مجلة الرسالة/العدد 395/اللورد روبرت بادن باول
→ عرابي الفلاح | مجلة الرسالة - العدد 395 اللورد روبرت بادن باول [[مؤلف:|]] |
من وراء المنظار ← |
بتاريخ: 27 - 01 - 1941 |
الكشاف الأعظم العالمي
للأديب خميس زهران
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
انطلق بادن باول ومعه زميله إدوارد سيسل لتنفيذ التدابير التي ارتأياها. فوضع كل المتدربين في خط القتال وأخذ يجمع الأحداث الذين تتراوح أعمارهم بين 12، 16 سنة منهم فرقة ألبسها الزي العسكري وعهد إليهم ببعض الأعمال مثل نقل البريد والمؤونة والإشارات وحراسة المخازن وغير ذلك من الأعمال التي تحتاج إلى نشاط أكثر من احتياجاتها إلى تمرين (لقد كانوا فتياناً لا يسددون الرماية، ولكنهم كانوا يركضون حولنا كالأرانب). وشرع هو ورجاله في حفر الخنادق حول المدينة لتكون بمأمن من الأعداء.
(كان لكل رجل قيمة وبما أن عددهم أخذ في النقصان شيئاً فشيئاً بسبب سقوط القتلى والجرحى، أصبحت واجبات القتال والمراقبة ليلاً أصعب من الباقين. ثم أن اللورد إدوارد سيسل رئيس أركان الحرب جمع الأولاد في المكان وجعل منهم فرقة تلامذة حربيين وألبسهم وشرع في تدريبهم وأصبحوا بعد حين جماعة لبقية منظمين، وكنا حتى ذلك الحين نستعين بعدد وافر من الرجال لحمل الأوامر والرسائل والمراقبة وأمثال ذلك. فأضحت هذه الواجبات الآن على التلامذة الحربين وذهب الرجال لتدعيم خط النار.
ولقد أدى هؤلاء الأولاد تحت رئاسة (جوديير) أعظم خدمة واستحقوا الأوسمة التي نالوها عند نهاية الحرب. كان معظم هؤلاء يحسن ركوب الدراجة، لذلك تمكنا من تأسيس بريد، استطاع الناس بواسطته إرسال الخطابات إلى رفاقهم الموجودين في مختلف القلاع أو حول المدينة دون أن يعرضوا أنفسهم لخط النار. وجعلنا لهذه الرسائل طوابع بريد رسم عليها صورة تلميذ حربي يركب دراجة.
قلت لأحد الأولاد مرة عندما جاء تحت وابل من النيران: ستصاب يوماً وأنت تركب على هذه الصورة والشرر يتطاير من كل صوب. فأجاب: سيدي إنني أنطلق سريعاً بالدراجة ولن يستطيعوا الوصول إليَّ.
يظهر أن هؤلاء الأولاد لم يفكروا في القذائف قط كانوا دائماً على استعداد لتنفيذ الأوامر مع أن الخطر كان منهم على قاب قوسين أو أدنى. وهكذا صارت المدينة في حركة ونشاط متواصلين وقد سرت في نفوس الجميع روح الثقة والأمل.
فإن نعجب فلنعجب لهذا الساحر كيف أوتي هذه الجاذبية المدهشة التي سرعان ما أحالت الحامية خلفاً جديداً وأشاعت في جنودها النشاط والرغبة في العمل.
وحدث في تلك الأثناء حادث طريف يدل على ذكائه الفطري فقد نصب أعلاماً سوداء حول المراعي الخضراء موهماً العدو أنها ملأا بالمفرقعات والألغام لكي يتقي شر الإغارة عليها ولتبقى سليمة ترعى فيها إبله وماشيته وهما قوام حياة جيشه المحاصر. فلما رأى جنود العدو هذه الأعلام ساروا في طريقهم ولم يصوبوا أفواه بنادقهم ولا قذائفهم صوب هذه المراعي خشية انفجار المفرقعات المهلكة والتي ظنوها شراكاً منصوبة لهم. ومما ساعد على نجاح خدعته هذه أن حدث أن الأعداء أطلقوا أعيرتهم النارية على إحدى عربات السكك الحديدية ظانين أن بها بعض رجال الحامية الإنجليزية ولم يكن بها إلا مفرقعات حقيقية فما لبثت أن تطايرت الشظايا والمفرقعات فأصابت المئات منهم. وهكذا سنحت الفرصة لرجال الحامية الذين هجموا على الأعداء فأدخلوا الذعر في قلوبهم وجعلوهم يلوذون بالفرار
تلك واقعة واحدة سقناها للتدليل على شجاعة بادن باول في تلك الحرب التي استمر لظاها مدة 280 يوماً وانتهت بأن طلب قائد الجيش البويري الصلح حقناً للدماء معترفاً بما أبدته تلك الحامية الضئيلة العدد من البسالة الفائقة والمقدرة النادرة
ولنترك الآن روبرت نفسه يصف الحالة أثناء الحصار بتلك الجمل التي خاطب بها رجال حاميته مفكنج بعد أن فك الحصار عنها ومودعاً لهم (لقد كان مثلنا إبان ذلك الحصار كمثل أسرة سعيدة واحدة، والآن جاء وقت الفراق. إني أذكر أني قلت لكم يوم أن حوصرنا وتقطعت بنا الأسباب: اربضوا ربضة الأسود. صوبوا إلى المرمى بنادقكم. ولقد قمتم بذلك خير قيام فكانت النتيجة ما ترون. ولقد أثنوا على شخصي الضعيف، ولهجت الألسن بذكري والثناء عليّ الثناء كله وفاتهم أنه من السهل أن يكون المرء ربان سفينة ونسوا الحامية التي هي شراع السفينة مفكنج التي أخرجتها من العواصف القاصفة والزعازع المتلفة وأوصلتها إلى الميناء بسلام)
