مجلة الرسالة/العدد 399/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 399 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 24 - 02 - 1941 |
الرجل الصامت
عن الروسية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار
كان في فندق القرية ضيوف كثيرون لا أعرف معظمهم، وانقضى النهار وجانب من الليل ونحن في هزج وضوضاء، فلما بلغت الساعة الثانية بعد منتصف الليل بدأنا نفكر في النوم فانصرف من انصرف وبقى في الفندق ثمانية. ولم يكن خالياً من غرفة غير أربع، فقالت لي صاحبة الفندق: إن هذا الضيف سيكون شريكاً لك في غرفتك واسمه (ماكسيم سيمو نوفتش) وأشارت إلى رجل قصير القامة ضئيل الجسم فقلت: لا بأس وإن كنت أوثر أن تكون لي غرفة وحدي.
تقدم نحوي سيمون وقال: أترى مانعاً من مشاركتي إياك؟. . .
فقلت: كلا وماذا عسى أن يكون المانع؟. فقال إنني قليل الكلام وأخشى أن يكون من عاداتك قبل النوم أن تتحدث فلا تسر برفيق صامت مثلي.
قلت: وأنا أيضاً أحب الصمت. فقال: إذن فلن يؤذيك صمتي الطويل.
ودخلنا غرفة النوم فقال: في الناس من لا يستطيعون الصبر على صاحب صامت، ولذلك سألتك حين رأيتك هل تحب الكلام فإن كثيرين ممن عرفوني أبغضوني لأنني قلما أتكلم.
ابتسمت وقلت له: لا يشغل بالك هذا الخاطر. فقال: شكراً لك. وخلع إحدى حذاءيه وأمسكها بيده. ثم أطرق لحظة وقال: لقد حدثت لي حوادث بسبب الصمت أذكر لك منها: أنني سكنت في عهد شبابي في غرفة واحدة مع صديق لي اسمه أورلوف وكان ينقضي اليوم واليومان وأنا صامت؛ فتضجر وصار يسخر مني ويتهمني بأني سيئ الضمير، وسألني: هل أقسمت لا أتكلم؟ فقلت: كلا. فقال: إذن تكلم. فقلت: عن أي شيء؟.
وانقضى يومان وأنا صامت، فأمسك زجاجة وقال: تكلم وإلا ضربتك بها في رأسك.
قلت: إن ذلك لن يكون جميلاً منك لو فعلته.
ومضت ثلاثة أيام ولم أتكلم. ودخلنا نبدل ثيابنا كما نفعل الآن فخلع حذاءه ورماني به وقال: أنت كالميت لا تنطق ولا تتحرك، وأن الحياة معك كالحياة بين المقابر؛ فسأترك لك الغرفة غداً. هذا ما قاله ولكن هل تعرف ماذا فعل؟
قلت: كلا.
فضحك سيمون واستمر يقول: والله لقد خرج. . . خرج من الغرفة ولم يعد إليها وقد كان في حالة عصبية. . . ولكن هل تعرف أن فتاة غضة الشباب موفورة الصحة تنتابها هذه الحالة؟ لقد كانت لي خطيبة أحبها وكانت تحبني وقالت إنها أحبتني لأني رجل جد وعمل ولأنني مفكر غير ثرثار. لقد قالت ذلك في أول عهدي بها ولكن لما قدم العهد بيننا سألتني لماذا أنا كثير الصمت؟ فقلت ولماذا أتكلم؟ فقالت أليس لديك ما تقول؟ قل ما فعلته اليوم أو ما رأيته. فقلت لها باختصار لقد كنت في مكتبي ثم تغديت وجئت لزيارتك. فقالت: إنها تخافني لأني قليل الكلام فقلت: هذه طريقتي فأحبيني كما أنا. . .
وبعد أيام زرتها فوجدت معها شاباً كثير الكلام، فظل يحادثها بغير انقطاع، وكان كل حديثه تافهاً، وإنني لأعجب له كيف كان يواتيه هذا الكلام. لقد كان يسألها هل تعرف الرقص، ثم يقص عليها خبراً رآه ويسألها عن معنى إهدائها إليه وردة صفراء. . . كلام كثير لا أعرف من أين يخلقه وهل لإهداء وردة صفراء أي معنى؟ وكانت تصغي إليه. . . إلى أحاديثه التافهة. . . إلى أسئلته. . . وكانت تجيبه. . . وكنت أراهما ولا أتكلم. ثم أخذا يتهامسان ويبتسمان وهما ينظران إلي. وبقيت صامتاً ثم تركت لهما المكان. . . وبعد أيام زرتها فجاء هذا الشاب وقال لي: ما الذي تفعله هنا! اذهب وإلا قتلتك فقلت: جئت لأزور ماريا بتروفنا فقال: اذهب أيها الوغد.
