مجلة الرسالة/العدد 402/الفكر والسلطة
→ كلمة حق | مجلة الرسالة - العدد 402 الفكر والسلطة [[مؤلف:|]] |
الغناء والموسيقى ← |
بتاريخ: 17 - 03 - 1941 |
للأستاذ عبد المنعم خلاف
أود أن أعجل بالدخول في هذا الموضوع الذي أثاره الأستاذ الياس إبراهيم بدوي وأثار به قلم الأستاذ الكبير العقاد؛ فإنه موضوع يشغلني كثيراً في هذه الأيام وكنت على أن أفرد له مقالاً من مقالات (أومن بالإنسان) بعد ما أشرت إليه في إحداها فإنه جدير بالعناية؛ إذ التناقض بين السلطة والفكر هو السبب الأكبر في شقوة الإنسان وكفره بنفسه وبالعدالة وبالخير والحياة. فليكن هذا الحديث ملحقاً بتلك الأحاديث وإن لم يكن له عنوانها.
قلت في المقال الرابع من تلك المقالات: إن الإيمان بالعلم وتنظيم الحياة الإنسانية بطرقه وإطلاق الأفكار فيه هو الدين الواحد الذي يدين الإنسانية جميعها وتلتقي عليه بأفكارها وأيديها. . . وقد جعلها تلمس عرشها المرموق وتعرف دولتها المأمولة في مستقبل الحياة
ولكن أين العصا السحرية التي ستفعل في تعديل شهوات الأمم وغرائزها وتعصباتها الذميمة بحيث تجتمع على خدمة العلم والحياة بأفكارها وأيديها؟
ذلك ما يسأل عنه رجال التربية والمفكرون في الدين والاجتماع، رجال التربية فلاحو حقول الطفولة منطقة النمو الدائم وعُلب أسرار المستقبل، ورجال الفكر رسامو المثل العليا القادرون على استدراج الناس إليها وسجنهم فيها
ولكن هؤلاء وأولئك لا يزالون بعيدين عن مقاليد الحكم وتسلم مقاود القطيع بينما مكانهم هناك لو صحت الأوضاع. . . ولا يزال محترفو السياسة والدجاجلة بها المتخلفون عن بلوغ القمة في الفكر والخلق هم الغالبين المتسلطين. . . وهؤلاء هم سر البلاء النازل الآن بالناس كما كانوا في القديم
فأنا أتمنى بذلك أن يكون رجال الحكم في كل أمة هم رجال القمة في الفكر والخلق والقدرة على تربية الشعوب؛ فإن هذا هو الوضع الصحيح للحياة الاجتماعية التي يستقيم فيها كل شئ، ويؤمن المرء فيها بنفسه وبأمته وبالإنسانية جميعاً؛ إذ لا يجد في الحياة تناقضاً بين المثل العليا والقوانين المرسومة في الكتب والواضحة في نظام الطبيعة، وبين الوقائع العملية التي يسير بها الناس. وحيث لا تناقض بين ما في النفس وما في خارج النفس فهناك السعادة وهناك الإيمان وهناك الأمل والعمل المطرد إن الذي يؤهل الأب لأن يكون قيما في الأسرة، هو بذاته الذي يخول الحاكم والسلطان أن يكون قيما في مجموع الأسر. وأول صفات الأب الفكر والرشد الممتاز والعدالة بين أبنائه والحب لهم جميعاً
والحكم كالأبوة وصاية وخدمة وقيام على الناس بالرعاية والإصلاح والعدل لا سيادة وسلطان أو مكاثرة أو حب تسخير للناس أو طلب للامتياز عليهم أو اتقاء لشرور سلطة أخرى إلى آخر أسباب الحكم التي ذكرها الأستاذ العقاد وبين تفاوتها في القرب من الصواب
وكما أن الأب في الغالب هو أكبر أهل البيت عقلاً وأقدرهم على الكسب والإنتاج والإصلاح. . . كذلك يجب أن يكون (الأب الشعبي) أي الحاكم الراعي
وقد أغفل الناس هذه البديهية في الحكم ووسدوا الأمر إلى غير أهله الطبيعيين، وصار مالكو رقاب الناس وموجهو الأمم غير رجال القمة في الفكر والخلق ومعرفة اتجاهات الحياة، وإنما هم المحترفون للسياسة والجائعون للشهرة والعاشقون للجاه والمناصب والبطش والخيلاء، والجاهلون بعلوم النفس والتربية وأرصاد القدر وسير قافلة الحياة بالأحياء. . . الذين صعدوا إلى المناصب بالمكر والخديعة والدجل السياسي، لا بالطبع الكريم والفكر الناضج والمجهود الصالح والخدمة النافعة. . . الذين نفوسهم نفوس عوام، أو هم جعلوا همهم تمليق العوام والنزول إليهم بدل أن يرفعوهم بالتربية وقسوة الآباء التي لابد منها في بعض الأحيان. . .
