مجلة الرسالة/العدد 399/في العقد
→ إلى الدكتور زكي مبارك | مجلة الرسالة - العدد 399 في العقد [[مؤلف:|]] |
بين عامين ← |
بتاريخ: 24 - 02 - 1941 |
لأستاذ جليل
- 1 -
طالعت الجزء الأول من كتاب العقد الذي أظهرته في هذا الوقت لجنة التأليف والترجمة والنشر، أو دولة العلم والأدب والفضل في مصر، وضبطه العلماء الإجلاء: الأستاذ الكبير أحمد أمين، والأستاذ الفاضل أحمد الزين، والأستاذ الفاضل إبراهيم الإبياري، فرأيت في هذه الطبعة الرائعة تحقيقاً كثيراً، وفضلاً في الشروح والتعاليق كبيراً. وقد عثرت على أشياء في هذا الجزء في أربع مئة صفحة كنت أعاين ضعفها (والله) في صفحة واحدة من تلك الطبعات القديمات الخبيثات. ولا ريب في أن أكثر الخطأ في طبعة اللجنة إنما هو تطبيع، وإن لم يرد في جريدة الإصلاح، وسأكتب في هذا (الإملاء) معظم ما وجدت غير متبع ترتيب الأقوال في صفحاته.
1 - ص (119) قال الشنفري:
إذا حُملتْ رأسي وفي الرأس أكثري ... وغودر عند الملتقى ثَمَّ سائري
وجاء في الحاشية: في 1: احتملت. وفي عيون الأخبار: هم ضربوا وفي البخلاء: إذا ضربوا
قلت: هذا البيت في مقطوعة (ثلاثة أبيات) رويت في العقد وفي ديوان الحماسة، ورواية أبي تمام: (إذا احتملوا)، وفي شرح التبريزي: (ويروى إذا احتملت)، واللفظة غير مشكولة. وإذا صحت هذه الرواية، فالفعل مبني لما سمي فاعله، فيعود الضمير إلى (أم عامر) في البيت قبله في أول المقطوعة:
لا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن ابشري أم عامر
أو إلى شيء حذفه أبو تمام، فقد كان يختار من قصيدة طويلة بعض أبياتها. وضبط (حملت) بالبناء لما لم يسم فاعله مشكلة أي مشكلة، بل مصيبة. . . إذ يؤنث بها (وطن النهى) والرأس في أقوالهم في جميع أزمانهم مذكر. قال التاج: اجمعوا على أن الرأس مذكر.
ويلوح لي أن صاحب هذه الأبيات هو صائغ اللاميتين: لامية الشنفري ولامية تأبط شرّا. .
في الرثاء، وأولها:
إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلاً دمه ما يُطل
قال التبريزي: (إنها لخلف الأحمر وهو صحيح)؛ وقال أبو علي في أماليه: كان أبو محرز أعلم الناس بالشعر واللغة، وأشعر الناس على مذاهب العرب. حدثني أبو بكر بن دريد أن القصيدة المنسوبة إلى الشنفري التي أولها:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل
له، وهي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول؛ فكان أقدر الناس على قافية.
قلت: وأبو بكر بن دريد كان خير خلف لخلف ولمن سلف من الصواغين المزخرفين، فصنع ما صنع، وأمالي القالي ملآنة مما ابتدع.
2 - ص (361) ودخل أعشى ربيعة علي عبد الملك ابن مروان، وعن يمينه الوليد، وعن يساره سليمان، فقال له عبد الملك: ماذا بقي يا أبا المغيرة؟ قال: مضى ما مضى وبقي (ما بقى) وأنشأ يقول. ورويت مقطوعة بيتها الرابع هو هذا:
وإن فؤادي بين جنبي عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
وجاء في الحاشية: زيادة (ما بقي) يقتضيها السياق وألذ في ب: مضى وبقى
قلت: جاء في شرح الحماسة للتبريزي:. . . فقال له: يا أبا المغيرة ما بقي من شعرك؟ فقال: يا أمير المؤمنين، لقد بقي منه وذهب، على أني الذي أقول. . . الأبيات. وقوله: ذهب أي ذهب منه، وهو قول حلو محكم. والبيت الرابع هذه روايته في الحماسة:
وإن فؤاداً بين جنبيَّ عالم ... بما أبصرت عيني وما سمعت أذني
قال الإمام التبريزي: (نكَّر فؤاداً لأنه باتصال قوله بين جنبيّ - اختص، حتى علم أنه قلبه من بين القلوب) وقد ائتم المتنبي بهذا الشاعر في قوله:
وفي الناس من يرضي بميسور عيشه ... ومركوبه رجلاه والثوب جلده
ولكن قلباً بين جنبي ما له ... مدى ينتهي بي في مراد أحده
وتنكير فؤاد الرَّبعي وقلب الكندي في هذا المقام - من ألطف الكلام.
