الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 402/القصص

مجلة الرسالة/العدد 402/القصص

بتاريخ: 17 - 03 - 1941


مرض طبيب. . .

للأستاذ نجيب محفوظ

قبل عامين تفشى وباء التيفود في مديرية الغربية تفشياً مخيفاً فتك بنفوس الكثيرين، وصادف ذلك انقضاء بضعة أشهر على تعيين الدكتور زكي أنيس طبيباً بمستشفى طنطا وفتحه عيادته الخاصة، وكان في تلك الأيام يلاقي الشدائد المقضي على كل مبتدئ في فنه أن يلقاها أول عهده بالحياة العملية. فكان ينتظر طويلاً وعبثاً توارد الزوار والمرضى مستوصياً بالصبر والتجلد حتى كاد يلحقه الجزع. فلما تفشى ذاك الوباء الخبيث تضاعف عمله بالمستشفى وشحذ نشاطه ومضى يراقب حركة السيارات التي تطوف بالبيوت وتعود محملة بالضحايا بعينين كئيبتين وعزيمة متوثبة، وأحس بالرغم من كل شئ بسرور خفي، وأحيا قلبه الأمل في أن يدعى يوماً لعلاج مصاب من الذين تثقل بهم جيوبهم عن الانتقال إلى المستشفيات العامة، ولم ييئسه تقاطر الناس على كبير الأطباء وبعض الأطباء القدماء بالمدينة وأصغى إلى هاتف تفاؤل ما انفك يهمس لقلبه بأن دوره لا محالة آت.

وصدق أمله، وإنه ليجلس إلى مكتبه يوماً يقلب صفحات كتاب وتجري عيناه على أسطره جريان الشرود والملل إذ طرق بابه كهل يدل منظره الوجيه وزيه الريفي الثمين على أنه من الأعيان؛ ولعله قصده بعد أن يئس من العثور على سواه، فطلب إليه بلهجة تنم على القلق أن يصحبه إلى العامرية على مسير ربع ساعة بالسيارة. وكان الشاب يعد العدة لمثل هذا اللقاء فلم يبد على وجهه أثر مما اضطرب في صدره من الفرح والظفر، فألقى على القادم نظرة رزينة وقام من فوره فخلع معطفه الأبيض وارتدى الجاكتة والطربوش وأخذ حقيبته وتقدمه إلى الطريق. والتقى أمام الباب بسيارة فخمة فخفق قلبه مرة أخرى وتريث حتى فتح الرجل الباب وقال له (تفضل) وجلسا جنباً إلى جنب وانطلقت بهما السيارة، وحافظ على هدوئه ورزانته وصر بأسنانه ليطرد ابتسامة خفيفة تحاول أن تعتلي شفتيه؛ وكأنه أراد أن يداري عواطفه فسأل الرجل عن مريضه، وتكلم الرجل في إسهاب فقال إن المريض ابنه وأنه لم يجاوز العشرين من عمره، وأنه أحس منذ أيام بتوعك وخور ورغبة عن تناول الطعام، ثم ارتفعت حرارته واستسلم للرقاد فسأله: (هل حقن بالمصل الواقي؟) فأجاب الرجل بالنفي، وأعلن عن رجائه الحار ألا يكون الشاب أصيب بالحمى الخبيثة، فصمت الطبيب ملياً يفكر في هذه الأعراض ويزنها بميزان اختباراته وعلمه، وكانت السيارة في أثناء ذلك تخترق الطريق الزراعي بسرعة البرق حتى بلغت العامرية وانعطفت إلى حاراتها الضيقة ثم وقفت أمام دار كبيرة، فدخلا معاً واستقبلتهما أوجه كثيرة بأعين يقتتل بها الخوف والأمل، فساوره القلق وتلبسه شعوره حين تعرض لأول مريض بدأ به حياته التمرينية في قصر العيني منذ ثلاثة أعوام، فاستصرخ قوة إرادته ليضبط بها وجدانه ويجتاز هذه التجربة الجديدة بالنجاح، وأغضي عمن حوله وسدد انتباهه إلى الشاب الراقد بين يديه، وكشف عليه بعناية فائقة وفحصه فحصاً دقيقاً فترجح لديه أنه مصاب بالتيفود، وأبدى رأيه في تحفظ وقال إنه ينبغي أن يفحص المريض في اليوم التالي ليستوثق من رأيه، فلا آمنهم من خوف ولا أفقدهم الأمل، وظن أنه ضمن لنفسه أن يتردد على المريض حتى يبلغ به الشفاء بفنه أو يودعه القبر بأمر الله. ثم أخذ حقيبته واتجه نحو الباب بخطى وئيدة كأنه يريد شيئاً، فلحق به والد المريض وهمس في أذنه قائلاً: (تفضل) فخفق قلبه لثالث مرة ذاك اليوم ومد يده وهو يقول: (شكراً) فأحس بثلاث قطع من ذات العشرة قروش توضع بها، ثم جلس في السيارة منفرداً هذه المرة، وانطلقت به في طريق العودة؛ وكانت هذه أول مرة يدعى فيها إلى زيارة مريض في بيته، فاغتبط ورضى وأشعل غليونه وراح يدخن بحالة من السرور لم تخل من اضطراب عصبي فأخذ (أنفاساً) سريعة فتوهج التبغ وسخن الغليون، ولم يستمر في التدخين طويلاً فوضعه في جيب الجاكتة الأعلى وأرسل بناظريه خلل زجاج النافذة يشاهد الحقول الممتدة على جانب الطريق الغارقة في الأفق البعيد، وكانت تنتهي عند الطريق الزراعي بجدول من الماء ينساب صافياً تستحم فيه أشعة الشمس المائلة للغروب وتغشاه بنور لألاء بهيج يخطف الأبصار؛ فاستسلم لسحر الرؤية، وشعر بتخدير لذيذ، حتى انتبه إلى تغير غريب يسري في صدره وجسمه فتحولت أفكاره من الخارج إلى الداخل فأحس بسخونة تنتشر في أعضائه جميعاً كأن حرارته ارتفعت بغتة، فتململ في جلسته وحرك رقبته بعنف، ثم لم يحتمل شدتها فخلع طربوشه وفك أزرار الجاكتة وأخرج منديلاً يروح به على وجهه وهو يعجب أشد العجب لأن الجو كان معتدلاً لطيفاً، واشتدت وطأة السخونة والتهب جسمه بالحرارة، فجس خديه وجبينه وشعر بثقل في جفنيه ورأسه وضيق في التنفس، وتساءل في حيرة عما أصابه، وخطر له خاطر مخيف: هل يكون مريضاً؟!. . . وذكر لتوه الحمى الشيطانية التي تفتك بأهل المديرية فتكاً جهنمياً

