الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 400/يومان من أيام الرسول

مجلة الرسالة/العدد 400/يومان من أيام الرسول

مجلة الرسالة - العدد 400
يومان من أيام الرسول
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 03 - 03 - 1941


يومان من أيام الرسول تضمنا سر النبوة كما تتضمن النواة سر النخلة، ولخصا تاريخ الإنسانية كما يلخص الجنين تاريخ الإنسان. ذانك يومه الخائف المجهود وقد خرج مهاجراً إلى المدينة، ويومه الآمن المشهود وقد رجع ظافراً إلى مكة!

كان يومه الأول خاتمة لثلاثة عشر عاماً من المحن الشداد والآلام الفواتن تظاهرت على الإيمان والصبر حتى قال الرسول وهو يلوذ بحائط من حوائط ثقيف: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس. . .

وكان يومه الآخر فاتحة لثلاثة عشر قرناً من النصر المؤزر والفتح المبين، خنس فيه الشرك واستخذت الجهالة وذلت قريش حتى قال الرسول وهو واقف بباب الكعبة: لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده!

وإذا كان للرسول في تاريخ الإسلام يومان لا تزال العقول تقع منهما كل يوم على سر، فإن مصدر هذه الأسرار معجزتان لله لا تزال الإفهام تكشف فيهما كل حين عن آية: معجزة الرسول في خلقه، ومعجزة القرآن في بيانه، وقد انكسر القرن الرابع عشر على هاتين المعجزتين والأذهان البصيرة الموالية والمعادية تدرس آثارهما وتستبطن أسرارهما، فما بلغت من ذلك كنها ولا غاية

كان محمد في يوميه العظيمين مثل الإنسانية الأعلى: حمل رسالة الله وحمل أبو جهل رسالة الشيطان، واستحالت مكة المشركة جبلاً من السعير سد عليه طريق الدعوة، فكان يخطو في طرقها وشعابها على أرض تمور بالفتون وتتسعر بالعذاب؛ وتفجرت عليه من كل مكان سفاهة أبى لهب بالأذى والهون والمعاياة والمقاطعة. وكل قريش كانت يومئذ أبا لهب إلا من حفظ الله. وافتن شياطين مكة في أذى الرسول، فعذبوه في نفسه وفي قومه وفي أصحابه ليحملوه على ترك هذا الأمر فما استكان ولا لان ولا تردد. وحينئذ تدخل الشيطان بنفسه في (الندوة) فقرر القتل، وتدخل الله بروحه في (الغار) فقدر النجاة. وانطلق محمد وصاحبه ودليله وخادمه على عيون المشركين في الطريق الموحش الوعر إلى يثرب. وكأن هؤلاء الناجين بدين الله لم يكادوا يدخلون في غيب الطريق حتى انشقت الصحراء عنهم فإذا هم عشرة الآلاف من جند الله يجرون الحديد على النياق الكوم والخيول الجرد، والرسول في كتيبته الخضراء من المهاجرين والأنصار لا يظهر منه وراء الدروع غير الحدق، وإذا أبو سفيان زعيم قريش قد أشترى حياته بإسلامه، ثم وقف مع العباس بمضيق الوادي يشهد جيش الفتح وهو زاحف إلى مكة ويقول: هذا والله ما لا طاقة لنا به! لقد أصبح ملك ابن أخيك يا أبا الفضل عظيماً. فقال له العباس: يا أبا سفيان، إنها النبوة!

ثم نجا أبو سفيان إلى مكة فصاح بأعلى صوته: يا معشر قريش، لقد أتاكم محمد بما لا قبل لكم به، فسلموا تسلموا

أهذه مكة الطاغية التي لبثت إحدى وعشرين سنة تفور بالسفه والإفك والضغينة والمعارضة على محمد ودين محمد وأصحاب محمد؟ ما بالها خشعت خشوع الجناح الكسير وسكنت سكون المقبرة المهجورة؟ لقد باتت ليلة من ليالي يناير الباردة الطويلة وقلبها يرجف من هول الغد وانتقام الفاتح. ثم أصبحت مكة الساهدة فإذا أهلها بين قابع في منزله، أو عائد ببيت الله، أو لائذ بدار أبي سفيان؛ وإذا فرق الجيش المحمدي الظافر تنحدر من (ذي طوى) مكبرة ومهللة إلى جهات مكة الأربع، فلما ارفضت المخاوف عن الناس خرج القائد الأعظم من قبته المضروبة بأعلى مكة يؤم المسجد الحرام، وعلى جوانب الطرقات ألسنة المسلمين تذكر، ومن وراء الحجرات عيون المشركين تنظر، والرسول الكريم قد طأطأ رأسه على رحله حتى كاد أن يمس قادمته؛ فلم يجر على باله أن هذه الأرض التي طورد فيها وسال دمه عليها قد أصبحت ملكه، وأن هؤلاء الناس الذين قذفوه بالأحجار ورموه بالأقذار قد أصبحوا أسراه، حتى دخل المسجد فطاف؛ ثم أقبل على الأرستقراطية الصاغرة وهي تتطامن من القلق والفرق وقال لأهلها الذين افرطوا عليه في البذاء والإيذاء: يا معشر قريش، أذهبوا فأنتم الطلقاء!

كان يوم الهجرة وما قبله تشريعاً من الله في حياة الرسول للفرد المستضعف إذا بغى على حقه الباطل، وطغى على دينه الكفر، ليعرف كيف يصبر ويصابر، وكيف يجاهد ويهاجر، حتى يبلغ بحقه ودينه دار الأمان فيقوى ويعز

وكان يوم الفتح وما بعده تشريعاً من الله على لسان الرسول ويده للأمة إذا اتسعت رقعتها واجتمعت كلمتها واستحصدت قواها لتعلم كيف تنسى الضغائن إذا ظفرت، وتحتقر الصغائر إذا كبرت، ثم لا تحارب إلا في الله ولا تسالم إلا في الحق كانت المدينة وحدها بعد يوم الهجرة مجالاً لسياسة الرسول يضم شتات الجماعة ويوثق عقدة الدين ويجمع أهبة الحرب؛ فألف بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعاهد بين المسلمين واليهود، حتى تكتب في يثرب جيش الله الذي فتح الدنيا بفتح مكة!

ثم كان العالم كله بعد يوم الفتح مشرقاً لوحي الله وهدى الرسول، فطهره الإسلام من الأرستقراطية بالمساواة، ومن الرأسمالية بالزكاة؛ ثم علم الناس حكم الشورى، وألزمهم قضاء العدل، حتى أخرجهم من الوطنية المحدودة إلى الإنسانية المطلقة

ذالك يومان من أيام الرسول تضمنا أسرار نفسه ولخصا أطوار حياته. فهل تطمعون يا من تظنون أن الزعامة تجوز من غير صدق، والجهاد يفوز من غير صبر، والحياة تصلح من غير إيمان، أن تكون لكم في رسول الله أسوة حسنة؟

احمد حسن الزيات