مجلة الرسالة/العدد 4/ضحى الإسلام أو أحمد أمين
بتاريخ: 01 - 03 - 1933 |
- 1 -
إذا قرأت ضحى الإسلام عرفت أحمد أمين، وإذا عرفت أحمد أمين فكأنك قرأت ضحى الإسلام، وكمال المعرفة بالاثنين أن تفهمهما معا، لأنك لا تجد تلازما بين شيئين أشد مما هو بين هذا الرجل وما يكتب، فإذا ألف أو أنشأ مقالا أو ترجم فصلا ظل باقيا وراء كلماته، وخلال سطوره، يعرض عليك الصور، ويقرر لك الآراء، بطلعته الباسمة في غير افترار، ولهجته الحازمة في غير أمر، وعقله القوي في غير عنف، وطبعه الحيي في غير ضعف، وأسلوبه الهادئ في غير فتور فلا تدري أتقرأ أم تسمع، وكتاب في يدك أم رجل معك!
وهو في بروز الشخصية العلمية يتفق مع صديقه طه، ثم يختلف بعد ذلك عنه في كل شيء.
أستبن الجاحظ في أدبنا القديم، وأحمد أمين في أدبنا الحديث، ثم قل بعد ذلك فيما يشبه التعميم: أن كل كتاب متى أخرجه إلى الناس مؤلفه، يكاد من وهن الصلة به لا يعرفه، وإنما تظل مسائله في قلقها أشبه بالطيور المقنوصة، لا تفتأ نزاعة إلى الجو الذي عاشت فيه، وإلى الوكر الذي أخذت منه. فإذا كثر الحديث عن احمد أمين منذ ظهر فجر الإسلام، واستفاض هذا الحديث عنه منذ نشر ضحى الإسلام، فذلك لأن هذين الكتابين وحدهما فتح في الآداب العربية، ونصر للعقيدة الإسلامية، ومجد للعقلية المصرية، لم يهيئهما الله في الغابر والحاضر لهؤلاء الا على يد احمد أمين.
ومعاذ الله أن نهجم على الحق وندخل على القارئ برأي لا يقره الضمير ولا يرتضيه العلم، فقد قضينا العمر بين أشتات المؤلفات العربية، نكابد ما يكابد غيرنا من تناقض وتعارض وغموض، ثم عالجنا التأليف وبلونا ما يعانيه ناشد العلم في بيد دونها بيد، ثم قرأنا هذين الكتابين فأكبرنا فيهما الجهد الذي لايكل، والعقل الذي لا يضل، والبصيرة التي تنفذ إلى الحق من حجب صفيقة، وتهتدي إليه في مسالك متشعبة.
نشأ أحمد أمين نشأة أزهرية، ونعني بهذه النشأة ما يلازمها من نمط خاص في الحياة والتربية والدراسة والوجهة، ومن غريب هذه النشأة أنها تساعد على الهبوط كما تساعد على الصعود، فمتخرجو الأزهر إما قادة للشعب وإما حميلة عليه، لأن حرية التعليم فيه كانت تهيئ كل نفس لما خلقت له: فهذا تعده ليكون قارئا في ضريح أو إماما في زاوية، وذاك تعده ليكون مستشارا في محكمة أو أستاذا في جامعة، واحمد أمين كمحمد عبده وسعد زغلول وطه حسين قد زوده الأزهر بخير ما فيه من صبر على الدرس. واتكاء على النفس، واستقصاء لأطراف البحث، ثم دفعه إلى الحياة دفعا فاستكمل ثقافته في مدرسة القضاء ثم اشتغل بالتعليم، ثم تولى الحكم بين الناس في المحاكم الشرعية، ثم ثقف على نفسه اللغة الإنجليزية، ثم تبوأ كرسيه في الجامعة المصرية، وها هو ذا بكتابيه يحتل مكان الزعامة العلمية.
إن ألمع ما في شخصية هذا الرجل متانة خلقه، ولأمر ما شغف منذ شب بتدريس (الأخلاق)، وترجمة (الأخلاق)، وتأليف (الأخلاق)، ولسر ما يتجدد انتخابه بالإجماع رئيسا للجنة التأليف والترجمة والنشر تسع عشرة مرة في تسع عشرة سنة متوالية!!
إن نجاح الأستاذ احمد أمين في الحياة نجاح للعلم وفوز للفضيلة، لأنه لم يعتمد في شهرته العلمية على الإعلان
و (التهويش). ولا في مناصبه الحكومية على الاستخذاء والملق. وإنما يجري في عمله على الأخلاص، وفي معاملاته على الحق، وفي علاقاته على الشرف. وما حياته الحافلة إلا مثل للحياة العاملة في غير ضجيج، الناصبة في غير ملل، المثمرة في غير غرور ولا دعوى، فهي أشبه شيء بالنبع السلسال العذب، يسيل حلو الخرير تحت شواجن الأدغال، وفوق مطمئن الأرض، فيروي العطاش ويمرع السهول، في غير هدير ولا صخب!
ذلك هو الكاتب، وأما الكتاب فنرجو أن نوفق إلى تحليله في العدد المقبل.