الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 401/من خلال التاريخ

مجلة الرسالة/العدد 401/من خلال التاريخ

بتاريخ: 10 - 03 - 1941


بَّناءون مَنْسيُّون في تاريخ الإمبراطورية البريطانية

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

تقابل الإمبراطورية البريطانية اليوم محنة قاسية، هي شر ما ابتليت به في تاريخها. ولا نستطيع أن نسبق الحوادث، أو نحكم على المستقبل، فإن في ذلك رجماً بالغيب ورمياً بالمجهول، ولكن الذي لاشك فيه أن هذه الإمبراطورية الواسعة الأطراف تتماسك على المحن وتزداد صلابة على الحوادث؛ وإذا كان في الماضي والحاضر دلالة على الآتي وعنوانٌ على المستقبل، فإن ماضي الإمبراطورية وحاضرها يبشران بمستقبل تعود فيه الأمور إلى قرارها، وترجع الأحوال إلى نصابها

ولم يسبق في تاريخ البشرية الحافل ومعرضها المملوء بالحوادث الجسام والأحداث العظام أن تجمع الملمات والظروف القاسية قرابة خمسمائة ألف ألف (500مليون) من أناس يختلفون في العقيدة، ويختلفون في لغاتهم وألسنتهم، ويختلفون في ألوانهم، فتراهم جميعاً صفاً واحداً وبناء متماسكاً: تؤلف المصالح المشتركة والعواطف المتحدة بينهم

ولقد قامت في التاريخ إمبراطوريات عظيمة: كالإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية المصرية القديمة، والإمبراطورية الإسلامية؛ ولكنها جميعاً انتابها ما ينتاب الكائنات: فطويت أخبارها وضاعت مقومات وجودها، ولم يبق إلا ذكر يتردد في أسفار التاريخ

ولكل إمبراطورية بناءون اشتركوا في بنائها ووضعوا فيها اللبنة فوق اللبنة، والحجر فوق الحجر، حتى ارتفع البناء واستطال في الجو؛ وبعض هؤلاء البناءين مشهورون معروفون تردد الألسنة ذكرهم، وتقترن أعلامهم دائماً باسم الإمبراطورية التي أقاموا بناءها ورفعوا لواءها؛ وبعض هؤلاء البناءين منسيون مغمورون لا يهتف باسمهم لسان ولا يتردد ذكرهم على فم، على حين تبقى أعمالهم خالدة دائمة، لا تنتسب إلى صانع ولا تنتمي إلى مؤسس وهؤلاء المنسيون في كل أمة، وفي كل واد، وفي كل ناحية من نواحي الحياة. ففي بنائي الأمم منسيون، وفي العلماء مغمورون وفي الشعراء والأدباء مطويون مقبورون

وليس من الحق أن يطول الأمد على نسيان هؤلاء الناس، وليس من العدل أن تظل أسماؤهم مكتوبة وحياتهم غامضة؛ وليس مما يشرف الإنسانية أن الجور يجري على أحكامها، وأن المحاباة تدخل في تقديرها وحسابها، فهي اعدل من تُطلب عنده النصفة ويلتمس منه التقدير

وفي تاريخ الأمة الإسلامية كثير من أمثال هذا النسيان، كما في تاريخ غيرها من الأمم. فليس من العدل أن يذكر اسم (الحجاج بن يوسف الثقفي) في توطيد الملك لبني أمية وينسى عشرات غيره ممن لا يقلون عنه يداً في دعائم التثبيت. وليس من الحق أن يذكر أبو مسلم الخرساني في الدعوة للدولة العباسية وينسى غيره ممن ساعدوا في بناء هذا الملك الذي يقول فيه الشاعر العباسي:

أصبح الملك ثابت الأساس ... بالبهاليل من بني العباس

نعم إن في بناء الممالك وقيام الإمبراطوريات عوامل أخرى تقوم بجانب العوامل الشخصية؛ وإذا كانت هذه العوامل الأخرى تذكر في معرض البحث ومجال الدرس ويلقى عليها ضوء يكشف عن دجاها، فإن العوامل الشخصية أحق بأن تذكر جميعاً، وألا يطوي النسيان واحداً أو اثنين أو جماعة منها

والذي يتتبع تاريخ الإمبراطورية البريطانية يجد فيها أسماء كثيرة يعرفها كل شخص، ويرددها كل لسان، يلقنها الطفل في مهده، ويقرأ عنها في دراسته الأولى، ويستزيد البحث عنها كلما كبرت سنه، وكثر ميله إلى المعرفة، وزاد شوقه إلى الاطلاع

فهناك (رودس) وأعماله الخالدة في جنوب أفريقية، وهناك (كوك) الملاح المستكشف الرحالة الذي راح ضحية مغامراته العظيمة فقتل بأيدي جماعة من سكان جزائر ساندويتش الوطنيين، وهناك (وولف) القائد العظيم الذي وطد للإمبراطورية في كندا وظهر في حصار (لويسبرج) واحتلال (كوبيك) في مفتتح القرن الثامن عشر؛ وهناك (نلسون) أمير البحر العظيم الذي جرح جرحاً بليغاً في معركة الطرف الأغر ضد الفرنسيين فلم يمنعه ذلك أن يقوم بواجبه وهو في ساعة النزع الأخير، وقد حشرجة نفسه وضاق بها الصدر

وهناك (دريك) (وكلايف) الذي مكّن لإنجلترا في بلاد الهند الواسعة وجعلها ملكاً للتاج البريطاني. وهناك عشرات غير هؤلاء يعرف الناس من أنبائهم الكثير

