مجلة الرسالة/العدد 398/أومن بالإنسان!
→ في الاجتماع اللغوي | مجلة الرسالة - العدد 398 أومن بالإنسان! [[مؤلف:|]] |
أيام الرواق. . . ← |
بتاريخ: 17 - 02 - 1941 |
6 - أومن بالإنسان!
للأستاذ عبد المنعم خلاف
بين الغفلة واليقظة - صيحة في أذن الإنسان - لو، ولعل،
وربما - لا ملام على الأقدار - لم تفت الغاية - نقطة البدء
في الحياة الفكرية - الجناية الأولى - حادث عظيم - آثار من
الوثنية - الوضع الأصيل الدين - ديانة الحياة.
حينما أعس وأندس إلى مجلس في مقهى بلدي حقير أرقب الحياة الإنسانية في بعض جوانبها، وأتفرس في وجوه القوم ونواصيهم، وأتسمع إلى أحاديث دنياهم وآمالهم وأعمالهم، وأتتبع نظراتهم للحياة فأجدها لا ترتفع إلى شيء سام، ولا تدور حول قضية من القضايا العليا للحياة، ولا تفكر في مبدأ أو مصير، ولا تتساءل عن صلاح أو فساد. . .
وحينما أقذف بجسمي في زحمة سوق من الأسواق بين ضجيج الحركات والأصوات والأبواق وصفقات الأيدي الخاتلة على الأيدي المختولة في العقود والمبايعات، وسائر الارتفاقات والمشاحنات.
وحينما أرصد حياة الأفراد اليومية. فأجدها سلسلة من الغفلات والأكلات واللذات والأعمال الآلية التي لا استحضار فيها لمعان كريمة، ولا يقظة فيها إلى أسرارها ومآل الإنسانية بها. . . وإنما هي دورات رحوية وسير أعمى وراء دولاب الحياة من غير سؤال: إلى أين المسير؟
حين هذا كله أجد في نفسي كأن الإنسانية عريقة في غفلتها وذهولها، وكأنها خلقت لهذه الغفلات ولن تكون لغيرها، ولن تكون لحياة أخرى وراء هذه الحياة. . . وكأنها منفصلة عن حياة الطبيعة الحادة الواعية العادلة الموزونة انفصالاً يكاد يجعلها عالماً مستقلاً. . .
ذلك وحي رؤيتي لغفلات الناس وانقطاعهم عما يدور في الأكوان، وإهمالهم التفكير في مبدأ الحياة ومنتهاها وفي خفايا الطبيعة وأسرارها. . .
وحين أجلس مجلساً تثار فيه الأفكار عن الكون والفساد والحقائق والأباطيل وتصول فيه العقول وينبري بعضها لبعض بالاعتراض والرد والتعليق والتشقيق والبيان الساحر والحجج اللاقفة. . .
أو حين أقرأ كتاباً يعرض فكرة من أمهات الأفكار ويسيل به سيلها فيفيض على الفكر والفؤاد. . .
أو حين أرى آلة معقدة التركيب تطير أو تسير أو تخفق بالأصوات والبرقيات مما أخرجه عقل مهندس ذي قدرة على الاستيعاب والتقليد والابتكار. . .
أو حين أرى شيخوخة جليلة واقفة في محراب تتلو صلوات أو ترتل آيات في إطراق وخشية واستحضار لعظمة الكون وجلال بارئه. . .
أو حين أسمع نشيداً من شاعر ذي قلب اتسع وتيقظ للأحاديث الصامتة والناطقة في الطبيعة، واسترق السمع للنغم الذائب في الكون، والموسيقى الأبدية في حركات نجوم السماء ونجوم الأرض. . .
حين هذا وذاك وذلك أقول: هنا موضع تكريم هذا الجنس ومؤهلات خلافته. . .
هنا الإنسانية التي تقنع العقل الحائر بقيمته وقيمة الطبيعة وقيمة الخير والحق والجمال.
