ليواجه مصاعب خلقها مصاعب الاحتلال الإنجليزي، فماذا صنع وقد استبدل احتلالاً باحتلال؟

كانت شخصيته قد استَحْصَدتْ وقويت، ومازالت تستحصد وتقوى حتى صارت أعز من أن يطمع فيها طامع يعتمد على القوة أو يتوسل باللين، وما هي إلا أعوام قصار حتى شرع العراق ينشر العلوم والمعارف باللغة العربية بعد أن ظلت الفارسية ثم التركية لغة التعليم بتلك البلاد في آماد لا تعد بالأعوام وإنما تعد بالقرون، وبفضل هذه الفتوة رجعت السيادة للغة العرب في بلاد كان لها في خدمة هذه اللغة تاريخ مجيد وبجانب هذا الفضل في جعل اللغة العربية لغة التدريس في جميع العلوم كان فضل آخر هو الحرص على إحياء الأمجاد العربية والإسلامية، فأكثر الشوارع وأكثر المنشآت لها أسماء عربية وإسلامية، وأغرم الناس هنالك بمقاومة الألفاظ الأجنبية، لتصبح لغتهم جديرة بالمطمح الذي يتسامون إليه وهو إحياء عهد الرشيد

يضاف إلى هذا وذاك حرص العراق على الاتصال بجميع الأمم العربية، أو الأمة لعربية - كما يعبر الأستاذ أبو خلدون - ولذلك الاتصال ألوان مختلفات، فهو يتابع جميع الحركات السياسية في البلاد العربية، ويتابع ما يجد فيها من تطور الآداب والفنون، ويسره أن يقال إن له فاعلية في إحياء التمدن العربي الحديث

وخلاصة القول أن بداية النهضة الأدبية في العراق تؤرخ بثورة العراقيين على الحكم التركي، ثم تؤرخ بجعل اللغة العربية لغة التدريس في عهد الاستقلال

الأدب المجهول

وهنا نقف وقفة قصيرة نشير بها إلى لون من الأدب العراقي تصح تسميته بالأدب المجهول، وهو الأدب الشعبي، الأدب الذي لم يدون، ولن يدون بعد أن صارت اللغة الفصيحة هي الغاية التي يسعى لتأييدها جميع أدباء العراق

فذلك الأدب الذي يتناقله الناس هناك من بلد إلى بلد قد صور طوائف كثيرة من أحلام القلوب، وأوهام العقول، وهو الشاهد على أن العقل العراقي لم يذق طعم الغفوة برغم ما مر بالعراق من أحداث وخطوب تعصف بمنابت الأهواء والآراء

روافد الأدب العراقي

يقال أن الأدب المصري الحديث قد انتفع من اتصال أدباء مصر بالآداب الأوربية، وهو قول حق، فمصر قد نقلت عن أوربا أكثر ما صدر عن أدبائها ومفكريها من المذاهب العقلية والاجتماعية، وقد تكون مصر أول أمة عربية عنيت عناية جدية بنقل آراء أهل الغرب إلى أهل الشرق، ولعلها أول أمة زودت الغرب بعلوم الشرق في أزمان الحروب الصليبية

فما هي الروافد التي أمدت الأدب العراقي الحديث؟ أنا أرجح أن الأدب الحديث في العراق قد انتفع بثلاثة ينابيع: أولها الأدب الفارسي وثانيها الأدب التركي وثالثها الأدب المصري (مع الاحتفاظ بفضل الأدب العربي القديم)

ولكن كيف وصلت إليه بتلك الينابيع؟

الجواب حاضر، فاتصال العراقيين بالأدب الفارسي معروف، ولا يزال بين أدبائهم رجال يسايرون الآداب الفارسية ويتأثرون ما بها من أخيلة وتعابير، وقد يكون فيهم من ينظم الشعر باللغة الفارسية كما صنع الزهاوي يوم ذهب إلى إيران للاشتراك في إحياء ذكرى الفردوسي، وقد يكون فيهم من يؤلف بالفارسية كما يصنع السيد هبة الدين الشهرستاني

