مجلة الرسالة/العدد 395/رسالة الشعر
→ من وراء المنظار | مجلة الرسالة - العدد 395 رسالة الشعر [[مؤلف:|]] |
رسالة الفن ← |
بتاريخ: 27 - 01 - 1941 |
نَهْرُ النّسْيان. . .!
(إلى الذين هموا بالرحيل ولم يعرفوا إلى أين. . .!)
للأستاذ محمود حسن إسماعيل
اِسْقِيَانِي مِنْ خَمْرَةِ النِّسْيَانِ ... وَانْسَيَانِي فَقَدْ نَسِيتَ زَمَانِي!
وَنَسِيتُ الشَّبَابَ وَالسِّحْرَ وَالأَحْ ... لاَمَ وَالْفَنَّ وَالرُّؤَى وَالأَغَانِي
وَنَسِيتُ الْمُنَى وَكَانَتْ شُعَاعًا ... بَاهتَ الظِّلَّ حَاَئرًا في جَنَانِي
وَنَسِيتُ الأَسَى وَكَانَ رِيَاحًا ... أَزْجَتِ الْجِنُّ خَطْوَهَا في كِيَانِي
وَنَسِيتُ الأيَّامَ حَتَّى تَلاَشَتْ ... كَهَشِيمٍ عَلَى تُرَابِ الزَّمَانِ
وَنَسِيتُ الأنْغَامَ رَعَّاشَةَ الشَّدْ ... وِ حَيَارَى حَزِينَةَ الْعِيدَان
وَنَسِيتُ الدُّمُوعَ وَهْيَ أَغَانٍ ... أَخْرَسَتْهَا زَوَابِعُ الأَحْزَانِ
غرِدَاتُ السُّكُونِ مَخْنُوقَةُ اللَّحْ ... نِ تَشَاجَتْ بِسِحْرِهَا أَجْفَانِي!
وَنَسيتُ الْجَمَالَ حَتَّى كَأَنِّي ... لَمْ أُضمِّخْ بِنُورِهِ أَلْحَانِي
فَنَسِيتُ الْعَبِيرَ وَالزَّهْرُ يُذْكِي ... هِ بِفَجْرِ الطَّبِيعَةِ النَّعْسَانِ
وَنَسِيتُ النَّدّى وَقَدْ كَانَ خَمْراً ... لِبَنِي الطَّيْرِ لَمْ تُرَقْ في دِنَانِ
وَنَسِيتُ الأَنْسَامَ تَنْقُلُ قي الْمَرْ ... جِ صَلاَةَ الطُّيُورِ لِلْغُدْرَانِ
وَنَسِيتُ النُّجُومَ وَهْيَ عَلَى الأُفْ ... قِ نَشِيدٌ مُبَعْثَرُ الأَوْزَانِ
وَنَسِيتُ الرَّبِيعَ وَهْوَ نَدِيمُ الشِّ - عْرِ وَالطَّيْرِ وَالْهوَى وَالأَمَانِي
وَنَسِيتُ الْخَرِيفَ وَهْوَ صِباً مَا ... تَ فَسَجَّتْهُ شَيْبَةُ الأَغْصَانِ
وَنَسِيتُ الظَّلاَمَ وَهْوَ أَسَى الأَرْ ... ضِ وَتَابُوتُ شَجْوِهَا الْحَيْرَانِ
وَنَسِيتُ الأَكْوَاخَ وَهْيَ قُلُوبٌ ... دَامِيَاتٌ تَلَفَّعَتْ بِالدُّخُانِ
وَنَسِيتُ الْقُصُورَ وَهْيَ قبُورٌ ... ضَاحِكَاتُ الْبِلَى مِنَ الْبُهْتَانِ
وَنَسِيتُ النَّعِيمَ وَالْبُؤْسَ مَاذَا ... تَرَكَا لِي مِنْ شَقْوَةٍ أو أَمَانِ؟
وَنَسِيتُ السَّلاَمَ وَالْحَرْبَ سِيَّا ... نِ شَذَا النَّورِ أو لَظَى الْبُرْكَانِ وَنَسِيتُ الْهُدُوَء وَالضَّجَّةَ الْهَوْ ... جَاَء سِيَّانِ سَكْتَتِي أو بَيَانِي!