هنا وضوح وانكشاف لمعنى سيادته وملكوت واسع يصح أن تستند إليه في تخيل مستقبله وفي تبين موضعه وسط ما يعمر الكون من المخلوقات. . .
ثم أصيح: أيها الإنسان! تيقظ لنفسك لتفرح بها. . . تيقظ إنك حي تسعى وترى وتفكر وتتجه في أي اتجاه تريد وسط الظلام والجماد والنور والصمت والبكم والصمم والعمى.
أنت الذي تفقه وتدرك تلك الحياة التي لا تجد غير عينك وأذنك وسائر حواسك.
تذكر أنت المقصود بكل هذا الذي يحيط بك وأنك خليفة على مقدرات الأرض وأن في يدك قوة من قوى التعمير والإنشاء والتوجيه والتغيير والتنويع والتفريع، وذلك شرف عظيم!
تيقظ واهتف في سمع الزمان والمكان: أنا أنمو وأترقى وأتكلم وأفكر وليس أمامي حدود وسدود أيتها الخلائق الواقفة المحدودة. . .
وأجلس بجانب الجماد والنبات والحيوان فترات لترى الفوارق بينك وبينها. . . ولن يغفر خالق الإنسان لامرئ جاء إلى الحياة ولم يجلس مجلساً بين هذه الكائنات يوازن بينها وبين نفسه ويحدد موضعه منها، ثم يرفع عينه إلى السماء ويخفضها إلى القبر حتى يرى الطريق بينهما. . .
تيقظ إلى الذي مسنا بالحياة ونحن نجهلها ونجهله، وأخرجنا ذاهلين إلى الضحى النهار وسواد الليل، وأرانا مشاهد ثابتة صارمة في السماء ومشاهد مَرنة متغيرة في الأرض، وبدأ حياتنا من نطفة، ومَطّ أجسامنا من مضغة لحم ملقاة في ظلمات الأرحام إلى أجنة مكتملة التخليق إلى أطفال دراجين إلى غلمان يافعين إلى مراهقين متفتحين إلى شبان مشبوبين إلى كهول وشيوخ منتظرين لا يعلمون وراء أيامهم أياماً. . .
إلى الذي أدار الشمس أمام عيوننا دوراناً يبلي في أجسامنا نسيجاً وينسج آخر، ويزيد في أفكارنا صوراً وينقص أخرى، ويطوي الأيام تحت أقدامنا سفراً من الزمن، ثم يطوينا بالأيام عضواً عضواً وذكرى وراء ذكرى. . .
إلى الذي فتح في نفوسنا نهماً لا يشبع من أطايب الوجود وحقائق الوجود، ثم سجننا في سجون القبور إلى يوم النشور. . .
إليه منا نحن الذين نبحث عنه منذ أن دخلنا عالم الفكر وننتظره وراء الأستار ونقرع باب الزمان والمكان في غرة كل يوماً وقَفَا كل مساء نسائل عنه، ومعنا عيون تقود وأقدام تسير وقلوب تتلفت وراء كل ورقة في كل شجرة وكل ذرَّة في كل مَدَرَة. وتنظر في الوجوه والعيون والألسنة، وما يزحف وما يمشي وما يطير وما تحمله الريح وما يحمله الماء والأثير وما تحمله قوة القوى: الفكر!
أواه! أية غفلة هذه التي تغشي الناس وتتركهم عمياً ذاهلين عن مجيء الحياة بهم من غير اختيار إلى دار العجائب وعن سيرها بهم إلى دار المجهول! وعن سير الشمس والقمر وتوارد الأيام وسقوط الأمطار وأسفار الرياح إلى مختلف النواحي!
ثم أية غفلة هذه التي تغشي عقولهم وتصرفها عن الفكر فيمن جاء بهم وسيذهب. . . ذلك الذي استتر وأصر على تكبره واختفائه؟
ولو دخل الإنسان الدنيا بكامل نفسه وفكره حين يولد، ولم يدخلها في غيبوبة الطفولة وذهولها وتدرجها به من البسائط إلى المركبات إلى المعقدات وهو في شغل عن الأسباب والمسببات إذاً لخرج منها مجنوناً بمجرد دخوله إليها من شدة الفجأة ودهشة العجب!