ومن رأي أن الأرستقراطية في الفكر ضرورية للاجتماع، وليست مقبوحة كالأرستقراطية في المال. إذ لو اتبع الحكماء أكثر الدهماء ما خطوا بالإنسانية خطواتها في الترقي، وما وصلوا بها إلى شئ من أسباب سموها وهداها
والمحترفون للسياسة وعشاق المناصب يجعلون همهم تمليق العامة ليركبوها إلى المناصب. أما العلماء والمجاهدون في سبيل الفكر فهم الذين يحملون الناس على أكتافهم إلى واحات السلام والصلاح والانتفاع، وقد يضربهم الناس ويهينونهم كما يهينون الدواب التي تحمل متاعهم، ومع ذلك لا يتخلفون عن أداء رسالاتهم في نقل الناس من سيئ إلى حسن ومن حسن إلى أحسن إن رجال الفكر المخلصين للحقيقة الباحثين عنها الحالمين بصور الكمال هم وحدهم الذين لا تبطرهم المناصب والرياسات ولا يسعون لها إلا لأنها تمكنهم من تحقيق ما يحلمون به من وسائل الإصلاح وإسعاد الناس. وهم الذين يقيمون السياسة على قوانين الفضيلة لا على الختل والخداع وتصيد المال والخيلاء بالجاه
واعتقادي أن شقاء الإنسان السياسي ناتج من أن رجال السياسة الآن صاروا بعيدين عن الأفكار العليا الحرة، وصاروا تابعين لرجال المال الذين يبعدون عنهم كل ذي فكر وأحلام ومثل عليا في الروح
وعالم المال بؤرة للشهوات العنيفة والغرائز الحادة، والمنافسة الذميمة، وحب التملك، وتبرير الواسطة، والخوف من التغيير والتحول
وقد نشأ من اللقاح بين هذين الصنفين: محبي تملك الرقاب ومحبي تملك المال، ذلك الإنسان السياسي الفضيع الذي يخدع القطيع ويلعب به ويحلبه ويسوقه ويذبحه حين الضرورة الشخصية على مذابح الهوان والظلم. ولن تتخلص الأمم من شقائها وفوضى حياتها إلا إذا اختارت رجال حكمها من بين مفكريها الذين لهم روح تحلم بالكمال، ولهم قدرة عملية على التنظيم والإخراج والتنفيذ، ولهم مع هاتين الهبتين شخصية قوية تصون المنصب وتخلع عليه هيبتها وسيادتها الذاتية. فعلى الأمم أن تبحث عن هذا الطراز المفكر الحالم العامل القوى الشخصية بين رجالها وشبابها الناشئين، وأن تربيه في مدارس خاصة بتخريج الحكام يكون لها برامج تكفل إنضاج الفكر الحاكم السائس المربي
وحين يوجد الفيلسوف الحاكم يكون التناسق والتربية النفسية والحقيقة والرضا عن الوطن و (المواطنين)
وقد كان عهد الرئيس الدكتور (مازاريك) في (تشيكوسلوفاكيا) مثالاً صالحاً للحكم تحت وصاية أرباب الفكر الذين لا يخضعون (للروتين) ولا يتحجرون في قوالب الواقع السيئ
فقد فاق (التشك) تحت حكمه جيرانهم جميعاً حتى الألمان، فاقوهم في التنظيم الداخلي والاقتصادي والرياضي والعسكري والاجتماعي. إذ أنهم كانوا تحت وصاية رجل بصير بآفاق الحياة مدرك اتجاهاتها، برئ السيرة والسريرة من آفات محترفي السياسة الطالبين للمناصب ولو لم يكونوا أهلاً للوصاية للعامة، الحاذقين (للمناورات) والمقالب والدسائس مع الجهل بالإصلاح
إذاً فمن الخير للأمم أن يتولى سياستها رجال الفكر وعشاق المثل العليا وأن يطبقوا حياتها العملية على أفكارهم النظرية السليمة
ولكن هل من الخير لرجال الفكر أنفسهم أن يوسد إليهم أمر الناس وتدبير سياستهم ومعايشتهم؟ إن لذة الفكر المجرد والهدوء الذي يغمر عالمه والأنس به والأحلام فيه والانقطاع إليه شئ عظيم قد يفضله كثير من المفكرين على الاشتغال بصغائر الحياة العملية ومضايقات سياسة الناس وتدبير أمورهم، ولو كان مع هذا جاه ومال وسلطان وقوة وشهرة
بل إن أكثر الذين أخلصوا للفكر والفن يضيقون ذرعاً بحياة الناس العملية ويخلقون لهم جواً خاصاً بهم يعيشون فيه وحدهم ولا يعدلون به سواه. ولذلك قال الجاحظ ما معناه: (ما لذة الأسد بلطع الدم بأعظم من لذة العالم بعلمه). وقال أحد الصوفية: (لو علم الملوك ما عندنا من اللذات لقاتلونا عليها)
وقد صور (جبران خليل جبران) وجدانيْ رجل الأدب ورجل النشب ونَظْريتَيهما للحياة حين قال: (تبادل غني وأديب النشب والأدب، فرأى الأديب ما بيده حفنة من تراب، ورأي الغنى ما برأسه نفخة من ضباب. . .)