وكان قد حقن نفسه بالمصل الواقي فكيف انتقلت إليه العدوى؟!. . . هل سبقت الميكروبات المصل إلى دمه؟!. . . ولفه الذعر وكان في الحقيقة جباناً رعديداً شديد الهواجس سرعان ما يستسلم للتشاؤم ويقع فريسة سهلة للمخاوف، فعاد يجس خديه وجبينه فوجدها ساخنة وأحس بجسمه يكاد يلتهب التهاباً فاستولى عليه الفزع وارتعدت فرائصه وقال بذهول (يا للويل. . . لقد أصبت وانتهيت. . .)

وقطعت السيارة مرحلتها وانتهت إلى عيادة الطبيب الشاب - وكانت عيادته ومقامه في شقة واحدة - فتركها على عجل وصعد إلى حجرة نومه واستدعى التمرجي وقال له: (ناد الدكتور سامي بهجة بسرعة وقل له إني أصبت بالتيفود) فجرى الرجل مرتعباً وأخذ الدكتور يخلع ثيابه بيدين مضطربتين وارتدى البيجامة وارتمى على الفراش في حالة يأس ورعب وغم شديد وقد خيل إليه أن شرايينه ستنفجر من الحرارة. وكان يستحضر في ذاكرته أعراض المرض فلم يعد لديه ثمة شك في أنه مريض؛ وثبت في وهمه بقوة أن هذا المرض سيختم حياته. كان شديد الجبن متهافتْ الأعصاب فلم يستطع أن يأمل قط في النجاة وبات في يأس عظيم، وظل بعد الدقائق الثقيلة المرهقة ويصيح غاضباً (هيهات أن يجد الدكتور في عيادته، وسأجن هنا وحدي. . .)