ولعل الله الخالق المبدع شغل أكثرهم بصغائر الحياة والنزاع عليها، وجعلهم كالقطيع الغافل المرتاح السادر في غفلته وعمله عن المعلوم والمجهول من أمور الحياة. . . وأخرجهم في خطوط مرسومة وحلقات مفرغة ليعملوا في الأرض كما تعمل الثيران في الطواحين. . . تدور وهي لا تعلم أنها تدور ولماذا تدور. . . وضربهم بفتنة الدنيا، فزاغت منهم الأبصار عن الحقائق إلا في فترات الدين والصلوات. . . وحتى هذه أدركوها وهم في خمار المادة وسعار الشهوات، إلا قليلاً منهم وهم العارفون المدركون لأرصاد الطبيعة وشيء من تدبير الله فيها. . . لعله فعل هذا ليخفف عنهم دهشة الفكر في أعاجيب صنعه التي كلما زاد فيها الإنسان تفكيراً زاد حيرة. . .
وهؤلاء العارفون لو أطلعوا على الغيب لاختاروا الواقع وانصاعوا تحت حكم الأقدار، ولو في مقارنة الأضرار والأوصاب، إذ قد عرفوا أنهم لا بد أن يخضعوا ليشتركوا في حبك الخديعة التي أرادها الخالق المبدع لأطفال الحياة الذين هم جمهور الإنسانية العاملة التي عليها عمار الأرض بالأسلوب المادي المعروف.
وربما كانت غرائز القطيع العنيفة هي التي تنمي حركة الحياة الدنيا وتوسع آفاقها، كما ينمي عنف غرائز الطفل مستقبله ويوسع من آفاق حياته. . .
إذاً، فلا ملام على الأقدار التي تدبر كل شيء وتضعه بميزان ولا يجوز مطلقاً أن نتوهم أن حياة الإنسان بما فيها من أزمات ومآثم قد خرجت على الأقدار، وأنه قد فاتت على الله الغاية من خلق هذا النوع - كما توهم بعض من كتب إليّ منذ حين - فإن الإنسانية لا تزال في دور تفتح المدارك واستقبال الشباب، والشباب فيه لوثات كثيرة، ولا بد أن تتدرج إلى أدوار الرشد الخالص في كهولتها وشيخوختها، وأن تحقق الغاية من خلقها كما أراد ربها. . .
وكل مآثم الحياة الإنسانية وأزماتها قد تغتفر ويجد الفكر لها تعليلاً، إلا الفكر بخالق الحياة أو الإشراك به!
وكذب من يريد خديعة نفسه وخديعة الطبيعة وخديعة رب الطبيعة!
ذلك الذي يريد أن يفرض للحياة الفكرية الإنسانية مبدأ غير نقطة البدء التي يراها الفكر أول حياته ومفتاح عالمه. . .
كذب وضل ضلالاً بعيداً وخسر خسراناً مبيناً، وقلب الحياة على أم رأسها وأم رأسه!
إن نقطة البدء في الحياة الفكرية، هي الفكر في صاحب الدنيا: هذا البيت الكبير الهائل الذي جاء بنا إليه وأسكننا فيه من غير اختيار منا. . . الفكر فيه حتى نعرفه وندرك طرق تسييره للحياة والطبيعة، فنسير على خطواته وأسلوبه. . .
إنه مجهول للحواس ولكنه معلوم للفكر. . . وقد رأينا ظل يده يقع على كل شيء ويضع كل شيء في موضعه.
ومن أضلُّ ممن يأخذ أطفال الحياة أول نشوئهم ويباعدهم عن نقطة البدء هذه وبعضهم في مكان سحيق، فيستمر أول الطريق عندهم مجهولاً وآخره مجهولاً، ووسطه مختلطاً مشوشاً كذلك!