كل هذا حدث بفضل بادن باول الذي كان الناس يشكون في نجاحه في هذا الحصار ولكنه بجده ونشاطه ومثابرته على العمل وإيمانه بقدرته على النصر تمكن من التغلب على الصعاب التي اعترضته وفاز بنصر مبين رفعه إلى أوج المجد والشهرة
حياة بادن باول الملأ بالمجازفات والأخطار وما شاهده من بطولة الصغار في ظروف عدة وما لديهم من قوى كامنة تدفعهم لاختراق النيران بغية القيام بالواجب، وجعل الجنود بمعرفة الاتجاهات واستعمال الفؤوس في الغابات، وجهلهم أيضاً إيقاد نار في يوم اشتدت فيه الرياح أو هطلت فيه الأمطار: كل هذه أوحت إليه المبدأ الذي نسير عليه
فلما وضعت حرب البوير أوزارها إلى السير روبرت بادن باول على نفسه أن ينشر نظام الفتية الصغار بطريقة أوسع وأنظم في بريطانيا العظمى إذا ما ألقى عصاه بها. ولما رجع إلى وطنه لم يأل جهداً في تنفيذ فكرته فأقام معسكراً تدريبياً في جزيرة صغيرة تسمى برونس ونجح نجاحاً جاوز الآمال فيه. شجع نجاح ذلك المعسكر السير روبرت بادن باول على المضي قُدُماً فجاهر بفكرته وأعلنها للملأ؛ فندَّد بها الاستعماريون لما فيها من إخاء عالمي ولما تحويه من إزالة للفوارق الصناعية بين الإنسان وأخيه الإنسان؛ وازدراها الاشتراكيون لأنهم توهموها عسكرية مقنعة ليس فيها لخير الإنسانية من شيء، وسخر كثير من زيها ورأوا فيه خروجاً عن اللياقة وضرباً من التصابي، فصمد لهم جميعاً وصابرهم إلى أن أصدر كتابه في ربيع سنة 1908 وقد وجه فيه الخطاب للفتيان أنفسهم فأقبلوا عليه إقبالاً عظيما والتهموا ما فيه التهاماً، وانخرطوا في سلك الحركة مؤمنين بمبادئها مصدقين بتعاليمها
وفي عام 1910 أسست الكشافة ليتعلم فيها معتنقوها الصبر واحتمال المكاره والاستمساك بالعقيدة والاستهانة بكل شيء في الحياة عداها، ويلقنهم البساطة والحياة الطبيعية لتطهر نفوسهم من الأطماع ولتخلص من الدسائس والهواجس فيجتمع لكل أبنائها إرادة قوية وعزم من حديد، فإذا اجتمع للإنسان الإرادة وطهرت نفسه وقوى إيمانه بفكرته فمن ذا الذي يستطيع أن يقف في طريقه؟
وعاش الكشافون عيشة التقشف: ألم يعش الخلفاء الراشدون عيشة الفقر وأملاك دولتهم تمتد وتتسع، ورقعة إمبراطوريتهم تعظم وتترامى؟ ألم يكن رداء عمر (مرقعة) ذهب أصلها وبقيت رقعها وجيوش المسلمين تهد إمبراطورية الروم؟ ألم يرسم محمد ﷺ للقادة والزعماء وأصحاب الرسالات والمبادئ والعقائد دستوراً جليلاً حكيما حين قال: (طوبى لمن أنفق مالاً اكتسبه من غير معصية، وجالس أهل الفقه والحكمة، وخالط أهل الذل والمسكنة. اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً وأدخلني في زمرة المساكين). اتخذ بادن باول لجماعته زيَّا خاصاً خاكي اللون رخيص الثمن بسيط المظهر؛ وشجعهم على عقد الاجتماعات والقيام بالرحلات والمخيمات، وعلمهم الاقتصاد في معيشتهم، وعودهم إلى الأخوة في مأكلهم ومشربهم، والمحبة في معاملاتهم والإخلاص في صداقتهم، ومنعهم عن التدخين وشرب الخمور، وحرم عليهم الفسق والفجور، ليحفظ لهم صحة أجسادهم وقوة أبدانهم وسلامة عقولهم وبارز شخصياتهم ووافر كرامتهم. لم يكن وقت التمرين قاصراً على التربية البدنية، بل تعداها إلى التربية الروحية؛ فأقام المخيمات التدريبية لبث الروح العسكرية فيهم، وألقى المحاضرات التاريخية ليزيدهم تعلقاً بكل ما هو قومي، ومحبة لكل ما هو وطني، وأذكى فيهم شعلة الحماس بالأغاني القومية والأناشيد الوطنية. ويعزي السبب في انتشار الكشافة إلى إيمان بادن باول وعقيدته في صحة ما يدعو إليه. ولا غرو، فإن أصحاب المذاهب والمبادئ الاجتماعية الكبرى التي أثرت في تاريخ العالم وغيرت مجراه لم يتمكنوا من جذب النفوس إلى مبادئها إلا بعد أن ثملوا بخمرتها، وبذلك أمكنهم توليد تلك القوة العظيمة الأثر في النفوس، ألا وهي الإيمان، وهي التي تجعل المرء عبداً لمذاهبه.
