مجلة الرسالة/العدد 397/الإنتاج الأزهري
→ من فصول كتاب (الديارات) للشابشني | مجلة الرسالة - العدد 397 الإنتاج الأزهري [[مؤلف:|]] |
فتنة الزَّنج ورثاء البصرة في شعر ابن الرومي ← |
بتاريخ: 10 - 02 - 1941 |
للأستاذ عبد العزيز محمد عيسى
(أن الأزهر إذا أصلح كان بثقافته أهدى إلى تربيتنا من أية
جامعة.)
(الزيات)
(افتتاحية الرسالة في عامها التاسع)
عادت الرسالة الغراء إلى العناية بالشئون الأزهرية على دأبها، بعد ما عادت الحياة إلى الأزهر أثر إجازته الطويلة، وبعد ما اطمئن الأساتذة والطلاب إلى موضوعاتهم وساروا فيها شوطاً ليس باليسير. وعدت أساهم مع الكاتبين، وألقي بدلوي في الدلاء، ولسنا نبتغي من وراء ذلك - علم الله - إلا الخير لهذا المعهد المبارك الذي نرجوا أن ينال من الإصلاح ما يتمناه المحبون المخلصون.
وفي النفس حاجات، وللقلب خفقات، إذا ما ذكر إصلاح الأزهر وجرى على الألسن. ولكننا نقف في كلمتنا اليوم عند الحديث عن الإنتاج الأزهري لتردده على أقلام الكاتبين
فقد نغمط الأزهر حقه إذا وقفنا بالإنتاج عندما كان من جماعة كبار العلماء وجعلنا ذلك الأساس الذي يبني عليه التقدير والاعتراف بشخصية الأزهر العلمية. ونحن لا نؤمن بأن إنتاجهم بمثل هذه الشخصية، وإنما يمثل شخصياتهم أنفسهم ومدرسة تلقوا عنها وعقيدة في التحصيل والتأليف درجوا وما زالوا عليها
وسواء لدينا أنشر إنتاجهم أم لم ينشر فرسائل كثير منهم على ما نعتقد صورة أريد بها تبرير الرسميات، وأغلب الظن أنها لا تعدو في الجودة رسائل المتخصصين إن لم تكن الأخيرة أفضل من بعضها. فمن الغبن الكبير إذن أن نجعل إنتاج هذه الجماعة دليلاً إلى شخصية الأزهر العلمية
وفي الأزهر غير هذه الجماعة طائفة مهما قل عددها لها استقلال في البحث والتفكير، ولها حرية في الرأي والنقد وأبحاث قوية نشرت وتداولتها الأيدي، وهذه الطائفة من غير شك - لاعتراف الجميع بها - تمثل الأزهر الناهض من الناحية الفكرية، وهي بحق أولى أن تد على شخصية الأزهر العلمية
قد يكون من الإحراج أن نقصر الإنتاج على إبداء رأي خاص في مشكلة من مشاكل العلم. ولو أننا فعلنا ذلك لكان كل ما نسميه الآن إنتاجاً للأزهر وما عدا الأزهر غير إنتاج؛ أو لكانت كثرته الغالبة على هذا الوصف. ولم لا نعد الإنتاج المدرسي إنتاجا متى كان قائماً على الشخصية والتصويب أو التخطئة لما للعقل فيه مجال، والمناقشة للموروث والتعقيب عليه؟ أليس ذلك هو الاستقلال في التفكير والإعلان للرأي الخاص بعد الدرس والبحث، وإذن ففي الأزهر إنتاج قل أو كثر
هناك فرق بين الإنتاج والقدرة عليه وإن كان أحدهما لازماً لصاحبه وأثراً من آثاره. ومما لاشك فيه أن هذه القدرة على الإنتاج موفورة لدى الكثير من رجال الأزهر وإن لم يظهر الإنتاج الفعلي إلا من قليل منهم
