الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 4/السلوة

مجلة الرسالة/العدد 4/السلوة

بتاريخ: 01 - 03 - 1933


للأستاذ عبد الحميد العبادي

. . . . . . وكان صاحبي كلما سئم تكاليف الحياة، وضاق ذرعا بمعاشرة الناس، التمس الراحة فيما تيسر له من أمور ثلاثة: العزلة، والطبيعة، والماضي البعيد.

أما العزلة فتفرغ عليه هدوء السر: وراحة البال: ثم هي فوق ذلك تهيئ له أسباب التفكير في نفسه، وتعينه على أن يستعرض عمله، وأن ينقده في تؤدة وأناة. وصاحبي شديد الأخذ لنفسه. مسرف في تعهدها ومحاسبتها على الصغيرة والكبيرة، فربما بات ساهرا متململا لبادرة بدرت منه، أو زلة زلها لسانه. وهو بعد حريص على راحة ضميره وطمأنينة قلبه. فان استطاع أن يقيم علاقته بالناس على أساس من العدل والأنصاف فذلك، وإلا فليكن المظلوم غير الظالم والمقتول غير القاتل. من أجل ذلك كانت العزلة كثيرا ما تفتح عليه باب ألم معنوي شديد، بيد أنه ألم في شرعه محتمل مستعذب، يصلى ناره، راغبا ويخلص منها مغتبطا راضيا.

وأما الطبيعة، فهي عنده الأم الرءوم: إليها يستريح ويسكن، ومن جمالها ينهل ويعل، وفي حجرها تنبعث نفسه المجهودة، وتهيج عاطفته المكدودة. قد فتن بالطبيعة وحياة الطبيعة، حتى ليكاد مزاجه يساير فصول العام إنبساطاً وانقباضاً، وابتهاجاً واكتئابا، ولولا بقية إيمان لانقلب صابئا يسجد للشمس عند شروقها وغروبها. ويهتف للقمر حين بزوغه وأفوله، ويساهر النجوم والأفلاك من طلوعها لمغيبها. ولصار حلوليا يرى في ثنايا الجبال وأهضاب الأودية وفي الأجمة الملتفة والصحراء البلقع، جنا تراءى له في غدواته وروحاته، ولفتاته ولمحاته، تحاول أن تستدرجه لتستهويه، وتستميله لتفتنه، أجل! ولولا أثارة من تماسك وتصاون، لحنا على النبتة الواهية، ولكبر للدوحة العالية، ولأجهش للصخرة الراسية على ساحل البحر المتغلغل: ولا ندفع بقول الشعر يساجل الطير: لحنا بلحن وتغريداً بتغريد.

على أن صاحبي ليس بالناسك ولا الزاهد. وقد يكون في قرارة نفسه، وحقيقة أمره، مرحا طروباً، ويود، على شدة انصرافه عن الدنيا؛ ألا ينسى نصيبه منها، ولكنه متزمت متشدد؛ يريد للقوم صفواً من النفاق والدهان، خلوا من الحقد والاضطغان، فأما وقد أعجزه ذلك؛ فقد أصبح يرى ضالته المنشودة في الغابرين الأولين من أهل القرون الخالية: أصبح يراها في الماضي البعيد، والماضي عنده عالم حافل بأعلامه وأحداثه، زاخر بخيره وشره: لا عيب فيه سوى أن القدم قد صهره ومحصه، وأن الموت قد نفى خبثه عن طيبه، وزغله عن صميمه، فبدت فيه كل نفس على حقيقتها، ومثَّل كل حادث على جليته، من أجل ذلك اصطفى صاحبي من الماضين خلانا وأصدقاء، قد أصفاهم الود، وأخلص لهم الحب؛ وأن اختلفت الدار، وبعد المزار؛ لقد أدرك صاحبي أن الموت حق والحياة باطل.

تكاءدت الهموم هذا الفيلسوف يوما، فخرج من منزله، وقد طفلت الشمس للغروب، فما زال يتخير الأمكنة والبقاء؛ حتى آوى إلى صخرة قد استقبلت بحرا خضما، واستدبرت مرجا معشوشبا مدهاماً؛ وفي شرقيها المدينة هائجة مائجة؛ صاخبة داوية؛ وفي غربيها قصر عتيق مثلم الجنبات متداعي الأركان.

فأخذ الفيلسوف مجلسه من ذلك المنظر الفخم؛ وجعل تارة يسرح الطرف في البحر الواسع؛ فتطير شعاعا فوق صفحته أشجانه؛ وتذوب في هدير أمواجه آهاته وأحزانه، وتارة ينثني نحو المرج يداعب منثور زهره؛ ويتسمع سجع طيره، وأخرى يلتفت إلى القصر يسأله أخبار من نزلوه ثم ارتحلوا عنه، وكانوا أحاديث. حتى إذا ما ارتوى الفيلسوف من نسيم البحر؛ وعبير الزهر، وحديث القصر؛ تناول هراوته، وزر معطفه، وعاد يؤم المدينة متثاقل الخطى، مرددا قول الشاعر:

أن الطبيعة أم نستجير بها ... من جانب للبرايا غير مأمون!