واتصال العراقيين بالأدب التركي لا يحتاج إلى بيان، فقد كان جمهور أدبائهم على صلة وثيقة بالتيارات الأدبية في البلاد التركية، وأكثر رجالهم الكبار تلقوا دروسهم العالية في استامبول

أما اتصال العراقيين بالأدب المصري فهو أقوى من اتصال المصريين بالأدب المصري، وهذا كلام يستغربه من تغيب عنه الموازنة بين القراء في مصر والقراء في العراق، فالقراء في مصر لا يعنون بالصحافة الأدبية كما يعنون بالصحافة السياسية، ومن أجل ذلك تفوتهم أشياء وأشياء من النتاج الأدبي. ولا كذلك القراء في العراق فهم يسايرون الصحافة الأدبية في مصر مسايرة جدية، ويعرفون من أخبار الأدب في مصر أضعاف ما يعرف القراء المصريون

فما السبب؟ أيكون شبان مصر أقل ذكاء من شبان العراق؟

لا، وإنما يرجع السبب إلى قوة الصحافة السياسية في بلادنا وضعف الصحافة السياسية في بلادهم، فشبابنا يجدون من أخبار السياسة ما يلهيهم عن الأدب الصرف ويحولهم إلى جنود سياسيين، وشبان العراق لا يجدون من أخبار السياسة ما يلهيهم عن الأدب الصرف، ولهذا يقبلون على الصحافة الأدبية إقبالاً يستوجب الثناء

ونصل بهذه المحاولة إلى النص على أن أدباء العراق لهذا العهد ينقسمون إلى جيلين مختلفين بعض الاختلاف: الجيل الوثيق الاتصال بالآداب الفارسية والتركية، والجيل الذي يأخذ أكبر مادة لغذائه العقلي والروحي من الآداب العربية المصرية، والتفريق أو التمييز بين آثار هذين الجيلين لا يحوج الباحث إلى عناء ولن يمضي زمن قليل حتى يكون من الصعب أن نجد اختلافاً جوهرياً بين أساليب الكتاب والشعراء في مصر والعراق، ويومئذ نضمن اتحاد المشاعر والعواطف والقلوب بصورة لا يبقى معها مجال لدسائس الطامعين في تمزيق الوحدة العربية، وهم أقوام يدخلون من أبواب لا تهتدي إليها الشياطين!

خصائص الأدب العراقي

لكل بلد خصائص ذاتية ترجع إلى طبائع الحياة المحلية. واختلاف الخصائص هو المميز الأعظم لثروة الأدب العربي، وقد تختلف الخصائص في القطر الواحد، كالذي نجد من الفرق بين اتجاهات الأدباء في القاهرة والإسكندرية، أو الفرق بين اتجاهات الأدباء في دمشق وبيروت، أو الفرق بين اتجاهات الأدباء في النجف وبغداد، فمن السهل إذاً أن نعرف أن للأدب العراقي خصائص لا توجد في الأدب المصري، أو توجد فيهما ولكن لا على السواء، وهل انفق الجوهر الذوقي في الرائيات الثلاث: رائية أبي نؤاس ورائية ابن دراج ورائية البارودي؛ وهي قصائد موزعة الذوق الفني بين مصر والأندلس والعراق؟

لا جدال في أن لكل بلد خصائص، فما خصائص الأدب العراقي؟

نقيد (أولاً) أن العراق يميل إلى التحرر من التزام القافية والتزام الوزن في القصيد الواحد، وتلك رجعة إلى نظام الموشحات، ولكنها من حيث الصورة تخالف نظام الموشحات، وأشهر شعراء العراق في الميل إلى هذا التحرر هو الزهاوي. وقد يكون فيهم من انساق مع تيار الموشحات في أغلب ما نظم من القصائد، وأشهر هؤلاء هو الحبوبي

