مجلة الرسالة/العدد 402/الأدب العربي الحديث في مصر الجنوبية
→ العصبية داؤنا الموروث | مجلة الرسالة - العدد 402 الأدب العربي الحديث في مصر الجنوبية [[مؤلف:|]] |
في العقد ← |
بتاريخ: 17 - 03 - 1941 |
للدكتور زكي مبارك
كان من توفيق الله - تباركتْ أسماؤه! - أن ألتفت إلى الأدب العربي في السودان، فقد تلقيت وتلقّى الأستاذ الزيات رسائل كثيرة تشهد بأن ذلك الالتفات صادفَ هوىّ في أفئدة أهل الغيرة على الأدب في ذلك القُطر الشقيق
ومن الحديث المعاد أن أقول: إن المصريين والسودانيين إخوة، ولكن يجب أن نعترف صراحةً بأننا فرّطنا في حق تلك الأخوَّة، فلم نؤدّ لها كل ما يجب من التعهد والرعاية، ولم نبذل في سبيل إعزازها جهداً يستحق التسجيل
ويزيد في الأسف على ما وقع من التفريط أن البرّ بأشقائنا في مصر الجنوبية لم يكن يكلفنا عَنتاً لو أردناه، فالسودان قريب وجوّه مقبول في أكثر الفصول، والاتصال بأهله يفتح أمام قلوبنا آفاقاً جديدة من المعاني الأدبية والروحية، لأنهم يغارون على العروبة غيرةً لا يعرف صدقها إلا من عرف بعض رجالهم الأمجاد، ولأنهم حفظوا عهد الإسلام في أوقات قلّ فيها المؤمن الصادق والمرشد الأمين
ومن المؤكد أن السودان قادرٌ على المشاركة الجدية في إحياء الأدب العربي، فلأهله الأماجد ماضٍ مجيد في خدمة اللغة العربية وإن جهله الأكثرون، ولشبانه في هذا العهد مطامح وآمال، وقد يقدرون بعد قليل على الظفر بمنازل أدبية يصل صداها إلى جميع الأسماع بالبلاد العربية
في السودان تطلُّع شديد إلى الاستفادة من تقدُّم العلوم والآداب في العصر الحديث، ولهذا التطلع سنادٌ مما ورث أهله من معارف العرب القدماء. وإن دام هذا الحال وسيدوم، فلن يمضي إلا زمن قليل حتى يصبح للخرطوم وأم درمان مكان بين العواصم التي تحمل مشاعل الثقافة العربية من أمثال: القاهرة والقدس ودمشق وبيروت وبغداد. . .
أغلب أهل السودان من أرومة عربية، فغيرتهم على العروبة غير طبيعية. يضاف إلى ذلك مُقامهم في بقاع توصف عند القصد في الوصف بأنها الشؤون الذي تذرف ماء النيل، وهو أكواب من التِّبر المذاب
كان من الخطأ البيّن أن نترك أمر التفكير في السودان لرجال السياسة، وهم قومٌ لا يلتفت - حين يلتفتون! - لغير الاتفاقات والمعاهدات، ولا يذكرون إلا أن السودان جزءٌ من مصر تعرض لمصاعب قد تزول بعد زمن قصير أو طويل.
والأمة التي تعتمد على ساستها في (جميع) الشؤون، غير جديرة بشرف الاستقلال
يجب على رجال الأدب أن يعرفوا واجبهم نحو السودان، السودان العربي، بغض النظر عن صفته المصرية، فمن التقصير الذميم أن ننسى أن السودان من موائل العروبة، حين نتحدث عن: المغرب واليمن والحجاز وفلسطين وسورية ولبنان والعراق
والعتْب الذي أوجهه إلى أدباء مصر، أوجهه إلى إخوانهم بسائر الأقطار العربية، فقد كان يجب على إخواننا في الشرق العربي أن يذكروا إخوانهم في السودان، فما خلا رأس أديب بمصر الجنوبية من شواغل نبيلة تصل عقله وروحه بأقباس العروبة في هذا الزمان، وإن لمعتْ من أفق سحيق كالأفق الذي تشعْ منه بوارق العروبة بين المهاجرين في أمريكا الجنوبية
أليس من العقوق أن يجهل بعض أبناء العرب أخبار السودان، مع أن السودان يعرف من أخبارهم كل شئ؟
لمصر فرصة من فرص الجاذبية، وهي مكانتها العلمية، وللحجاز فرصة أعظم، لأنه وطن الحرمين الشريفين، والشام معهد ملك بني أمية، والعراق معهد ملك بني العباس، فماذا بقى للسودان حتى يهتم به العرب والمسلمون؟
بقى للسودان حق شريف نبيل: هو تفرده بالصدق الأصيل؛ فما تعب العرب ولا تعب المسلمون في توطيد سلطانهم الأدبي والروحي في البلاد التي ينبع فيها النيل، وإنما صدق السودان للعروبة والإسلام بلا دعوة ولا دعاة كأنه أبى أن يتلقى وحي الهداية عن أحد من الوسطاء
السودان العربي حصن حصين، والسودان المسلم كنز ثمين، ولو صدق جميع العرب والمسلمين كما صدق السودان لخفَّت بليتنا بالخوارج على العروبة والإسلام في بلاد لم يحفظ فيها مجد الآباء غير أفراد لا يزيدون عن مائة مليون، مع أن هَدي العروبة والإسلام كان وصل إلى مئات الملايين
قيل إن أهل السودان وصل عددهم إلى ثمانية ملايين من النفوس، وأقول إنه ثبت عندي أن أهل السودان وصل عددهم إلى ثمانية ملايين من القلوب، فما في عرب السودان رجل بدون قلب، ولا جاز عند أهل السودان أن يكون الصديق ملكاً في المحضر وشيطاناً في المغيب، وإنما السوداني عدو أو صديق، لأنه يكره الختل والخداع، إلا أن يكون دخيلاً في الانتساب إلى تلك البلاد!
