الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 396/وداع الشكر

مجلة الرسالة/العدد 396/وداع الشكر

بتاريخ: 03 - 02 - 1941


للشاعر الفرنسي لامرتين

كان لامرتين من أعظم شعراء فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وهو غني عن التعريف، وتعد آثاره الأدبية من أنفس ما أبدعه الخيال الرائع.

ومن تلك الآثار قصيدة بديعة نسج بردها يوم كان ملحقاً بمفوضية فرنسا بنابولي عام 1820 حيث كان انهماكه في تحبير الرسائل الدبلوماسية يحول بينه وبين استرساله في قرض الشهر فأفرغ في هذه القصيدة وداعه للشعر.

(المترجم)

لما اعتزمت اعتزال الشعر خالجني ... موطد العزم لكن خاب تصميمي

ودعته صادقاً لكنما عرضت ... منازع الفكر تدعوني لترنيم

تألبت وهي شتَّى في بواعثها ... وطالما ناشدتني نظم تلحيني

هناك في ساعة حل السكون بها ... في وحدة الصمت عاد الشعر يغريني

حيث الوجود حليف النوم أجمعه ... حتى الأماني استكنَّت في زواياها

في غابة برزت كالطيف ثابتة ... فما تهادى نسيم في حناياها

هناك مرحلة في العمر شاردة ... كأنما النفس فيها نفس وسنان

فلا التنفس في الأحشاء منسجم ... ولا الحماس لقرض الشعر ناداني

والطير وهو الذي يضُفي ببهجته ... على الرياض سروراً بالغ الأثر

لا ينجلي ساجعاً في كل آونة ... وفي الظهيرة يهوى ظُلَّةَ الشجر

فإِن بدا الفجر ناغى الكون مبتهجاً ... وفي الغروب يناجي دورة الفلكِ

يشف تلحينه في الصبح عن طربٍ ... وفي المساء يناغي وحشة الحلكِ

ربابتي، ساعة الهجران قد أزفت ... لكِ الوداع إذن من مغرمٍ دَنِفِ

يا من تنَهُّدِكِ المشجي يثير جَوىً ... وكم يثير وداعي بالغَ الأَسَفِ

أنَّي تلامس كفي منكِ ناصيةً ... ولم يزل باكياً من شجوه الوتَرُ

قد أقبلت ساعة التوديع مسرعةً ... فهاكِ عَبْرَةَ ودٍّ وهي تنهم أيْهاً لعيني أن تُخفي لها أثراً ... وتلك ثائرة من واكف الشجنِ