الجناية الأولى هي إهمال الفكرة الأولى: وهي السؤال عمن جاء بنا إلى هنا، ويمضي بنا كعابري سبيل. ومن وراء الجناية الأولى تتلاحق أخواتها التي تجعل الحياة أغلاطاً مسلسلة.
إن انفصال جنين إنساني من رحم أمه حادث عظيم ينبغي للإنسانية أن تتلفت إليه وتوليه أجل عناية؛ فلعل في الوليد حلقة جديدة فائقة تحمل سراً جديداً من أسرار تكوين هذا النوع.
ولكن الإنسانية أو الدولة تجني على نفسها إذ تهمل وصل كل عقل ناشئ بمفتاح الحياة، ومفيض فيضها ومرسل رحماتها.
وكأن الوثنية لم ترتفع بعض آثارها من الأرض للآن. . . وما الوثنية؟ هي انصراف العقل الإنساني عن الفكر في مصدر الحياة وما يليق له من الكمالات وعن شكره الدائم ما دامت آلاؤه وفيوضه تملأ النفس بالحياة وتتواتر على الجسم. . . ثم الركون إلى حجر أو بشر أو شيء من الأشياء ينسى الإنسان معه الإحساس بالحياة ورب الحياة ويستغرق في ذلك النسيان حتى يتعبد ويلوذ بما ركن إليه. . .
وها نحن أولاء نرى في هذا العصر آلهة منصوبة من المتاع والشهوات والآلات والأعمال والصناعات يستغرق عقل الإنسان فيها حتى ينسى صاحب الحياة. . .
قد يظن ظان أني مغال في الصوفية حين أدعو إلى أن يكون عقل الإنسان دائماً مرآة لشعاع ساقط من سماء الله. . . ولكن هذا هو الوضع الأصيل الحقيقي للدين على ما أفهمه وعلى ما فسرته به في مقال سابق من أنه الإحساس الدائم بالحياة والفكر في مبدعها لتكون ذاتها وآلامها وأطرابها وأوصابها صوراً وألواناً من العبادة. . .
والإسلام الذي هو دين الطبيعة ودين الحياة قد رسم لنا هذا حين سن رسوله أن يذكر اسم رب الحياة عند الأكل والشرب والجماع وسائر الأعمال والآلام، حتى عند ما يريد الإنسان أن يدخل المكان الذي يخرج فيه ما في جوفه من الأذى. . .!
ولن يكون الدين غير هذا. . . فليحمله في نفسه من شاء، وليتركه من شاء. . .
ألا أنها (ديانة الحياة) التي تستحق وحدها أن يحيا الإنسان بها ويسعى جاهداً في سبيلها لتحقيق غاياتها. . .
وغاياتها: العقيدة الثابتة التي لا تتزعزع بخالق الحياة الواحد وحفظ الحياة نقية قوية متجددة كما هي في الطبيعة. . . ورصد قوانين الطبيعة التي تسير الحياة بنظام دقيق في الجليل والحقير. . . واستخدام تلك القوانين لصنع موجودات جديدة على النماذج والأساليب التي في الطبيعة. . . وعدم الغفلة والذهول حتى لا نرى نهار اليوم كنهار أمس. . . فلا يكون الزمان عندنا يوماً مكرراً مملولاً، ولا يكون إحساسنا بالحياة واحداً في مراحل عمر الفرد وعمر الجماعة، فإن ذلك إحساس جسدي فقط بالحياة. . . ووراءه إحساس فكري روحي عند من لهم إخلاص الفكر في الكون. . .
أولئك الذين يرون كل يوم جديداً. . . ثم يسبقون الحياة والزمن. . . ثم يموتون ليولدوا مرة ثانية من بطن الدنيا ليروا مشاهد أخرى جديدة. . . فإن العالم لا ينتهي أمده عند رؤية النفس والأرض والنجوم.
وإن الذي صنع هذا العجب الذي نراه، لا بد قد صنع غيره لا نراه.
عبد المنعم خلاف