3 - (ص 367) والدهر (أطرقُ مستتب)
وجاء في الحاشية: كذا ورد هذان اللفظان (أطرق مستتب) في الأصول والأغاني (ج 18 ص74 طبعة بولاق)، وكذلك في النسخة الخطية ولم تتبين معناهما.
قلت: هذا القول من أمثالهم، وقد رواه الميداني في (مجمع الأمثال)، وقال في تفسيره: أي مطرق مغض منقاد. وفسره في مكان آخر بقوله: الطرق استرخاء وضعف في الركبتين، والاستتباب: الاستقامة: يريد أن الدهر تارة يعوج وتارة يستقيم
قلت وأطرق في التفسير الأول مبني من (أفعل) قال الرضي: وعند سيبويه هو قياس من باب أفعل مع كونه ذا زيادة، ويؤيده كثرة السماع، ومجوزه قلة التغيير لأنك تحذف منه الهمزة وترده إلى الثلاثي، ثم تبني من أفعل التفضيل، فتخلف همزة التفضيل همزة الأفعال، وهو عند غيره سماعي مع كثرته.
4 - (ص367) فلا تجعل بيننا وبينك الأسدة
قلت: لا تجعلن بجنبك الأسدة. وهو من أمثالهم. قال الميداني في كتابه: هذا مثل يقع فيه التصحيف، فقد روى بعض الناس: لا تحفلن بجنبك الأشد، وتمحل له معنى يبعد عن سنن الصواب. وقد تمثل به أبو مسلم صاحب الدولة حين ورد عليه رؤبة بن العجاج، وأنشد شعره ثم قال له أبو مسلم: (إنك أتيتنا والأموال مشفوهة، والنوائب كثيرة، ولك علينا معول، وإلينا عودة، وأنت لنا عاذر، وقد أمرنا لك بشيء وهو وَتِح. فلا تجعلن بجنبك الأسدة، فإن الدهر أطرق مستتب)؛ ثم دعا بكيس فيه ألف دينار فدفعه إليه. قال رؤبة: فو الله ما أدري كيف أجيبه. . . قال الجوهري: السد بالفتح واحد الأسدة، وهي العيوب مثل العمي والصم، جمع على غير قياس، وكان قياسه سدوداً، ومنه قولهم: لا تجعلن بجنبك الأسدة، أي لا يضيقن صدرك فتسكت عن الجواب كمن هب صمم أو بكم. . .
قلت: كان أبو مسلم من كبار البلغاء الفصحاء. أورد الإمام الزمخشري في الكشاف قراءة له في تفسير الآية الكريمة: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق. ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليِّه سلطاناً، فلا يسرفْ في القتل، إنه كان منصوراً) فقال: (وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة: فلا يسرفُ بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر، وفيه مبالغة ليست بالأمر.
وهذا الخبر في الكشاف يدلنا على مكانة أبى مسلم في العربية وقدره العظيم عند جار الله.
ووصف المدائني أبا مسلم - كما نقل ابن خلكان - فقال: كان قصيراً أسمر، جميلاً حلواً، نقي البشرة، أحور العين، عريض الجبهة، حسن اللحية وافرها، طويل الشعر، طويل الظهر، قصير الساق والفخذ، خافض الصوت، فصيحاً بالعربية والفارسية، حلو المنطق، راوية للشعر، عالماً بالأمور، لم يُر ضاحكاً ولا مازحاً إلا في وقته، ولا يكاد يقطب في شيء من أحواله، تأتيه الفتوحات العظام فلا يظهر عليه أثر السرور، وتنزل به الحوادث الفادحة فلا يرى مكتئباً، وإذا غضب لم يستفزه الغضب.
وكان أبو مسلم ينشد في كل وقت:
أدركت بالحزم والكتمان ما عجزت ... عنه ملوك بني مروان إذ حشدوا
ما زلت أسعى بجهدي في دمارهم ... والقوم في غفلة بالشام قد رقَدوا
حتى طرقتهم بالسيف فانتبهوا ... من نومة لم ينمها قبلهم أحد
ومن رعى غنما في أرض مسبعة ... ونام عنها تولي رعيها الأسد