وفي أثناء الانتظار فزعت أفكاره المجنونة إلى القاهرة، إلى أمه، ووجد حاجة شديدة إليها، وإلى وجودها إلى جانبه لتسهر عليه؛ وفكر فعلاً في أن يبعث إليها ببرقية، ولكنه لم يقبل هذه الفكرة بسهولة، وأشفق من إرهاقها وإزعاج حياة والده واخوته الصغار وربما عرضها للخطر أيضاً - وكان هذا أول شعور طيب يخالط قلبه منذ قدم طنطا - فصدقت نيته على أن يطلب إلى الدكتور بهجة نقله إلى المستشفى، وربما تمكن من رؤيتها هناك ليودعها إذا اشتد عليه الحال. وقد حن إليها في تلك الساعة حنيناً موجعاً. . . وأغمض جفنيه هنيهة يلتمس الجمام ويطرد عن قلبه الوساوس والهواجس، ولكن وجدانه الثائر أبى أن يدعه في راحة أو طمأنينة، أو أن يصرفه عن الانشغال الأليم بمرضه. ولم يكن دار له بخلد أن الطبيب بمأمن من الأمراض، ومع ذلك أحس بمرارة وسخط وحنق وساءه أن يفتضح مرضه الغادر في أثناء عودته من زورة مريض. أما كان الأجمل أن يجزي غير هذا الجزاء. . . وقر في نفسه أن العدوى انتقلت إليه في أثناء قيامه بواجبه في المستشفى بالرغم من حذره ويقظته فتضاعف سخطه وحنقه، وأسى على حياته التي لم يتح له التمتع بها؛ وكان يدفع إلى فكرة الموت دفعاً عنيفاً، ويقسر على الاستغراق فيها بقوة شيطانية. . . وحدثه قلبه الرعديد بأن نهايته حمت، فعطف رأسه إلى المرآة وأدام النظر إلى وجهه، فخيل إليه أنه محتقن بالدم الفاسد؛ ولكن كان ما يزال محتفظاً بنضارة الحياة وأثر الصحة الآخذة في الانحلال، فألقى عليه نظرة آسيفة حزينة، كأنما يودع آخر صورة للحياة والصحة عالقة به. . . ثم أدار رأسه قانطاً، وأسلمه القنوط إلى الاستسلام، وأسلمه الاستسلام إلى الاستهانة، ولاذ بها من مخاوفه، وقال لنفسه علام الخوف والذعر؟ الموت آت لا ريب فيه، إن لم يكن اليوم فغداً. . . هو النهاية المحتومة على أية حال لمهزلة الحياة. . . وماذا يضيره أن يقصر دوره في هذه المهزلة؟ فلعل في قصره اختزالاً لآلام مروعة. على أن تعزيه لم يدم طويلاً. . . وألحت على قلبه الآلام مرة أخرى. . . فذكر آماله وأطماعه في المجد والثروة، وارتسمت على شفتيه لهذه الذكرى ابتسامة مريرة ساخرة. . . وشعر بامتعاض يفوق الوصف. . . وذكر الثلاثين قرشاً التي طرب لها فرحاً قبل حين قصير: فأزداد امتعاضه، ولعن رزقه الذي يناله من أيد شحيحة، لا تفرط فيه حتى يهزلها المرض، فتراخى عن الضن به، ولعن النظام الذي يجعل سعادة القوم منوطة ببأساء آخرين. . . يالها من مهنة مخيفة، يستمد رجالها حياتهم من النفوس المريضة كالجراثيم سواء بسواء. . . وسخر في ذعره وتشاؤمه من الإنسانية والتضحية والرحمة، تلك الألفاظ الصماء التي حفظها عن ظهر قلب ولم تختلج له في شعور قط. . . فهو لم يشمَر أبداً لغير المجد والثروة، ولم يتصور ساعة أنه يبلغهما بغير معونة المرض. . . فعبده وهو لا يدري، ونصبه آلهاً يقدم له القرابين البشرية كبعل القديم، حتى سقط هو أخيراً قرباناً له، فأي حياة هذه؟. . . وذكر أيضاً في هذيانه وتشاؤمه قروياً بسيطاً عرض له في العيادة الخارجية لقصر العيني، وكان يريد أن يكشف على حلقه، فأمره أن يفتح فمه. . . وكان كلما أدنى منه المجهر يرتجف الرجل الساذج ويغلق فمه. . . وتكرر ذلك منه حتى اشتد به الحنق، وكان مرهق الأعصاب من كثرة العمل، فضرب جبين القروي بالمجهر، فشجه وأسال دمه. . . وقد أسف لذلك حقاً ولكن أسفه لم يخفف عن الرجل شيئاً. . . وذكرته هذه الحادثة بما يقع خلف جدران قصر العيني من أعمال القسوة التي تفزع من هولها النفوس البشرية، فذكر أنه تكاسل مرة عن إجراء عملية لمريض، لأنه كان أجرى هذه العملية مرات عديدة بنجاح، فلم يشعر بحاجة إلى تمرين جديد. واسودت الدنيا في عينيه، وعافت نفسه كل شئ في تلك الساعة الخبيثة

