مجلة الرسالة/العدد 398/فتنة الزنج
→ بين رجال الدين والفلسفة | مجلة الرسالة - العدد 398 فتنة الزنج [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 17 - 02 - 1941 |
َّنج
ورثاء البصرة في شعر ابن الرومي
للأستاذ محمود الشرقاوي
- 2 -
خلاصة
جئنا في مقالنا الأول عن فتنة الزنج على مبدأ ظهور صاحب الزنج وبدء فتنته واستيلائه على العبيد الزنوج وخروجه بهم على الولاة حتى دخل بهم البصرة وخرَّ بها في شهر شوال من سنة سبع وخمسين ومائتين. وكان دخوله إليها وقت صلاة الجمعة لثلاث عشرة بقيت منه، فأباحها صاحب الزنج لأتباعه ليلة ويومين يفعلون بها وبأهلها ما شاءوا.
رثاء ابن الرومي
بدأ ابن الرومي قصيدته في وصف هذه الحال بهذه البداية الجازعة:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام ... شغْلها عنه بالدموع السجام
أيَّ نوع من بعد ما حل بالبص ... رة ما حل من هنات عظام؟
أي نوم من بعد ما انتهك الزن ... ج جهاراً محارم الإسلام؟
إن هذا من الأمور لأمر ... كاد ألا يقوم في الأوهام
ومن هذه البداية يشعر القارئ بما يريد ابن الرومي أن يوحي إليه من الجزع والتهويل والتقديم لأمر عظيم (انتهكت به محارم الإسلام) حتى أن هذا الأمر العظيم يكاد ألا تصدقه الأوهام.
ثم ينتقل بعد هذا الإيحاء وإثارة الغضب والسخط في قلب سامعه وقارئه إلى وصف ما يريد فيقول مجملاً في بيت واحد:
أقْدم الخائن اللعين عليها ... - وعلى الله - أيَّما إقدام
ثم يعود بعد هذا الإجمال البارع إلى ما في نفسه من الحزن واللهفة على ما أقدم صاحب الزنج من أمر فيقول هذه الأبيات:
لهف نفسي عليكِ أيتها البص ... رة لهفاً كمثل لهب الضرام لهف نفسي عليك يا معدن الخي ... رات لهفاً يعضني إبهامي
لهف نفسي عليك يا قبة الإس ... لام لهفاً يطول منه غرامي
لهف نفسي عليك يا فرْضة البل ... دان لهفاً يبقى على الأعوام
لهف نفسي لجمعك المتفاني ... لهف نفسي لعزَّك المستضام
بهذه اللهفات المتواليات قد هيأ ابن الرومي قارئه لأن يقرأ وصفه القادم لما حلَّ بالبصرة، وقد امتلأ قلبه بالغيظ والغضب الذي أوحاه إلينا في مطلع قصيدته. ثم يقول:
بينما أهلها بأحسن حال ... إذ رماهم عبيدهم باصطلام
دخلوها كأنهم قطع اللي ... ل إذا راح مدلهم الظلام
أيّ هول رأوا به أي هول ... حقَّ منه يشيب رأس الغلام
إذ رموهم بنارهم من يمين ... وشمال، وخلفهم، وأمام
كم أغصوا من شارب بشراب ... كم أغصّوا من طاعم بطعام
كم ضنين بنفسه رام منجًى ... فتلقوا جبينه بالحسام
كم أخٍ قد رأى أخاه صريعاً ... تَرِب الخد بين صرعي كرام
كم أبٍ قد رأي عزيز بنيه ... وهو يُعلى بصارم صمصام
كم مفّدى في أهله أسلموه ... حين لم يحمه، هنالك، حامي
كم رضيع، هناك، قد فطموه ... بشبا السيف قبل حين الفطام
كم فتاة - بخاتم الله - بكرٍ ... فضحوها جهراً بغير اكتتام
كم فتاة مصونة قد سبوْها ... بارزاً وجهها بغير لثام
من رآهن في المساق سبايا ... داميات الوجوه للأقدام
من رآهن في المقاسم - وسط الزن ... ج - يقسمن بينهم السهام
من رآهن يتَّخَذْن إماَء ... بعد ملْك الأمام والخدام
هذه القطعة من قصيدة ابن الرومي قد رأى فيها القارئ كيف دخل الزنج على البصرة وأهلها على أحسن حال، فكان جيشهم كأنه قطيع الليل. وكيف أخذتهم نار الزنج من خلفهم وأمامهم ومن يمين وشمال. ثم هو يقدم إلينا هذه الصورة الشعرية الرائعة كأنها الرسوم أو التماثيل في قوة تصويرها. فهذا شارب أو طاعم حين هجم عليه الزنج غصَّ بشرابه وطعامه، وهذا هارب ضنين بنفسه قد جبهته سيوفهم وتلقت جبينه، وهذا أخ يرى أخاه صريعاً قد عفَّر التراب خده بين كرام غيره، معفَّرة خدودهم. ثم يقدم إلينا صورة من تلكم الفتيات الأبكار على خاتم الله قد فضحهم الزنج وفضّوهن حهرة بغير اكتتام. ثم ساقوهن إلى السبي يفرقونهن بينهم ويقتسموهن مماليك وكنّ من قبل يملكن الإماء والخدام.