نصحني أحد الأصدقاء بأن أحافظ على الصلوات حين أزور السودان، لأن أهله لا يحترمون غير من يحافظ على الصلوات
فمتى أزور السودان لأعرف المدلول لكلمة الفجر وكلمة الشفق؟
كان أبي رحمه الله يوقظني من النوم لأؤدي صلاة الصبح قبل الشروق، وقد مات أبي، مع الأسف الموجع، ولم يبق لي صديق يذكرني بأوقات الصلوات
فما أسعد المصري المقيم بالسودان، لأن الجو هناك يقهره على مراعاة النوافل قبل أن يقهره على مراعاة الفرائض!
السودان السودان، السودان المسلم، السودان العربي، السودان المصري، وتلك أواصر لا ينكرها إلا جحودٌ أو جهولٌ
إن الذين غلبونا باسم السياسة لا يستطيعون أن يغلبونا باسم الوجدان، فمتى نعرف قيمة ما خصِصنا به من القدرة على الظفر بثقة الأرواح والقلوب؟
مصر غنية بالعواطف، ولكنها لا تعرف كيف تنتفع بذلك الغنى الجميل
مصر التي عذبت زعماءها وهي تذكرهم بواجبهم نحو السودان لم تقهر واحداً منهم على زيارة السودان
أليس من العيب أن يشهد التاريخ أن السودان لم يزره مصطفى كامل ولا سعد زغلول؟
إن الشيخ محمد عبده زار السودان وهو موقوذٌ بمرض السرطان، فكانت تلك الزيارة آية على أنه يعرف معنى الاستشهاد في سبيل الوطن الغالي، ومحمد عبده هو محمد عبده، فمتى يجود بمثله الزمان؟!
أنا أرجو أدباء مصر أن ينسوا الجدل السياسي حول مركز مصر في السودان بعد أن انتهت الأمور إلى ما انتهت إليه، وبعد أن صح أن الهجرة إلى السودان لا تستهوي ألباب المصريين لأن مصر تشدهم إلى ثراها الخصيب بقيود مجدولة من وشائج الخيرات والثمرات، وهم لهذا السبب أزهد الأمم في الانتقال من مكان إلى مكان
كل ما أرجوه من الأدباء والفنانين أن يذكروا أن بلادنا تنقسم إلى شطرين: مصر الشمالية ومصر الجنوبية، فإن فهموا هذا فقد يصبح من واجبهم أن يصطافوا في الخرطوم كما يصطافون في الإسكندرية. ولم يخبرني الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد بجديد حين تلطّف فكتب إليَّ يقول: إن جوّ السودان في يوليه وأغسطس وسبتمبر لا يعرف ما سميتُه (وقدة الصيف): لم يخبرني هذا الصديق بجديد فقد كنت أتابع ما ينشر المذياع من درجات الحرارة في الصيف وكان يسرني أن أعرف أن الحرارة في الخرطوم أقل من الحرارة في الإسكندرية بنحو عشر درجات
فما تفسير ذلك؟
تفسيره سهل، فالصيف في السودان هو موسم الأمطار، الأمطار التي تعيش بفضلها مصر الشمالية منذ الأبد الأبيد، فأين الشاعر الذي تهزه هذه المعاني فيعيش موسماً أو موسمين في ضيافة الأمطار بالسودان ليعرف أن المصريين القدماء لم يسموا النيل (حابي) إلا وهم يدركون أنه حباهم الخيرات والبركات، بفضل ما ينقل إليهم من أمطار السودان. والحابي هو الوهاب، وذلك حرف نقله المصريون عن العرب، أو نقله العرب عن المصريين.