وَنَسِيتُ الكَلاَمَ مَاذَا جَنَي المُصْ ... غِي إليه سِوَى بِغَاءِ اللِّسَانِ؟
وَنَسِيتُ السُّكُونَ وَهْوُ عَزِيفٌ ... أَبَدِىٌّ الصَّدَى أَشَلُّ الْمَثَانِي
وَنَسِيتُ الْحَيَاةَ وَهْيَ رَمَادُ ... نَفَخَتْ ذَرُّهُ يَدُ الشَّيْطَانِ
وَنَسِيتُ الْفَنَاَء وَهْوَ بِجِسْمِي ... هَادِمٌ يَرْصُدُ الْفَنَاَء لِبَانِي!
وَنَسِيتُ النِّسْيَانَ وَالذِّكْرَ حَتَّى ... صِرْتُ وَهْماً فِي خَاطِرِ النِّسْيَانِ!
وَتَجَرَّدْتُ مِنْ زَمَانِي وَكَوْنِي ... لِزَمَانٍ مُحَجَّبٍ عَنْ عِيَانِي
وإِذَا بِي فِي قَفْرَةٍ أَلْقَتِ الصَّمْ ... تَ عَلَيْهَا صَوَامِعُ الرُّهْبَانِ
خَاصَمَ الدَّهْرُ لَيْلَهَا فَهْيَ دَهْرٌ ... مَا رَأتْهُ سَرِيرَةُ الأكْوَانِ
وَلَوَى الْجِنُّ خَطْوَهُ عَنْ ثَرَاهَا ... فَهْيَ حَتْفٌ لِكلِّ إِنْسٍ وَجَانِ
لاَ ظَلاَمٌ، وَلا ضِيَاءٌ، وَلَكِنْ ... هَمْهَمَاتٌ يَلْغَطْنَ فِي وِجْدَاني
جُبْتُ فِيهَا حَيْرَانَ أَقذِفُ نَفْسِي ... فِي خِضَمٌ مُغَيَّبِ الشُّطْآنِ
وَإِذَا أَشْيَبٌ يُغَمْغمُ كالْمَجْ ... نُونِ بَيْنَ السُّهُولِ وَالوِدْيانِ
شَعْوَذَتْهُ السَّمَاءُ فَهْوَ خَيَالٌ ... يتَزَيَّا بِصُورَةِ الإنسانِ
آدمِيُّ الرُّوَاءِ أَذْهَلَهُ الوَهْ ... مُ وَغَشَّتْهُ هَبْلَةُ الْحَيَوَانِ
نَقَشَ الْعَنْكَبُوتُ فَوْقَ مُحَيَّا ... هُ ظِلاَلاً مِنْ صُفْرَةِ الأَكْفَانِ
مُقْلَتَاهُ بِئْرَانِ دَلوُهُما الظَّ ... نُّ وَغَيْبَانِ فِي الدُّجَى تَائهَانِ!
وَيَدَاهُ لَقَامَةِ الزَّمَنِ الأَعْ ... رَجِ عُكّازَتَانِ مَشْدُوخَتَانِ!