ثم يعود بعد إبراز هذه الصورة القوية من السفك والقتل والعدوان إلى شعوره النفسي يوحي به فيقول:
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا ... أضرَم القلبَ أيما إضرام
ما تذكرت ما أتى الزنج إلا ... أوجعتني مرارة الأرغام
ثم يعرج إلى ذكر صور مجملة بعض الأجمال عن بيع السبايا وتخريب البيوت البارة كانت مأوى الضعاف والأيتام. ودخول القصور العامرة كانت من قبل صعبة المرام. ثم يقدم لنا بعد ذلك صورة كلها حياة وكلها حركة وكلها دقة ووضوح وهي قوية غاية القوة عن مدينة البصرة وكيف كان زحام الخلق فيها وعماد أسواقها وتلك الفلك التي تسير منها وإليها بالتجارة والناس، وتلك القصور ذوات الأحكام من بنيانها، وكيف استحال هذا كله - بفتنة الزنج - إلى خراب وصمت لا يرى فيه غير أيد وأرجل مقطوعة ورؤوس مهشمة ووجوه دامية بين الخرائب تسفي عليها الرياح:
عرَّجا صاحبّي بالبصرة الزه ... راء تعريج مدنف ذي سقام
فاسألها - ولا جواب لديها ... لسؤال - ومن لها بكلام. . .؟
أين ضوضاء ذلك الخلق فيها؟ ... أين ذاك البنيان ذو الأحكام؟
بدلت تلكم القصور تلالاً ... من رماد ومن تراب ركام
سلط البثق والحريق عليها ... فتداعت أركانها بانهدام
وخلت من حلولها، فهي قفز ... لا ترى اللعين بين تلك الآكام
غير أيد وأرجل بائنات ... نبذت، بينهن أفلاقُ هام
ووجوه قد رملتها دماء ... بأبي تلكم الوجوه الدوامي
وطنت بالهوان والذل قسرا ... بعد طول التبجيل والإعظام
فتراها تسقي الرياح عليها ... جاريات بهبوة وقتام خاشعات كأنها باكيات ... باديات الثغور، لا لابتسام. . .!
ولا شك في أن القارئ يشعر بتلك القدرة الفائقة التي صورت بها ابن الرومي ذلك المشهد، مشهد خرائب البصرة وقصورها التي أضحت تلالاً، ومشهد تلك الأيدي والأرجل مبعثرة فيها قد نبذت بينهن أفلاق هام، ومشهد تلك الهام ملقاة خاشعة باكية قد بدأ منها الثغر وبرزت النواجذ ولكن لا لتبتسم. . .!
ثم ينتقل ابن الرومي بعد ذلك إلى ذكر مسجد البصرة وما حل به فيقول مخاطباً صاحبيه أيضاً:
بل ألما بساحة المسجد الجا ... مع إن كنتما ذوي إلمام
فاسألاه - ولا جواب لديه - ... أين عبادة الطوال القيام. . .؟
أين عماَّره الألى عمَّروه ... دهرهم في تلاوة وصيام
أين فتيانه الحسان وجوها؟ ... أين أشياخه أو لو الأحلام
تحريض وإثارة
إلى هذه الغاية يكون ابن الرومي قد أبرز تلك الصورة البارعة القوية الصادقة عن وصف ما حل بالبصرة وأهلها على يد الزنج، فهو ينتقل بعد ذلك الوصف إلى تهيج الناس وتحريضهم وإثارة نفوسهم على صاحب الزنج وزنوجه حتى يثأروا منه لأنفسهم وأهليهم. وهنا تبرز الغاية التي قصد إليها ابن الرومي، ونعتقد أنه تعمدها حين بدأ قصيدته بتلك البداية. . . وقد أشرنا إلى ما تشعر به من الرغبة في التحريض والإثارة حين ذكر ابن الرومي (محارم الإسلام) وحين قال بعد ذلك بيتاً قصدنا أن نسقطه من موضعه لنذكره الآن وهو:
وتسمى - بغير حق - إماماً ... لا هدى الله سعيه من إمام
وقد ذكر هذا البيت بعد ذلك الذي يقول فيه إن الخائن اللعين صاحب الزنج قد أقدم عليها وعلى الله
كل هذه الإيحاءات بالهياج والثأر يجعلها ابن الرومي دعوة صريحة في هذه القطعة التي ينتقل اليها بعد ذكر المسجد الجامع وعبادة وفتيانه وشيوخه أولى الأحلام.
