مجلة الرسالة/العدد 4/رحلة إلى دير طور سينا
→ القصص | رحلة إلى دير طور سينا القصص الدمرداش محمد |
الكتب ← |
بتاريخ: 01 - 03 - 1933 |
للأستاذ الدمرداش محمد. مدير إدارة الامتحانات والسجلات وزارة المعارف.
2
ها قد وصلنا بعد ثلاثة أيام وبعض اليوم على ظهر مطية القرن العشرين ونحن على أحسن حال، فترجلنا أمام الباب وأرسلنا إذن الدخول إلى المطران مع أحد خدمة الدير، وبعد برهة خرج إلينا أحد القساوسة فرحب بنا ثم قادنا إلى دهليز ضيق كمداخل الطوابي انتهى إلى طريق صاعد، ثم إلى طرقة تطل على كنيسة، ثم ارتقينا سلما انتهى إلى باحة مكشوفة فيها حجرة استقبلنا فيها واقفا رئيس الدير، وبعد أن صافحنا جلس وجلسنا على مقاعد وثيرة، بعد تبادل عبارات التحية والترحيب دخل الخادم يحمل بين يديه صينية من الفضة عليها كؤؤس صغيرة بها شراب الزبيب، فطاف بها علينا، ثم خرج وعاد يحمل صينية أخرى عليها أقداح كبيرة فيها قهوة لم أذق ألذ منها، ثم وفد إلى الحجرة قساوسة الدير بملابسهم الكهنوتية السوداء، وقبعاتهم العالية، وكان عددهم ثمانية، فحيونا ببشاشة ولطف، وجلسوا على المقاعد القريبة من الرئيس، وبعد حديث قصير وأسئلة شتى وقف الرئيس وانصرف إلى مكتبه، وقادنا القسوس إلى الأماكن المعدة لنزولنا، وهي صف طويل من الحجرات أمامها ممشى مسقوف ويتوسطها دورة مياه ومطبخ وحجرة للمائدة. والحجر كثيرة الأثاث والرياش، ففيها الأسرة والمقاعد والدواليب والصور وأرضيتها مغطاة بالسجاجيد والأبسطة، وحجرة المائدة كاملة المعدات، وبالجملة قد توافر في مكان الضيافة جميع وسائل الراحة مع النظافة وحسن الترتيب.
ونوافذ الحجرة تطل من علو شاهق على مدخل الدير وحديقته، وتشرف على الجبال والوديان والمسالك لمسافة بعيدة.
وبعد أن استرحنا وتناولنا الغداء تفرقنا في نواحي الدير للفرجة وخرجت أنا وأربعة من الرفاق نصعد إلى قمة جبل المناجاة أو جبل موسى عليه السلام.
وتبدأ الطريق المؤدية إلى القمة من قاعدة الدير في الجهة الجنوبية صاعدة رأسية تقريبا على درج من حجر مرصوص يشبه الدرج العادي، وقد مكثنا نصعد هذه السلالم ساعتين ونحن نلهث لهثا شديدا من فرط ما أصابنا من الإعياء، وقبل بلوغنا القمة اجتزنا فجوة في الجبل دخلنا منها إلى رحبة فيها كنيسة وحديقة صغيرة ينمو فيها شجر السرو، تسقى من نبع يفيض ماؤه العذب على جوانب الصخر.
استرحنا قليلا ثم استأنفنا الصعود، وبعد نصف الساعة تقريبا وقفنا على قمة جبل موسى، وهي على ارتفاع 2200 متر من سطح البحر (نحو 8000 قدم) وكان الهواء باردا والسماء صافية والشمس تؤذن بالمغيب. فأجلنا النظر فيما حولنا، فكان منظرا ساحرا بديعا لم تر العين أجمل منه، فضوء الشمس ينعكس على القمم بلون أحمر كلون الشفق، وعلى جوانب الجبال بلون أزرق قاتم كالدخان وبلون أحمر مشرب بالزرقة على الربى والتلاع، وفي الجنوب البعيد ماء البحر الأحمر يتلألأ تحت أشعة الشمس، ومن تحتنا تتقابل الوديان وتتقاطع متجهة كل صوب كأسارير الوجه العجوز فلما عدت إلى نفسي وجدتني مسند الظهر إلى حائط مسجد صغير، وعلى بعد خطوات منه كنيسة صغيرة كذلك، فلم أتمالك ان دخلت المسجد أنا وصديقي الأستاذ فريد أبو حديد (ألبسه الله ثوب العافية) وركعنا لله ساجدين بقلوب خاشعة ونفوس طافحة بالذكريات التاريخية والدينية، وعند خروجنا من المسجد لمحنا جماعة من البدو رجالا ونساء وأطفالا وقد جلسوا في وهدة تحت جدار المسجد من جهته المقابلة، حول نار أوقدوها للتدفئة فلما رأونا هبوا إلينا مهللين مكبرين، فصافحناهم وتبادلنا وإياهم التحيات والتمنيات، ثم سألناهم عن سبب وجودهم، هنا في هذا البرد القارص، فقالوا قد جرت العادة من قديم الزمان أن نجتمع هنا يوم وقفة عيد الأضحى المبارك، ثم نقضي الليلة، وفي الصباح نصلي صلاة العيد في هذا المسجد العتيق وننحر وبعد تبادل التهنئات والدعوات الصالحات نتفرق عائدين إلى ودياننا.
