مجلة الرسالة/العدد 396/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 396 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 03 - 02 - 1941 |
الرفاق الثلاثة
عن الإنكليزية
بقلم الأستاذ عبد اللطيف النشار.
(عزيزي:
إن خطابك المؤرخ في 16 من هذا الشهر قد تضمن من الحماقات ما تضمنه كل خطاب تضمنه كل خطاب تكتبه لأن المركز الذي وضعت نفسك فيه سببه فقدانك التروي والتعقل. . .)
بهذه الألفاظ بدأ هنري وارنج خطابه الذي كان يمليه على كاتبته وهو جالس إلى مكتبه وهي بجانبه تكتب على الآلة الكاتبة. ثم نهض متبرماً ومشى وعلائم الملالة والسأم بادية عليه حتى وصل إلى النافذة فأطل منها ثم أخرج من جيبه خطاب ابنه فأعاد تلاوته وهو يتأفف وقال: (خمسون جنيهاً! هذا كثير! هذا تصرف غير معقول)
ثم عاد إلى السكوت وإلى الإطلال من النافذة فنبهته الكاتبة قائلة: (ألا تريد إتمام الخطاب؟).
فمشى نحوها ووضع يده على كتفها برفق وقال في صوت يتصنع فيه العذوبة: (لقد كنت شارد الذهن - إن ابني الشقي -).
وتنهدم ثم قال: (إن ابني يعاملني معاملة سيئة، فقد رفض مساعدتي إياه على اختيار عمل مناسب واشتغل بحرفة التمثيل ثم تزوج من ممثلة تعسة).
وكان الأب يرتعش عند ما ذكر الجملة الأخيرة. فقالت الكاتبة: (هل هذه الممثلة جميلة).
قال هنري: (إنني لم أرها ولا أريد أن أراها). فقالت الكاتبة: (والخطاب؟).
قال: (اتركيه الآن). ثم أنعم نظرة في عنق الكاتبة وذراعيها وقال: (ألا تتعبين من العمل يا مس ماسترز؟).
فقالت: إنني أتعب كثيراً ولكن لي جلداً على العمل.
قال: ألا تحبين التنزه و. . . والسرور؟ فقالت: إنني أجلس أحياناً في مقهى من مقاهي حي سوهو.
قال: إن المقاهي كثيرة في أحسن من هذا الحي الحقير. ثم سكت وعاد ذهنه إلى الشرود، وبعد قليل التفت إليها وقال: ماذا كنت أقول لك الآن؟
فقالت: هل كنت تدعوني إلى العشاء؟
قال: إنني آسف، لقد كنت أفكر. . .
فقاطعته قائلة: إنني أقبل إذا أردت.
فابتسم وبدا على وجهه السرور؛ وقال: هذا حسن.
قالت: ولكن خطاب ابنك؟
فتحولت حالته مرة أخرى إلى الغضب وقال: إنني لن أبعث إليه بدرهم واحد.
قالت: إذا كانت هذه هي معاملتك لابنك فإني لن آتمنك على نفسي.
فقال الأب في شيء من الغضب: لماذا تهتمي كثيراً بابني؟
قالت: أنا لا أهتم؛ فقال: إذن فلماذا. . .؟ فأحنت رأسها ولم تجبه؛ وكان منظرها وهي تتحدث باعثاً لخاطر جنوني في نفس هذا الشيخ الفاني فانحنى وقبل شعرها اللامع؛ فقالت بصوت خافت وهي لا تزال مطأطئة الرأس: متى. . . غداً؟
فأجابها: نعم في الساعة السابعة.
قالت: وماذا تقول في الخطاب؟
ثم نظرت إليه وهي تبتسم ابتسامة مغرية؛ فقال: أتمي الخطاب كما تريدين.
فقالت وهي تستأنف الكتابة: أما عن المال، فإن طلبك إياه وقاحة.
قال: اكتبي كما تريدين. فعادت إلى الكتابة وهي تقرأ ما تكتبه: ولكني مع ذلك أبعث إليك تحويلاً بمبلغ خمسين جنيهاً، ثم قالت: هل أوقع الخطاب بتوقيع (والدك الحنون)؟
فلم يجبها؛ وسكتت هي أيضاً.
كان مطعم لويز بلو مزدحماً عند ما دخل هنري وكاتبته فجلسا متقابلين في وسط الزحام على جانبي منضدة، وكانت تحدثه بصوت رخيم وينظر إليها نظرة إعجاب وسألها: (هل أبواك على قيد الحياة؟)
فبدا عليها الاضطراب وقالت بصوت متغير: (إن أبي لا يزال حياً) فقال هنري: (إنني آسف إذا كان هذا السؤال قد جدد لك ذكرى تريدين نسيانها، ولكني أشتاق إلى معرفة شيء عنك.
قالت: (إن أبي تزوج بعد أمي ولم أستطع الحياة مع زوجته فتركتها) فقال هنري: (ألم تفكري في العودة؟)
قالت: (إذا أردت فإنني لا أستطيع لأنه طردني من المنزل)
فقال: (ولكنه بغير شك أعطاك شيئاً من المال)
قالت الكاتبة: (لقد أرسلت إليه مرة أطلب مالاً فرفض.
فقال هنري: (يا له من وحش! أيستطيع الآباء أن يفعلوا هذا؟. . .)
ثم تذكر الأب بعد ما نطق بهذه الجملة أنه كان بالأمس يريد أن يرفض مطلب ابنه في المال فخجل، وفي هذه اللحظة رأى شاباً يدخل المطعم وقد دلت حالته على أنه يبحث عن إنسان بعينه، لأنه كان يدور بلحظة حول كل المناضد، ولما أدار هذا الشاب وجهه عرفه هنري وإذا به ابنه.
أحمر وجه هنري فجأة ونظرت إليه الكاتبة مستغربة، ثم تمتم بكلمات فهمت منها أنه قد آن أوان الذهاب.
ولكن قبل أن يتحرك امتدت إليه يد الشاب وقال: سعدت مساء يا أبي.
فسأله هنري: ما الذي تعنيه باقتفاء أثري؟
قال الابن: أليس لي يا أبي أن. . . ولكن قبل يتمم جملته وقع نظرة على الكاتبة فسكت، وأشار له أبوه بالجلوس فشكر وجلس، وقال هنري وهو يقدم لابنه كأساً من النبيذ: قل لي لماذا أتيت هنا؟
فقال الابن ببرود: أليس لي أن أبحث عمن يأخذ زوجتي فيدعوها إلى العشاء في المطاعم؟
قال هنري قد احتدم غيظاً: زوجتك! هذه كاتبتي يا روبرت). فقال روبرت: (هذه السيدة كاتبتي أنا يا أبي)
فنظر هنري إلى ابنه ثم إلى الكاتبة فابتسمت ووافقت على قول روبرت فعادت إلى الأب حالة الغضب، فقال روبرت: (إننا نريد يا أبي أن نصطلح. فزمجر هنري وقال الابن: لقد مرت بي وبزوجتي ظروف عصيبة ففكرت في هذه الحيلة. وجاءت للاشتغال عندك ونحن آسفان على إغضابك)
وقالت الكاتبة: (إنني على ما أراه قد حزت رضاك وإعجابك فلا أظنك تظل على غضبك من زواج ابنك بي)
ومدت قدمها من تحت المنضدة نحو قدمه لتعاكسه كما كان يفعل منذ خمس دقائق. ولكنه لم يجرؤ على ذلك، وقال وهو مغضب: (لقد خسرت كاتبتي يا روبرت)
فقالت وهي تبتسم: (خير لك أن أكون زوجة ابنك)
عبد اللطيف النشار