ضَمَّ إِحْدَاهُما وَلَوَّحَ بِالأُخْ ... رَى لِوَادٍ مُخَدَّرٍ نَعْسَانِ
فِيهِ نَهْرٌ مِنَ الدُّمُوعِ، وَجُبٌّ ... مُترَعٌ بِالأَنِينِ وَالأَشْجَانِ
وَقلوبٌ أَقَلَّهَا بَيْنَ جَنْبَيْ ... هِ سَفِينٌ يَجْرِي بِلاَ رُبَّانِ
وَاِلهَاتٌ، مُجَرَّحَاتٌ، حَزَانَى ... مَزَّقَتْهَا فَوَاجِعُ الأَزْمَانِ
بَيْنَهَا ثَاكلٌ، وَآخَرُ شَجَّتْ ... هُ يَدٌ لِلأَسَى بَغَيْرِ سِنَانِ
وَشَقِيٌّ يَسُوقُهُ نَحْسُ دُنْيَا ... هُ إلى مَرْفَأٍ شَقِيِّ الْمَكَانِ
وَيَتِيمٌ، وَبَائِسٌ، وَغَريبٌ ... وَشَرِيدٌ مُقَطَّعُ الأَرسَانِ وَمُنَادٍ دَعَا الأَمَاني فَصَدَّت ... هُ! وَعَادَتْ إليه بَعْدَ الأَوَانِ
وَحَبِيبٌ أَرْدَتْهُ فِي لَهَبِ الأَسْ ... قَامِ وَالسُّهْدِ صَرْعَةُ الْحِرْمَانِ
وَطَعِينٌ بِخِنْجَرِ الظُّلمِ بَاكٍ ... دَفَنَتْ نَوْحَهُ يَدُ الطغْيَانِ
أَرْعَشتنِي السَّفِينُ وَاسْتَلَبَ الأَشْ ... يَبُ وَعْيِي، رَبَّاهُ مَاذَا دَهَاني؟
فَتَهَاوَيْتُ كالْهَشِيمِ عَلَى أَشْ ... لاَءِ رُوحِي الْمُفَزَّعِ الأَسيَانِ!
ثمَّ نَادَيْتُهُ فَأَمْعَنَ فِي الصَّمْ ... تِ قَليلاً وَصَاحَ بِي: مَنْ دَعَاني؟
قُلْتُ: رُوحٌ مُعَذَّبٌ! قَالَ: مِنْ أَيْ ... نَ؟ فقُلْتُ: الأَسَى إليكَ رَمَاني
عَلّنِي أَسْتَقِي الْهُدُوَء، وَأَلْقَى ... بَيْنَ كفَّيْكَ رَاحَةَ السُّلوَانِ!
قَال: أَقْبِلْ فكمَ بدُنْيَاكَ صَرْعَى ... شَرِبُوا مِنْ يَدِيَ رَحِيقَ الْحَنانِ
فَتَلاَشَتْ دُمُوعُهُمْ، أرَأَ يْتَ الشَّ - كَّ تُبْلِيهِ ثورة الإيمَانِ!
َواْسَتطارَتْ شُجُونهُمْ أَرأَيْتَ الطَّي - فَ تَطْوِيِهِ هَبَّةُ الوَسْنَانِ!
قُلْتُ: مَنْ أَنْتَ؟ قال: رُؤْيا خَيَالٍ ... كلُّ حَيٍّ عَلَى الوُجُودِ رَآني!
أَنَا مَعْنًى فِي خَاطِرِ الْغَيْبِ ذَابَتْ ... حَوْلَ أَسوَارِهِ جَمِيعُ الْمَعَاني
أَنا كَهْفٌ مُغلَّفٌ فِي حَشَا الدَّهْ ... رِ يَشِعُّ الْفَنَاءُ مِنْ جُدْرَاني
غَلْغَلَتْ فِي ثَرَايَ دُنْيَا الشّقِيِّ_ينَ، وَلاَ ذَا الوُجُومُ فِي أَرْكاني
وَارْتمَتْ حَوْلِيَ الْحُظُوظُ التَّعِيسَ ... اتُ وَنَامُ الْعَذَابُ فِي أَحْضَاني
مَدْفَنُ لِلْخُطُوبِ قلْبي، وَمَنْفًى ... أَبَدِيٌّ لِنَكْبَةِ الحَدَثَانِ!