فهل يلذ المفكرين أن ينزلوا عن أبراجهم العاجية المليئة بصور الكمال والجمال والهدوء إلى دنيا الواقع المليئة بالصخب والتشويش والمتاعب؟
وهل من الخير للحياة أن يظل رجال الفكر في نظرياتهم وأحلامهم يتصيدونها من آفاق بعيدة ويؤلفون صورها ويدمنون ذلك وينقطعون إليه، حتى يكثروا أمام الناس صور الكمال، وأن يتركوا للملوك والساسة العمليين أن يأخذوا منها الجانب الذي يروقهم ويحلو لهم تطبيقه في أساليب حكمهم؟ أم أن من الخير للحياة أن يتولى رجال الفكر بأنفسهم تنفيذ ما فكروا فيه ووفقوا إليه ولو قطعهم ذلك عن إنتاج الأفكار الكثيرة الرائعة؟
وهل من الخير للرجل أن يخلد ويذكره التاريخ على أنه مفكر أو فنان أو أن يذكره على أنه حاكم سديد مصلح؟
إن النتاج العلمي والفني قد يبقى كما هو دائماً في الكتب والدواوين والآثار. . . يراه الناس كما كان في عهد صاحبه. . . ولكن نتاج الحكم والإصلاح مؤقت بحياة صاحبه فلا تدركه الأجيال التالية، إلا بالحكاية عنه والسماع. وليس فيه خلود ذاتي كالأثر الفكري والفني، وإنما خلوده بتطبيقه على الحياة العملية. وهذا طبعاً ليس مطرداً ولا كثير الوجود في جميع العصور. . .
فحياة الإصلاح والقوة في زمن عمر بن الخطاب وعمر ابن عبد العزيز مثلاً انقضت بانقضائهما، وصار الحديث عنها حديث حكاية مضى أشخاصها. وقليل أن يقتدي بهما حاكم آخر، ولكن حياة أي كتاب ديني أو علمي أو فني تبقي تمثل نفس صاحبها ومنتجها دائماً. . .
ومع هذا يجدر بنا أن نعلم أن حياة الفكر وحده لا فائدة منها إلا لفترات (الترف العقلي) والترف العقلي كالترف المالي ما هو إلا شهوة. . . شهوة رفيعة
نعم إن للعقل شهوات كشهوات الغرائز! فالمفكر أو الشاعر الذي يتفرغ لعالمه الخاص ويترك العمل على إصلاح ما يحيط به ما هو إلا كالمدمن المستهتر على الخمر أو القمار؛ إذ يغيب عن حياة المجموع ولا يجعل بين عقله النظري والعقل العملي صلة
والسؤال الذي يجب أن يقدم قبل البحث في هذا هو: أمن الخير للفرد الفقير المريض المحتاج في الأمة أن تقدم له غذاء ودواء وحياة عادلة أم أن تقدم له لحناً جميلاً أو شعراً رائعاً أو نظرية بارعة؟
إن الحياة العملية هي الحكم في هذا. . . وقد مضى العلم والفكر القديمان اللذان كانا يدوران على الذاتية واللذة الشخصية وأتى عصر الفكر العملي الذي ينتج محصولاً ينفع الناس في مرافقهم المعاشية
فصاحب الفكر التجريبي الآن قد صار صاحب الخطوة والخالد الأثر عند الناس. لأنه يشتغل فيما يعود عليهم جميعاً. . .
وقد لفظت الحياة الحالية كل من يفكر على الأسلوب التجريدي القديم الذي لا ينتج شيئاً يصح انتفاع الناس جميعاً به واحتضنت كل من يقدم لها أعمالاً وأغدقت عليه الثروة والجاه والسمعة. . .