أين الشاعر الذي تهزه هذه المعاني فيزهد مرة واحدة في تعقّب أسراب الملاح في الشواطئ المصرية أيام الصيف ليرى بعينيه كيف تقتتل الأمطار في أعالي مصر الجنوبية ليكون من حظنا أن نجد الفرص لملاعبة الأمواج في أسوان والأقصر وأسيوط والقاهرة والمنصورة ودمياط؟
إن مصر الشمالية فتنت أبناءها أعظم الفنون، فلم يعرفوا أن الرواضع مدينة للروافد، وقد يكون فيهم من يجهل الفرق بين الروافد والرواضع
فمتى نصبر على هذه البلادة الدميمة، البلادة التي قضت بأن نجهل كل شئ من الجوانب الروحية والأدبية في السودان، وبحياضه وأرباضه قبائل صحيحة النسب إلى يَعرُب وقحطان؟
كتب الأستاذ الهادي إلى مجلة الرسالة كلمة تحدث فيها عن زعماء السودان، فمن أولئك الزعماء؟ لم أعرف منهم غير اسمين اثنين، مع أني أعرف مئات الأسماء من أهل الفضل في مختلف البلاد العربية والإسلامية، فكيف جاز أن أُطوق بهذا الغُل، وأنا أعرف أن أقبح الأغلال هو غُل الجهل؟
وهل تفردتُ بالجهل حتى أسوق إلى نفسي هذا الملام العنيف؟
لقد شاركني في هذا الجهل جماعة من الفنانين الفضلاء، ألم تشهدوا بأعينكم أفلاماً مصرية أُخذت مناظرها من البلاد السورية واللبنانية والعراقية ولم يؤخذ منها منظر واحد من مناظر مصر الجنوبية؟
إن أردتَ التعرف إلى مناظر السودان عن طريق السينما - أو اَلخَيالة كما يسميها بعض أساتذة اللغة العربية -
فاطلب مشاهدة بعض الأفلام الإنجليزية أو الأمريكية، ولا تنتظر الأفلام المصرية، لأن الفنانين في مصر لم يعرفوا أن في الدنيا بلاداً غنية بالمناظر الطبيعية مثل السودان وهو الجزء الجنوبي من الوطن الغالي
ومع هذا يقال: إن المصريين يقدمّون دروس الوطنية إلى شعوب الشرق!
قد يجيب بعض الفنانين بأن مناظر السودان ممزوجة بسكان السودان وفيهم أقوام لهم أشكال وأزياء ينكرها الذوق الحديث (؟!)
وأقول إن الجمال الحق هو جمال النفوس والقلوب، لا جمال الأشكال والأزياء، فالبدويّ الممزَّق الثياب قد يكون أكرم نفساً وأطهر سريرة من الحضري الأنيق
ولسنا أطفالاً حتى ننخدع بالظواهر الكواذب، وإنما نحن طلاب حقائق، وطالب الحقيقة يعلم كل العلم أنها غانية عن التزيين والتلوين، فمن ظن أنه يؤذينا أو يؤذي تلك البلاد بنقل ما فيها من صور تمثل بعض من يعيشون هنالك على الأساليب الطبيعية فهو جاهل بالقيم الصحيحة لحيوات الشعوب، وهي حيوات تتأثر بظروف المكان إلى أبعد الحدود
وبأي حق نطالب أهل السودان بأن يُستعبدوا كما استعبدنا للأزياء الأوربية؟ وبأي حق يجوز لبعض الموظفين في السودان أن يدخلوا مكاتبهم في ملابس لا ترى الصيف والشتاء إلا بعيون الأوربيين؟
وهل ظفر الأوربيون بالسلامة من سواد قلوبهم حتى نحاكيهم في جميع الشؤون؟
أوربا هلكتْ بسبب التصنع، فلنرحم أنفسنا من مهالك التصنع، ولتذكر أن نجاحنا في ماضينا يرجع إلى فضيلة الاحتكام إلى العقل في جميع الأمور، وهي فضيلة حفظت وجودنا سليما على اختلاف الأجيال
أما بعد فأين أنا مما أريد؟
أنا ماضٍ في نظم سلسلة من الأبحاث عن الأدب الحديث في السودان، ولكن السودان يصدّني عما أريد؟ فكيف وقع ذلك؟
هنا يظهر نضج العقل في تلك البلاد، فما كاد يصل مقالي بالرسالة إلى مدينة الخرطوم حتى سارعت إحدى الجماعات الأدبية هنالك فأرسلتْ إلىّ برقية ترجوني فيها إرجاء الحكم على أدب أهل السودان إلى أن أزور السودان. وكذلك صنع الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد، فقد كتب إليّ خطاباً قال فيه: إن أدباء أهل السودان مع ارتياحهم للحديث عنهم يرجون أن أؤجل هذا الحديث إلى أن أزور السودان