وهذه النزعة وجدت في مصر، ولكن بأخف مما وجدت في العراق، وقد ظهرت ظهوراً قوياً بين الشعراء السوريين واللبنانيين الذين أقاموا دولة للأدب العربي في أمريكا الجنوبية

ونقيد (ثانياً) أن الأدب العراقي يمتاز بالإكثار من الحديث عن الأمم العربية، فلمصر وفلسطين والشام ولبنان صور كثيرة جداً في أشعار العراقيين، ويرجع ذلك إلى هيامهم بزيارة البلاد العربية والى تعرف أكثرهم بمصر عن طريق القراءة أو طريق الدرس، فكثير من أدباء العراق عاشوا في مصر وتزودوا من معاهدها العلمية. وكثير منهم زاروا مصر وعرفوا من أخبارها الصحيحة ما زادهم بها فتوناً إلى فتون، وقد يصفها أحدهم من قبل أن يراها كما صنع الأستاذ شاكر الجودي وقد اهتم الأدب المصري بوصف البلاد العربية ولكن بأقل مما اهتم الأدب العراقي، وإن كانت قصائد شوقي في وصف مرابع سورية ولبنان سارت مسير الأمثال

ونقيد (ثالثاً) أن الإخوانيات لا تزال مرموقة المكان عند أدباء العراق؛ فهم يتراسلون بالرسائل والقصائد على نحو ما كان يتراسل أسلافهم القدماء

وقد انقرض هذا النوع من الأدب المصري أو كاد، فما عدنا نسمع برسالة كرسالة حفني ناصف إلى توفيق البكري، أو قصيدة كقصيدة المازني في مداعبة العقاد

ونقيد (رابعاً) أن الهجاء لا يزال من الفنون الأدبية في العراق، وإن كان لا ينشر في الجرائد ولا يسجل في المطبوعات؛ وهذا الفن لم يبق له في مصر مجال، وإن كان تهاجى الصحف الحزبية في مصر قد وصل إلى أبعد الآفاق في الغمز والتجريح!

ونقيد (خامساً) أن أشعار المجون لها بقايا في العراق، وهي أشعار تغلب عليها لطافة الدعابة وخفة الروح، وهذا الفن قد انعدم في مصر بموت (الحاج) محمود الهراوي؛ وإنما قلت (الحاج) لأمطر قبره بفكاهة ينتعش بها ثراه، فقد نظم الهراوي قصائد مجونية تفوق مجونيات أبي نؤاس، إن جاز القول بأن الدنيا عرفت ماجناً يفوق أبا نؤاس، إلا أن يكون الماجن هو الهراوي، وكان رحمة الله غاية في التقى والعفاف، ولم ينظم أشعار المجون إلا حباً في تزويد الأدب بمختلف الألوان

ثم نقيد أن للأدب العراقي خصيصة تفوق تلك الخصائص وهي إمعانه في الصدق، فهو صورة لما يعاني العراق من خطوب وما يطمح إليه من آمال، ولو عصر الروح العراقي كما يعصر الورد لكان عصيره دموعاً تشتهيها الحمامة الموصلية يوم فراق الأليف

أما بعد، فهذا تمهيد للكلام عن الأدب العراقي، وهو تمهيد أردنا به تحديد المرحلة التي قطعها العراق ليصل إلى ما وصل إليه من إعزاز اللغة العربية، وأردنا به النص على روافد الأدب وخصائص الأدب في ذلك القطر الشقيق

ومن المحتمل أن يكون في الأحكام التي سقناها في هذا التمهيد ظل من الخطأ الطفيف، ولكنها في الجملة تستند إلى قواعد سليمة من آفات الميل والانحراف. فما الذي سنصنع بعد هذا التمهيد؟

سنتحدث عن الأدب الحديث في العراق بالتفصيل، وبأسلوب يقربه إلى أذهان القراء كل التقريب، وسنرى ويرى معنا قراء الرسالة في مختلف البلاد العربية أن البلاد التي أنجبت المتنبي والرضي خليقة بأن تؤيد ماضيها الجميل بحاضر جميل

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت، واليه أنيب

زكي مبارك