وإذا أنت سألت عن السبب في إحجام الكثير عن الإنتاج فلا يستطيع منصف أن يجيبك إلا بأن فقدان التشجيع والأغراء من ناحية القائمين بالأمر في الأزهر هو السبب الوحيد لذلك. فهم قد رأوا إخواناً لهم حاولوا أن ينتجوا بل أظهروا صوراً من إنتاجهم كان معترفاً بها؛ ولكن أحداً من الرجال الرسميين لم يقل لهم إنكم أحسنتم، ولم يشجعهم بكلمة يدأبون على مثل هذا العمل أو تجعل غيرهم يسير في طريقهم. فخير لهم إذن ألا يسيروا في طريق لا يحمد السائرون فيها
إن الأزهر يطلب من علمائه أن يكونوا منتجين، وأن يعرضوا علمهم لناشئة الجيل الجديد في صور تلائم جيلهم، ولكنه لا يأخذ بأسباب ذلك. فهو مثلاً لا يأخذ بسنة وزارة المعارف فيعلن عن حاجته إلى الكتب اللازمة لتحقيق مناهجه، ويشترط فيها ما يشترط من نظم وتوجيهات، ويجعل ذلك كل عام أو عامين أو أكثر ليكون له من ورائه ثروة طائلة من الإنتاج سواء فيما يقرره من ذلك أو فيما ينشره أصحابه على الناس ليوازنوا بينه وبين ما اختير
إنه لو فعل ذلك لزرع في نفوس علمائه الاستقلال في الفكر والجهر بالرأي والصراحة في الحق - وهي أهم مقومات الإنتاج الصحيح - ولقضى على فكرة اعتقاد عجز العلماء عن مسايرة الحياة الجديدة وعن الخروج عما درسوه من كتب وعبارات أليس من العيب أن يظل الأزهر إلى الآن يقرأ في سنتيه الأولى والثانية الثانويتين كتباً في البلاغة لمعاصرين من غير الأزهريين وفيه مائة من المتخصصين في البلاغة كل واحد منهم قادر على أن يخرج كتاباً مثلها إن لم يكن أفضل منها!
لا تقل أيها القارئ بعد ذلك ما لهم لا يؤلفون، فإن عدم التشجيع كما قدمنا وعدم الإغراء بتقرير الكتاب أو بشراء حق التأليف أو ما إلى ذلك هو الذي صرفهم فكان سبباً مهماً في قلة الإنتاج؛ ولو أن هذا الباب فتح لجاءت كتب كثيرة ولنشرت أبحاث ينبغي أن تحسب في إنتاج الأزهريين كما حسب مثلها لغيرهم
أو ليس من العيب كذلك أن يقرر الأزهر في أقسامه الثانوية كلها كتاب في تاريخ أدب اللغة لفظته وزارة المعارف منذ زمن طويل؛ وفيه كذلك مائة أو يزيدون من المتخصصين في أدب اللغة! وليس ذلك لعجزهم عن إخراج أفضل منه، فقد برهنوا على انتفاء ذلك عنهم، ولكن لاعتبارات أخرى على نحو الاعتبارات التي أشار إليها صديقي الأستاذ المدني في مقاله (السياسة التوجيهية في الأزهر) عدد الرسالة 393
ففيم كان يضيع هؤلاء وأمثالهم سني تخصصهم إذا لم يستطع أحدهم أن يؤلف كتاباً يرضي به منهج الدراسة ويعلن به رأيه في هذه الموضوعات الأدبية مثلاً التي لا ينبغي أن يعتقد الإنسان فيها رأي غيره، ولا أن يلقن الطلاب فيها عبارات كتاب بعينه