ثم سمع وقع أقدام في الردهة وصوت التمرجي يحادث الدكتور، فتمشت في أعصابه موجة نشاط ونسى وساوسه، وفزع إلى القادم بأمل جديد، ودعا ربه بصوت متهدج قائلاً: (آه يا رب، خذ بيدي! هبني حياتي مرة ثانية، أهب الناس أشرف ما في نفسي حتى الموت)

وما انتهى من دعائه حتى برز الدكتور بهجة من باب الحجرة وهو يقول بصوت مرتفع: مساء الخير يا دكتور. مالك؟

فقال الشاب بهدوء وإن كان في الحق يستغيث: أُصبت!

ففحصه الدكتور بعينين نافذتين وأصابعه تفتح الحقيبة، ثم قال: لعلها أنفلونزا

فقال بيأس: كلا. . . لا أشكو زكاماً ولا صداعاً. . .

- ولكنك لم تشك تعباً أو فقدان شهية في هذه الأيام. . . أليس كذلك؟

وتفكر الشاب قليلاً متحيراً ثم تمتم قائلاً: حرارتي فظيعة. . . إني أشعر بالمرض شعوراً مخيفاً. . .

- هل قست الحرارة؟

فعجب كيف فاته ذلك، وهز رأسه نفياً ولاذ بالصمت؛ فابتسم الدكتور بهجة ابتسامة ساخرة، ودنا منه والترمومتر في يده، ثم وضعه في فمه وانتظر هنيهة، ثم أخذه ثانية ورفعه إلى مستوى عينيه، ونظر إلى وجه الشاب رافعاً حاجبيه وقال ببساطة: حرارتك طبيعية. . . أنظر!

وقرأ الشاب الترمومتر وهو لا يصدق عينيه، وجس خده ثم قال: هذا عجيب! خدي ما يزال ملتهباً. كيف هبطت الحرارة؟

وأتى الدكتور بسماعة وطلب إليه أن يفك أزرار الجاكتة ففعل؛ ووقع بصر الرجل على الفانلا فبدت على وجهه الدهشة وصاح بسرعة وهو يشير إليها قائلاً: (انظر!)

فأحنى الشاب رأسه ناظراً إلى الفانلا فرأى فوق القلب دائرة مسودة من أثر احتراق خفيف. فاستولت عليه الدهشة وجلس في فراشه وهو يتساءل: (ما الذي صنع بي هذا!)

فضحك الدكتور بصوت عال وقال: (هاأنت ذا تكشف حمى جديدة يا دكتور!). وخطرت للشاب فكرة فالتفت إلى المشجب وقفز من الفراش واتجه نحوها ووضع يده في جيب الجاكتة الأعلى متناولاً غليونه، وفحص الجيب بعينيه فرأى آثار التبغ الذي أكل البطانة وحرق القميص وأثر هذا التأثير في الفانلا، ووقف مرتبكاً ينظر إلى الدكتور بعينين تسألان الصفح، وقد أحس بحرارة جديدة هي حرارة الخجل والارتباك

وبعد دقائق وجد الشاب نفسه وحيداً مرة أخرى، وكان ما تزال تعلو شفتيه ابتسامة الارتباك والخجل ولكنه كان يحس بغبطة وسلام، وكان قلبه يشكر الله الذي وهبه حياته مرة أخرى

وبر الشاب بوعده واعتزم أن يكون إنساناً قبل كل شئ، وعاد إلى عمله تنبض في قلبه أشرف العواطف وأنبلها، وكان يظن أنه سيصمد للتجارب لا ينكص على عقبيه مهما امتد به الزمن، ولكن وا أسفاه إن انقضاء الليل والنهار ينسى، ومن ينغمر في الدنيا يذهل عن نفسه، وللحياة جلبة تبتلع همسات الضمير، فقد أخذ يتناسى محنته ودعاءه ووعده حتى نسى ولم يعد يذكر إلا عمله ومستقبله وآماله وأطماعه، ثم ارتد إلى ما كان عليه، وكانت تلك الأيام القلائل في حياته كهدوء البحر الذي يصفو ويرق حتى يشف عن باطنه ثم لا يلبث أن تهيجه الرياح والعواصف فيرغي ويزبد وتعلو أمواجه كالجبال. ولعله لا يذكر هذه الحادثة الآن إلا كدعابة يتندر بها ويقصها على صحبه إذا دعا داعي الحديث أو السمر!

نجيب محفوظ