ولكن من سمع في تاريخ الإمبراطورية البريطانية عن (كلسي)؟ ومن حفظ اسم السير (جون ريتشاردز)؟ ومن خطر على باله أن يذكر في معرض الحديث عن القارة المجهولة الأفريقية اسم (موفات)؟

هذه أسماء ثلاثة لا أظن أن قارئاً سمع بها أو عرف نبأ عنها. فهي مطوية في تاريخ الإمبراطورية مسدول عليها ستار كثيف من النسيان؛ إلى أن تناولها الكاتب الإنجليزي الكبير (آدام بوزويل) في إحدى المجلات الإنجليزية من شهور قريبة، وعرف كيف يقدمها إلى قرائه في إنصاف بعيد عن التهويل والتهليل، وتجنب أن يضفي عليها ثوباً فياضاً من المبالغة والخيال. أما (كلسي فقد نشأ وضيع المنشأ، فقير الأهل صرعه الجوع يوماً فسقط مغشياً عليه، فالتقطه أحد الموظفين بشركة (هادسون باي) وحمله معه على إحدى البواخر حتى بلغا (فورت نلسون)، وهو بناء خرب متصدع الأركان يحيط به فضاء موحش، وهناك قام عمل الفراء على يد هذه الشركة

وكان (كلسي) غلاماً شقياً لا يطيع أمراً، ولا يحترم إرادة، فحمل إلى الحاكم فأمر بجلده. وتقلبت عليه سنون سود اختلط فيها بالهنود في كندا وعاش عيشتهم، وأخذ أخذهم، إلى أن حان له وقت البناء لمجد بلاده فألّب الهنود على الفرنسيين في كندا، وكان الهنود يحبونه ولا يعصون له أمراً؛ فانهالوا على الفرنسيين من كل جانب وأخرجوهم، ومكنوا للإنجليز في السلطان

وكانت القبائل تدخل في طاعته، وتنقاد إلى زمرته بدافع من المحبة له، وهو أول إنجليزي كشف شمال كندا الغربي وأضافه برمته إلى أملاك الإمبراطورية

أما (جون ريتشاردز) فكان ابن فلاح من غمار الناس لا من خواصهم. دخل في الجيش جندياً صغيراً جداً لا يؤبه له ولا يعتد به، ثم أصبح في زمن يسير قائداً عاماً

وفي أوائل القرن الثامن عشر كان مؤمراً على كتيبة من الجند في مدينة (أليكانت) ببلاد أسبانيا. وقد كان حظ إنجلترا أن تقاتل ضد فرنسا في ذلك الحين. ولكن شجاعة (ريتشاردز) وروحه المعنوية القوية سرت إلى ضباطه الصغار وجنوده، فقابلوا خطراً محققاً من لغم وضعه الفرنسيين لهم، ولم يحيدوا عن أماكنهم؛ أو يتزحزحوا عن مواقفهم؛ إطاعة لأمر قائدهم. وانفجر اللغم فمات منهم عدد كثير. ومات القائد في طليعة ذلك العدد

ولكن موتهم كانت حياة لمن بقى بعدهم. فقد ثبت الباقون منهم أمام أعدائهم، ولم يلقوا سلاحاً أو يرموا عدة من عدد الحرب حتى جاءهم عدد كبير تحت قيادة أمير البحر الإنجليزي (بنجز) الذي اضطر الفرنسيين إلى الفرار وتولية الأدبار

وبهذه الشجاعة الأدبية الفائقة، والتضحية الحق التي بذلها (ريتشاردز) استطاع عشرات من الجنود الإنجليز أن يعوّقوا عشرة آلاف جندي من الفرنسيين عن القتال، وأن يؤخروهم حتى يجئ المدد ويتم النصر، ويقضي على محاولة فرنسا لتستولي على أملاك الإمبراطورية البريطانية

أما (موفات) فلم يسمع به أحد إلا القليل ممن يقرءون تاريخ الكشف الأفريقي، وأين منه مثلاً الاسم الواسع العريض الذي يتمتع به ليفنجستون؟ والحق أن هذا الأخير قد قرر فيما قرره أن أعماله في أفريقية كادت تكون عملاً مستحيلاً لولا أن (موفات) ذلل له السبيل، ومهد له الطريق

كان (موفات) من أسرة وضيعة الحال، إلا أن ذلك لم يمنعه أن يكون أحد البناءين المنسيين في الإمبراطورية البريطانية. والحق أن بناء الأمم لا يحتاج إلى شخصيات من ذوي الحسب وأصحاب النسب؛ بل كثيراً ما تكون الإرادة القوية والعزيمة الصادقة، والتضحية الفائقة هي العوامل الفعالة في رفع البناء.

وإذا تجردنا من الهوى نجد أن أعظم الدكتاتورين المعاصرين هم من أسر رقيقة الحال، ومن طبقات لم تبلغ مكان السيادة، ولا محل القيادة.

وكذلك كان (موفات). فقد ظل يعمل في أفريقية مدة خمسين عاماً بين زنوج أفريقية. وكان أمة وحده في نشر الدعوة للإمبراطورية في وقت لم تشهد القارة السوداء فيه وجهاً واحداً من ذوي البشرة البيضاء، والعيون الزرق.

ولقد أحبه الرحالة العظيم لفنجستون، ووثق به واطمأن إليه وتزوج ابنته. وكان (موفات) في البعثة التي ذهبت إلى أفريقيا بعد عيشة خمسين عاماً فيها ليبحث عن حميه التائه في مجاهل القارة المظلمة

(مترجمة عن انجلش ديجست)

محمد عبد الغني حسن