ذلك عيب واضح يشكو منه الأساتذة والطلاب جميعاً. ونحن إذ ندل عليه نرجو أن يلتفت إليه القائمون بالأمر في الأزهر فيعملوا على تلافيه وإبعاده حتى لا يظل الأزهر كَلاًّ على غيره فيما تخصص فيه أبناؤه وعطلوا أنفسهم سنوات للعناية به ومعرفة مناهج بحثه
ونستطيع أن نقول مثل ذلك في كثير من مواد الدراسة، فأنها تقرأ في كتب لا صلة لها بالعقلية الحاضرة ولا بالأسلوب المألوف. ومن الخير كل الخير أن يعدل عنها إلى ما يوافق ذلك وأن يوسع المجال للمستطيعين وتعطى الفرصة لهم. ولست أقصد بذلك - طبعاً - إلى عيب هذه المواد والتنقيص من قيمة كتبها. ولكني أعتقد أنها جعلت لزمان مضى، فمن الجائز أن يصلح بعضها لزماننا، وأن يتعارض بعضها الآخر معه فلنبق على ما يصلح ولندع ما عداه. فإننا إن لم نفعل ذلك صدق علينا أننا نعيش في عصر غير العصر الذي يعيش فيه الناس على أنه مما يعوق الإنتاج الأزهري ويقف في سبيله أن الدراسة في الأزهر ما تلتزم (طريقة الكتاب). فأنا كمدرس حريص علي أن أهضم عباراته وأساليبه: السائغ منها والملتوي، وأفهم ذلك الطلاب كلمة كلمة وحرفاً حرفاً ما له ضرورة وما ليس له ضرورة، لأنه في الكتاب المقرر، والطالب أمامي يهتم بذلك ويوليه عنايته، لأنه يرى شبح الامتحان مخيفاً، ويرى أنه لا ينجيه منه إلا أن يفهم كلمات الكتاب، وكلما تمثل له هذا الشبح في أثناء (الحصة) حقق ودقق وأخذ وأعطى وفكر وقدر
وعلى فرض أنه لا بد من ذلك في بعض المواد، فما لنا لا نعدل في بعضها الآخر إلى (طريقة الموضوع)، لنمكن المدرس من الجمع والتحصيل والإبقاء والإلغاء، فيظهر بذلك شخصيته ويظهر إنتاجه واستقلال فكره. ألا إننا لو فعلنا ذلك لكنا محسنين إلى الأزهر، إلى علمائه وطلابه، وإلى العصر الذي نعيش فيه
أن الدراسة على هذا النحو فرصة من الفرص الجيدة التي تمهد السبيل لظهور الإنتاج الأزهري والانتفاع به، فإذا لم تتح هذه الفرصة لعلمائه، فعلى من يقع إثم التعويق عنها؟
لا ينبغي أن نسرف في التشاؤم ولا أن نقول: إن مدرس الموضوع لم يخلق، ففي الأزهر كثير عندهم هذا الاستعداد، فليكن عملهم بدء الغيث. فإن أصابوا فذلك ما نرجوه، وإلا كانوا النواة الحسنة لمن يجيء بعدهم من إخوانهم وأبنائهم. وإذا نحن انتظرنا بالدراسة الموضوعية إلى أن يخلق مدرس الموضوع ولم نعمل على خلقه وتكوينه، تقطعت بنا السبل وخلفتنا القافلة ولم نصل إلى ما نريد
إن أنسب الأوقات لإعلان هذه الآراء والمناداة بها هو ذلك الوقت الذي يدير الشؤون فيه شيخ هو خير شيوخ الأزهر فيمن رأينا
ونحن إذ نجهر بذلك وننادي به فإنما نعبر عن رأي الكثيرين من العلماء، وبخاصة ذووا الصراحة منهم، ونحتذي في الوقت نفسه خطة المصلح الأكبر الإمام المراغي التي رسمها في أول خطاب له في الجامع الأزهر حين عاد شيخاً له للمرة الثانية
فهل يجد هذا النداء المتواضع من سميع؟
عبد العزيز محمد عيسى
مدرس بمعهد القاهرة