فهل تعرفون السرّ في هذين الاقتراحين؟
يظهر السرّ جلياً حين تعرفون أني لم أتأهب لإنشاء بضع مقالات للتعريف بالأدب الحديث في العراق تيسيراً لمهمة المدرسين الذين سيتقدمون لمسابقة الترقية للتعليم الثانوي إلا بعد أن كتبت لسعادة مدير التربية والتدريس في بغداد خطاباً أرجوه فيه أن يتفضل فيحدد المعالم الواضحة لأدب العراق، خوفاً من أن يشط قلمي فيخوض في أحاديث ينكرها أهل العراق
فإذا جاز أن أتحفظ في الحكم على الأدب العراقي بعد أن زرت جميع الحواضر العراقية، وبعد أن تعرفت إلى جمهرة أهل الأدب هنالك، فكيف لا أتحفظ في الحديث عن أدب أهل السودان وأنا لم أزر تلك البلاد؟
الحق أن هذين الاقتراحين على جانب عظيم من السداد، وبهما يظهر أنه لا بدَّ من تأجيل الحديث عن أدب أهل السودان إلى أن أتشرف بزيارة ذلك القطر الشقيق؟ ولكن متى! سيكون ّذلك بإذن الله في شهر أيلول، وهو موسم طغيان النيل، فعندئذ أزور السودان بصحبة صديق يحبه السودانيون وهو الأستاذ الزيات؛ ثم أكتب عن الجوانب الأدبية، ويكتب هو عن الجوانب الاجتماعية، وبهذا يمكن تسجيل صور صحيحة عن السودان ينتفع بها المتشوقون لأخباره من أبناء الأمم العربية ثم ماذا؟ ثم أقول: إني علمت أن جريدة (صوت السودان) أخذت تُصدِر أعداداً خاصة في التعريف بأدباء مصر الجنوبية تمهيداً لتحقيق المشروع الذي فكرتُ فيه، فأرجو أن يتفضل الإخوان هناك بإرسال تلك الأعداد باسم: (زكي مبارك بمصر الجديدة) لأستطيع متابعة هذه الدراسات الأدبية، ثم أقول أيضاً: إني أرجو أن يتفضل أحد أدباء (السودان) فيرشدني إلى ما صدر عندهم من المطبوعات الحديثة مع النص على المكاتب التي تبيعها لأقتني منها ما يساعد على فهم هذا الموضوع الجليل.
والمهمّ هو أن نكون رجال أعمال، لا رجال أقوال، فلن يكون الوعد بزيارة (السودان) زُخرُفاً من القول نلاطف به إخواننا في ذلك القطر الشقيق، وإنما يجب أن يكون من نياتنا الصوادق أن نعاون معاونة صحيحة على تأريث الأدب العربي في السودان، وأن نسجل تطوّر الخواطر والأفكار في ذلك الشطر من وادي النيل، النيل الذي فتن (إميل لودفيج) فزاره في منابعه، ثم أنشأ فيه كتاباً خلق للسودان ملايين من الأصدقاء
كان أسلافنا أصدق منا يوم عَبدوا النيل، وكنا عاقين حين اتهمناهم بالوثنية، فما كان التعلق بمصادر الخيرات إلا فنا من الثناء على واهب الخيرات
لما هبطت أسعار الفرنك في فرنسا منذ بضع سنين هتف صوتٌ يقول: أيها الفرنسيون، انتهزوا فرصة هبوط الفرنك وزوروا أقاليم وطنكم الجميل!
وأقول: إن الحرب قضت بأن تقفَل أبواب أوربا في وجوه المتشوقين إلى ما في أوربا من ملاعب الصيف ومراتع الشتاء، فانتهزوا هذه الفرصة يا أبناء العرب وزوروا أقاليم وطنكم الجميل، على شرط أن تذكروا السودان، فهو اليوم أكبر قارئ للمؤلفات والجرائد والمجلات، مع تفرده بالاغتراب ظلماً عن قافلة الوحدة العربية
وفي ختام هذه الكلمة أذكر بالثناء العاطر ما صنع طلبة كلية الآداب، فقد تألفت منهم بعثة سنة 1938 لزيارة السودان كما تألفت منهم قبل ذلك بعثات لزيارة العواصم العربية، فصنيع كلية الآداب يشهد بأن فيها عقولاً تدرك أن وصل الأمم العربية بعضها ببعض غرضٌ يوجبه الصدق في إحياء الأدب العربي والتراث الإسلامي. وسيكون لكلية الآداب في توكيد هذه المعاني مقامٌ يسجله التاريخ بأحرف مسطورة فوق جبين الوفاء.
زكي مبارك