أَنَا طِبُّ الأيَّامِ أَشْفِي جِرَاحَا ... تِ الزّمَانِ الْمُرَزَّإِ اللَّهْفَانِ
أَنَا بَحْرُ الْهُدُوءِ مَنْ مَلَّ دُنْيَا ... هُ رَمَي عِبْأَهَا عَلَى شُطْآنى
مُنْذُ مَا دَبَّتِ الْخَلاَئِقُ حَوْلِي ... لَقَّبَتنِي السَّمَاءُ (بالنِّسْيَان)
فَنَسَيْتُ الحَيَاةَ وَالْمَوْتَ مَا أَدْ ... رِى أَحَيٌّ أَنَا هُنَا أم فَانِ؟!
مَرَّ بِي (آدَمٌ) قَدِيماً فَأَوْمَأَ ... تُ إليه بِطَرْفِ هَذَا الْبَنَانِ
فَسَقَي قَلْبَهُ مِنَ النَّهْرِ كَأساً ... وَتَلاَشَى عَنْ أَعْيُنِي في ثَوَاني
وَإِذا بِي أَرَاهُ يَهْتِكُ سِرَّ الْ ... خلْدِ في غَيْرِ هَدأَةٍ أو تَوَانِ
مَالَ بِالدَّوْحَةِ الَّتِي قَدَّسَ الل ... هُ جَنَاهَا فَلَمْ تَنَلْهَا يَدَانِ وَجَنَى مِنْ ثِمَارِهَا هَذِهِ الدُّنْ ... يَا وَأَحْدَاثَ هَذِهِ الأَكْوَانِ
عَبَّ خَمْرِي فَأَذْهَلَتْهُ عَنِ الْغَيْ ... بِ وَأَقْصَتْهُ عَنْ ظِلاَلِ الْجِنَانِ!
لَيْتَهُ لَمْ يَذقْ رَحِيقِي وَلَمْ يَهْ ... رَعْ لِنَهْرِي وَلَمْ يُطَاوِعْ بَنَاني!
أَنَا سِرُّ الوُجُودِ مَنْ رَامَ سِرِّي ... نَسِيَ الْحَشْرُ قَلْبَهُ في جَنَاني. .
قلتُ: يَا حَادِيَ الْخَطَايَا لِقَبْرٍ ... مَرَدَتْ رُكْنَهُ يَدُ الْغُفْرَانِ!
يَا هَوَايَ الَّذِي تَهَافَتُّ بِالرُّو ... حِ عَلَيْهِ وَبِالْحِجَا وَاللِّسَانِ
أَيْنَمَا سِرْتُ جَرَّ طَيْفكِ أَحْلاَ ... مِي وَمِنْ نَهْرِكَ الْمُصَفَّى سَقَاني
مُنْذُ مَا جِئْتُ لِلثّرَى وَأَنَا صَبُّ ... كَ فَارْحَمْ عِبَادَتي وَافْتِتَاني!
مَزَّقَتْنِي أَشْوَاكُ دُنْيَايَ وَاغْتَا ... لَتْ شَبَابي وَأَزْعَجَتْ أَلْحَاني!
الْهَوَى وَالنَّشِيدُ - يَرْعَاهُما اللَّ ... هُ - بِتِيِه الْخُلودِ قَدْ ضَيَّعَاني!
تَرَكاني أَهِيمُ كالْعَاصِفِ الْمَش ... دُوهِ فِي كلِّ بُقْعةٍ وَمَكانِ
لاَذَ عُمْرِي بِشَاطِئَيْكَ فَدَعْنِي ... فِي ثَرَاكَ الْغَرِيبِ أَدْفِنْ زَمَاني
فَتَمَطَّى فَزَلْزَل الأَرْضَ تَحْتِي ... وَطَوى الصَّمْتَ فِي الفَلاَ إذْ طَواني
محمود حسن إسماعيل