ملأنا العين بهذه المناظر الفريدة ثم عدنا أدراجنا إلى الدير وقد غابت الشمس وظهر القمر، فكان الهبوط أسهل من الصعود وأكثر خطرا بسبب الظلام.
في صباح اليوم الخامس جلنا في الدير ومشتملاته وملحقاته. فالدير نفسه من حيث هندسته وأسواره وطرقاته ومخابئه وأقبيته وسلالمه الحلزونية الكثيرة وأبراجه وعيون المدافع ومواضعها أكثر شبها بالحصن منه بالدير، والحقيقة أنه بني ليكون معقلا للرهبان يقيهم غزوات البدو، والمشهور أنه بدئ في تشييده سنة 527 ميلادية أثناء حكم الإمبراطور البيزنطي يوستينيانوس.
يبلغ طول الدير نحو 300 متر وعرضه نحو 200 متر وارتفاعه في المتوسط نحو 15 مترا وهو مبنى بحجر الجرانيت المنحوت، ويوجد في فنائه كنيسة كبيرة ينزل إليها بسلالم، وهي عامرة بالتحف الثمينة من شمعدانات وثريات ومصورات وما إلى ذلك من الأشياء الكنسية ذات القيمة الغالية، والكنيسة أفخر مباني الدير وأجملها من حيث المباني والزخرف، ولها برج عال معلقة فيه الأجراس النحاسية الكبيرة، وتقام فيها الشعائر الدينية في أوقاتها.
وفي الجهة الشرقية من الدير صوامع الرهبان، وهم لا يخرجون منها الا نادرا، وقد تقابلت مصادقة بواحد منهم أثناء تجوالي في الدير فرأيته شيخا ضعيفا لا يقوى على السير الا بصعوبة، وبمجرد أن وقع نظره علي أسرع إلى أقرب صومعة واختفى فيها بحالة عصبية دهشت لها، وعدد رهبان الدير الآن لا يزيد على العشرين مع أن عددهم قبل الحرب كان كبيراً، وهم من شعوب مختلفة، معظمهم من روسيا والأمم السلافية الأخرى، وليس لهؤلاء الرهبان من عمل في الدير إلا النسك والعبادة، أما شئونه الأخرى من إدارة وإقامة شعائر وحراسة فهي من وظائف القساوسة. وبالقرب من الكنيسة وفي مستو أعلى منها جامع أثرى صغير مفروشة أرضه بالبسط، وفيه منبر صغير ويلتصق بالجامع مئذنة مرتفعة. وهو يفتح للصلاة في أوقاتها الخمسة.
وفي أقباء الدير شاهدت طاحونة يديرها بغل، وبجوارها مخبز يصنع فيه الخبز اللازم لرجال الدير وللتوزيع على البدو على حسب العادة التي جرى عليها الرهبان من زمن بعيد.
وفي الجهة الشمالية حجر القساوسة ومكتبة الدير وكانت مغلقة. وأمام الدير حديقة واسعة منسقة تنسيقا حسنا، وبها كثير من أشجار السرو والتين والزيتون والموالح والكروم، ومزروع فيها شتى البقول والخضر والزهور الجميلة، وفي ناحية منها كنيسة الجماجم، وهو بناء حديث جمعت فيه جماجم وعظام الرهبان والقساوسة الذين توفوا بالدير من عصور بعيدة. وقد رصت فيها صفوفا بعضها فوق بعض ووضع في صناديق خاصة تكريما لأصحابها، أما لمكانتهم الكهنوتية أو لقيامهم أثناء حياتهم بعمل مجيد للدير.
ويسقى الدير والحديقة من عيون عذبة على شكل آبار قليلة الغور. وبعد ظهر هذا اليوم تفرقنا نجوس خلال الوديان القريبة، ومن أجمل المشاهد منظر الصوامع المنتشرة بين الربى على الجبال المحيطة بالدير، وترى بجانب كل صومعة شجرة سرو طويلة أو نخلة تسقى من نبع أو ثؤلول يسيل ماؤه على الصخر فيفيض في المنخفضات والثقوب، وفي الوصول إلى هذه الصوامع صعوبة لوعورة الطريق أو انزلاقها أو انحدارها الشديد، وللقساوسة حكايات ونوادر ظريفة طريفة يروونها عن تاريخ كل هذه الصوامع أو المشاهد لا يقع المجال هنا لسردها.
وفي صباح اليوم السادس قفلنا راجعين إلى القاهرة فوصلناها سالمين مغتبطين في مساء السابع.