وأردت إقناعه بأنه مخطئ ولكني رأيت الفتاة تضحك وتقول: اذهب فإنني لا أحبك لأنك قليل الكلام! آه ما أحمق هذه الفتاة!
لما بلغ سيمون هذا الحد من حديثه كنت شعرت بحاجة شديدة للنوم، فابتسمت وقلت: قصة جميلة! أسعدت مساء.
فقال: سعد مساؤك وطاب نومك. إن الرجل خير من النساء، فهم يزنون الأمور بميزان المنطق، وأما النساء فهن غاية في الغرابة. إنني أعترف لك بأنني أحببت امرأة متزوجة وأحبتني في أول الأمر، ولكنها بعد ثلاثة أيام فقط زهدت فيَّ واحتقرتني وقالت: لقد قبَّلتُ قبلك كثيراً من الرجال، ولكنني لم أقبَّل غيرك جثة هامدة. . . أنت رجل مضحك فاذهب من أمامي لقد قالت لي ذلك؛ فلما لم أذهب، خرجت هي من تلك الغرفة، وقالت لزوجها بنفسها: إن في المنزل رجلاً غريباً. . . هل أنت سامع؟
فقلت له وأنا بين النوم واليقظة: إنني أريد أنام، فنحن في منتصف الساعة الرابعة، فقال: أنحن في منتصف الساعة الرابعة؟ لقد آن وقت النوم.
وخلع حذاءه الثاني وقال: لقد كنت مسافراً مع أحد الأعيان، فبقيت كعادتي صامتاً في الطريق.
عند ذلك أغمضت عيني ودفعت صوتي بالغطيط لكي يحسبني نائماً فيسكت، ولكنه استمر يقول: فسألني عن الجهة التي أسافر إليها؛ فقلت له: نعم. . . هل نمت أيها الشاب؟ هل أنت سامع؟ أنائم هو؟ أهو غير نائم؟ ها ها! لقد كان الشاب الذي سكنت معه يفعل مثل ذلك. . . لقد كان ينام ساعة يضع رأسه على الوسادة. . . إن الناس لا يحبون كلامي. . . ها ها!
فرفعت رأسي وقلت له بلجة المتهكم:
- لقد قلت لي إنك رجل صامت، وأنا الآن أشك فيما تدعيه.
فقال: إنني أتكلم عن حوادث جرها حب السكوت. ومن تلك الحوادث، أنني ذهبت مرة لأعترف للقسيس فسألني:
- أي خطيئة ارتكبتها؟ فقلت: خطايا كثيرة.
فقال: قلها. قلت: كل الخطايا.
فسكت القسيس وسكت أنا.
فقلت له بصوت مغضب وقد جلست على الفراش:
- كلما زدت في حديثك عن الحوادث المؤيدة لحبك للصمت زاد في نفس اليقين بأنك كاذب!
فقال: لماذا؟ هل في حديثي ما يبعث على الشك في حبي للصمت؟ إن حبي للصمت قد آذاني كثيراً، فقد كنت مرة بالمكتب، فجاء رئيسي وسألني: هل لدي أخبار؟ فقلت: كلا، فقال: ما معنى قولك كلا؟ قلت: إنني نائم، ليلتك سعيدة! ليلتك سعيدة!
فقال سيمون: ليلتك سعيدة، وقد قلت له إنني لا أعلم شيئاً من الأخبار فقال: هذا جواب غير مناسب؛ فقلت: وبأي جواب أجيبك؟
غلبني النعاس فنمت نوماً عميقاً، ولما استيقظت في الصباح سمعت صوتاً بجانبي، فنظرت إلى سيمون فوجدته يقول:
- وقد طلبت مني زوجتي الطلاق لأنني صامت، وهي تريد إنساناً لا جماداً؛ فقلت لها: يا عزيزتي ليدا عن أي شيء أتكلم؟
عبد اللطيف النشار