كم دمعةٍ سكَبَتْهَا النفسُ وا أسفي ... فبلَّلَتْ وتراً أوفى ولم يخنِ

لم تستطع زفرات منكِ صاعدةٌ ... تجفيفها، فحكت طلاَّ على فَنَنِ

إن الربابة لم تُمنح مُكلَّلةً ... بالسر والناس في هذى الدنا التعِسه

إلا لتسكين آلامٍ لنا انتشرت ... حيث الدموع من الآماق منبجسه

ما كل ما يرسل الأنغام مُشْجيةً ... إلاّ يردد آلاماً وآمالاً

أما السعادة لم ينطِق بها وترٌ ... بل حالف الصمتَ تلو الصمتِ أجيالا

أحلى الأغاني أغانٍ طاب مسمعها ... من بلبلٍ ناحبٍ أو شاعر باكٍّ

تحت الظلال على قبر توسده ... أعز خدنٍ يناجي روحَه الشاكِي

ربابتي، أنتِ مثلي سرتِ في أثري ... حزيتةَ الصوتِ والإنشادِ والنَّغَمِ

لم تمتزج قط بالأنغام يُنشدها ... أهل السعادةِ والإقبالِ والنعم

بغصن صفافة في الشط عالقة ... طليقة كطيور الغاب في الأيك

أبت يدي لكِ رَبطاً كالأسير على ... أبواب قصر عظيم أو حِمَي مَلْك

لم تُلهمي أبدا في أي آونةٍ ... ثوائر النفثِ تعزيزاً لذي حزب

فأنتِ قد فقت طهراً كل خاطرةٍ ... ولم تداعبكِ إلاّ نفثة الحب

قد قُطِّبت جبهتي يوماً لكارثة ... هوجاَء عاتية من قسوة القدر؟

كلا، بفضلك لم أجزع لصدمتها ... ولم أبالِ بما ألقاه من خَطرِ

وأينما ذهبت نفسي سمعتُ صدىً ... من السماء لصوتٍ حين تبعثه

نفسي الغريبة فوق الأرض ما برحت ... تُصغي لما دَأب الإلهام ينفُثُهُ

على الربا حيث يبدو للرقيب إذا ... لاح النهار كما لو فوقها بزغا

إذ كنتِ في صحبتي كيما أرددَ ما ... نظمتُ في مدح معبودي له صِيَغا

ما كان أول إشعاعٍ يُفيق بها ... إلا وقد فتر الإنشاد أو فرغا

كم كنتِ تُلْقين بالأنغام موحشةً ... على هدير حبالِ الفلك والموجِ

وقد بدا البرقُ خلاَّباً بزرقَتِه ... يخبو ويسطع عَبْرَ الأفق في الأوجِ

وكنتِ مثل طيور العاصفات تُرى ... محلِّقاتٍ على الأمواج في البحرِ وكدتِ أن تلمسي من فوقها زَبَداً ... يهبط ويعلو من المد والجزرِ

تلك التي طالما استرعت مناظرها ... مرآي قد حالفت أنغامها نَغَما

تنهُّداتك مع أصواتها امتزجت ... فكان رجع صدى الحنين منسجما

وطالما ارتعشت شجواً حبائلها ... القاتمات علتها نفثتي الرخوة

تحكي ارتعاشاً عرا الأوتار من سُجن ... أناملي حرَّكت في روحها النشوة

ربابتي! ربما ألقاكِ بعدُ، متى ... رأيتِ يوماً نذير الموت يقتربُ

تليه غاشيةُ الأحلام موحيةً ... من السماء أموراً ما بها لَعِبُ

تكون قد بعدت عنا الحياة كما ... لو أصبحتِ ذكرياتٍ مهدها الكتبُ

وإذ يعود شباب الخلق ثانيةً ... يحفه طائف حلو لنسيان

قد ينحني المرء أوقاتاً عليكِ ففي ... رنينِكِ العذبِ تلطيف لأحزان

وهذه الريح إذ تجري محلقةً ... من فوق أرواحنا في برزخ العدم

تهب في الفجر أحياناً مُبَكِّرَةً ... كما تهب بَيَاتاً هبَّ مُخترم

وكم يوق لها إمعانها عبثاً ... بشعر ريحانةٍ أو ذقن ذي هرَم

إيهاً للحية هوميروس تحجبها ... قُطَاعةٌ من جليد عن ذوي النظر

وكأن لمع شعاع الفكر مؤتلقاً ... يعيد نوراً خبا من قبلُ في البصر

ألم يكن ملتن البصر الأعمى بذي بصر ... فكم جلا غيهباً في حومة الفِكَر؟

ألم تحم حول عيني ملتنٍ طُرَفٌ ... من رائع الحب والآمال والصور؟

تحكي الفراشة حامت قبل أن هبطت ... على فلورا التي تهوَى على الأثر

يبدو وميض جناحيها كبارقةٍ ... أضاءها شَفَق وضّاءُ كالشرر

ربابتي، ربما تأتين قاصدةً ... زيارتي بينما الميعاد لم يَحِن

فتمتطين مياه البحر طافيةً ... من شاطئ لسواه طفو متّزن

أكون قد غالبتني موجة فقضت ... على حياتي غريقاً ماؤها كفني

وغيَّب اليم صوتي تحت لجَّته ... فضاع لحن شَكاتي فيه من زمن

وقد نأي بي مصيري في غياهبه ... عن السموات، إن الهجر يؤلمني

كعُشبة البحر تحت الماء شاردة ... وقد رمى الموج عَظمى رمي مُمْتَهِن على الرمال يُرى ملقًى بشاطئه ... فيا لهول رُفاتٍ هالكٍ عَفَنِ

لكنما أنتِ يا من ترسلين علي ... شتى المسامع أمواجاً من الطرب

وتركبين متون الموج سابحةً ... لا ترهبين دنو الموت والعطب

إن البعاج على متن البحار جرت ... تحكيكِ من حسدٍ في موكِبٍ لَجِب

(الإسكندرية)

محمد أسعد ولاية