أي خطب، وأي رزء جليل ... نالنا في أولئك الأعمام كم خذلنا من ناسك ذي اجتهاد ... وفقيه في دينه علام
واندامي على التخلف عنهم! ... وقليل عنهم غناء ندامى
وأحيائي منه - إذا ما التقينا ... وهم - عند حاكم الحكام
أي عذر لنا؟ وأي جواب؟ ... حين ندعي على رؤوس الأنام:
يا عبادي! أما غضبتم لوجهي ... ذي الجلال العظيم والإكرام؟
أخذلتم إخوانكم وقعدتم ... عنهم - ويحكم - قعود اللئام؟
كيف لم تعطفوا على أخوات ... في حبال العبيد من آل حام؟
لم تغاروا لغيرتي، فتركتم ... حرماتي لمن أحلَّ حرامي
إن من لم يغر على حرماتي ... غير كفء لقاصرات الخيام
كيف ترضي الحوراء بالمرء بعلاً ... وهو - من دون حرمة - لا يحامي
ثم يقدم لنا ابن الرومي بعد هذا التحريض القوي هذه الصورة البارعة عن خصومه تخيل أنها واقعة بينه وبين النبي عليه السلام عن هؤلاء الشيوخ والفتيان وكيف لم يثأر لهم:
واحَيائي من النبي إذا ما ... لا مني فيهم أشدّ الملام!
وانقطاعي إذا هُم خاصموني ... وتولى النبي عنهم خصامي!
مثَّلوا قوله لكم - أيها النا ... س - إذا لامكم مع اللوام
(أمّتي! أين كنتمُ إذ دعتكم ... حرّة من كرائم الأقوام. . .؟
صرخت: يا محمداه. . .! فهلاَّ ... قام فيها رعاةُ حقّي مقامي. . .!
لم أجبْها إذ كنت ميتاً فلولا ... كان حيٌّ أجابها عن عظامي!)
وأريد هنا أن أشير إلى براعة ابن الرومي إذا انتقل من خطاب نفسه في الأبيات الأول إلى خطاب من يحرضهم حين بدأ يصف خصومه النبي عن قتلى الزنج فقال: (مثّلوا قوله لكم أيها الناس)
ثم يندرج ابن الرومي بعد هذه الإثارة وإهاجة النفوس إلى الدعوة الصريحة إلى الثأر من صاحب الزنج فهذه القطعة التي هي ختام قصيدته، والتي نكتفي منها في هذه الأبيات:
انفروا - أيها الكرام - خفافاً ... وثقالاً إلى العبيد الطغام
أَبرموا أمرهم وأنتم نيام، ... سوْءة سوءة لنوم النيام صدَّقوا الظن اخوة أمّلوكم ... ورجوكم لنوبة الأيام
أدركوا ثأرهم فذاك لديهم ... مثل ردَّ الأرواح في الأجسام
لم تقروا العيون منهم بنصر ... فأقروا عيونهم بانتقام
أنقذوا سبْيهم - وقَلَّ لهم ذا ... ك حفاظً ورعية للذمام
عارهم لازم لكم، أيها النا ... س، لأن الأديان كالأرحام
لا تطيلوا المقام عن جنة الخل ... د فأنتم في غير دار مقام
فاشتروا الباقيات بالعرَض الأد ... نى، وبيعوا انقطاعه بالدوام
هكذا ينتهي ابن الرومي من قصيدته في رثاء البصرة وفيما أصابها وأهلها من صاحب الزنج وفتنة الزنج وتحريض الناس على الثأر منه ومنهم.
وأعتقد أن القارئ يجد أني لم أكن مغالياً حين قلت في ختام مقالي الأول عن هذه القصيدة من شعر ابن الرومي إنها قصيدة عجيبة من غرائب الشعر العربي، وضوح بيان، وقوة تصوير، وإعجاب خيال، وصدق عاطفة، وأنها من بدائع الشعر العربي كله.
وأزيد على ذلك اليوم أن ابن الرومي كان في تحريضه الناس وتهييجه لهم، ماكراً خبيثاً وقوياً عارماً شديد التأثير، يكاد شعره في ذلك يدفعنا نحن الآن - أحد عشر قرناً - إلى الثورة والهياج.
محمود الشرقاوي