وينبغي أن ينصرف حديثنا هذا إلى غير المفكرين من العلماء الطبيعيين الذين يكشفون عن أسرار الطبيعة. فهؤلاء يجب أن يتفرغوا ويعيشوا في عالمهم وحده إلا إذا كانت لهم قدرة على الجمع بين حياة الحكم وحياة هذا اللون من العلم
أما الذين يفكرون في النظريات الأدبية ويدرسون الاجتماع ويضعون فلسفته فيجب أن يختار منهم من يستطيع الاضطلاع بأعباء الحكم وتطبيق النظريات على الواقع
ويجب أن يعلموا أنه لا فائدة من أن يضعوا كثيراً من النظريات والأفكار ويتركوها دفينة بين دفات الكتب من غير تطبيق؛ وإن المفكر الناجح هو من يصنع فكرة ثم يصنع بها أمة أو جماعة
ويخيل أليّ أن كل المجهودات الفكرية التي ليست داخلة في منطقة العمل هي هوى ذاتي وترف عقلي وأقرب إلى الوجدانيات كالموسيقى والألحان
إننا لا نمسك ديوان شعر أو نسمع ألحان الموسيقى أو نقرأ قصص التاريخ إلا إذا فرغنا من أعمالنا المعاشية وأقبلنا على أوقات الفراغ نستمتع بها، ولن يقبل على هذه الألوان في كل وقته إلا هاو مستغرق أو محترف مرتزق
وقد يكون من العجيب عند بعض الناس أن يعلموا أنني أعتقد أنه يجب للإصلاح السريع في مصر أن نضحي بعيشة الترف العقلي مدة موقوتة تغلق فيها جميع المعاهد العالية مدة سنة أو سنتين نحشد جميع أساتذتها وطلابها للخدمة العامة والاشتراك في حركات الإصلاح البدائي ونترك التفرغ للبحوث الفكرية والهوايات الفنية ونتفرغ لتدبير أمور الجمهرة الجاهلة من هذه الأمة حتى يعلو مستواها ويتقارب مع مستويات الأمم التي سبقتنا في التعليم والإصلاح
قد يبدو هذا غريباً عجيباً، ولكن هو ما أعتقده. لأني أرى وجود المريض جداً بجانب الصحيح جداً يفقد بهجة الحياة لدي الصحيح، ويؤلم المريض بالحسد والنظر المحروم؛ وأرى أن الأولى للعالم والمفكر ألا يوغل في علمه وفكره، ويترك غيره جهلاء لا يفهمونه ولا يقدرونه
ووجود عدد من جهابذة العلماء عندنا بجانب ملايين الجهلة التعساء المرضى هو بذاته كوجود الميادين والشوارع الجميلة في المدن المعدودة في مصر بجانب آلاف القرى التي تقام من الطين والسرجين والأحطاب والمستنقعات. . .
فعلى هذا ينبغي أن يقدر أدباؤنا ومفكرونا أن عملاً صالحاً يقدمونه في حكم صالح يسعون إلى أن يقوموا عليه، أولى ألف مرة من تقديم قصيدة رائعة أو مقالة بارعة أو فكرة عبقرية غير عملية. . . إذ أن هذا العمل الصالح المثمر أهنأ لدي آلاف من القلوب المحكومة، وأسرع إلى إسعادها، وأدنى إلى أسلوب الله في نفع عباده، إذ أنه يعمل لهم كثيراً في تدبير الطبيعة ولا يتكلم. . . وإن قانوناً عادلاً يضعه لأمته حاكم رشيد لأنفع ألف مرة من جملة كتب تعرض أفكاراً طلية للترف العقلي. لأن القانون العادل يضمن ضرورات الحياة للناس جميعاً. أما كتب الأفكار، فتضمن بعض ترف الحياة لبعض الناس. . .
ولو ترك محمد عليه الصلاة والسلام القرآن من غير أن يترك أمة قد قام عليها بالتربية والحكم والتوجيه والتعليم لظل القرآن ككتاب من الكتب لمؤلف من المؤلفين. . . ولكنه صنع أمة تجسدت في أشخاصها معاني هذا الكتاب ومشت تسعى بهم وصاروا هم كلمات حية تشرح آياته. . .
وأظن أن سعادة الرجل الذي ينجح في تطبيق مشروع يسعد الناس تربو كثيراً على سعادته بإخراج أثر فكري أو فني حبيس في الورق
فليحمل أدباؤنا ومفكرونا نصيباً من الخدمة العملية، وليرضوا أنفسهم على إسعاد القلوب بالأعمال كما يسعدون الآذان بالأقوال، وليجتهدوا أن يحققوا معاني مقالاتهم في أشخاص وأعمال مجسمة، وليسعوا دائماً إلى أن يكون حكامنا وزعماؤنا هم رجال القمة في الفكر والخلق حتى نلائم بين ما في النفس وما في خارج النفس.
عبد المنعم خلاف