وقد تزوج اللورد روبرت بادن باول في أكتوبر سنة 1913 بمس أوليف ورزق منها ولداً وإبنتين، وانتخب كشافاً أعظم للعالم في أول معسكر دولي أقيم في إنجلترا سنة 1920، ولقد أنعم عليه صاحب الجلالة ملك بريطانيا العظمى جورج الخامس عام 1930 بلقب لورد جزاء وفاقاً على قام ما به من عمل جليل. وكرمته جامعة ليفربول ومنحته لقب دكتور في القانون ولقد جمع اللورد بادن باول خريجي معهد جلويل بارك المخصص لتدريب معلمي الكشافة على فنونها المختلفة نظرياً وعملياً، وهو قصر فخم وسط ضيعة كبيرة في مقاطعة اسكس بالقرب من لندن وسألهم أن ينتخبوا اسمه الجديد الذي يضاف عادة بعد اللوردية فأجمعوا على جلويل فاغتبط به وأظهر ارتياحه
فبادن باول رجل خليق أن يعلم عنه شيئاً وأن يشغل حيزاً في ذاكرة كل فرد منا ومكانة في نفس كل واحد؛ ولا غرو إذا تقدمنا لقراء الرسالة بسيرة هذا البطل إعجاباً بهذا الطراز الجديد من الرجال وهم الذين لم يشهدوا في عصرنا غير رجال مزيفين من الحواشي. رجال أو أشباه رجال ولا رجال ممن لم يحذقوا غير التخنث والأناقة ولم يبرعوا في غير الخبث والمكر ومضغ الكلام وتزجيج الحواجب! أو بالاختصار رجال من أولئك الذين تلقى بهم المصادفة في طريق العظماء وتأتي بهم الظروف إلى مجالس الأمراء وأهل الخطر والشأو البعيد. وما أوسع المسافة بين أمثال هؤلاء وبين هذا الرجل النبيل العزيز الجانب الذي تعبق منه روائح المعسكر والخيام كما يعبق منه أريج المخدع والصالون! رجل وأي رجل!
من كان يدور بخلده أن صبي فرنسا وصبي استراليا وصبي مصر وصبي أمريكا يتلاقون في مكان واحد: لا يفرقهم جنس ولا تنفرهم ديانة ولا تبعدهم لغة أو سياسة؟ ومن كان يتوهم ولو على سبيل التفكهة أو المداعبة أن ابن مصر الشرقي الناطق بالضاد تأخذه العصبية الكشفية فينهض إلى منافسة ابن التاميز الغربي في اعتناق مذهب التربية الحديث
إنها آية للكشف وإنها معجزة بادن باول أن يأتلف الشباب حول المبادئ الكشفية، وإن شئت فقل إنها مبادئ الشباب الحديث الذي يريد أن يرث الأرض جميعاً لا فرق عنده بين وطن وغربة
إن شئت فقل عنها إنها آداب المعاشرة وآداب المؤاكلة وآداب العائلة وآداب الإنسانية وآداب المجتمع الراقي وآداب الحياة الصحيحة الخالية من شوائب السعادة. فما أعذبها مبادئ لو أن السياسة تتركها وشأنها في الدنيا دون أن تعكر لها صفو أو تكدر لها مجتمعاً
إنما هي في الواقع توحيد لنظم التربية وعامل قوي لإزالة الفوارق، لكن أنى للكشف وغير الكشف أن يزيل الفوارق وفي الدنيا من جنود الشيطان أضعاف أضعاف بني الإنسان
رحمك الله يا جبار الكشف وأنعم بك من مرب حطم القيود وزحزح العقبات من طريق مبادئه الصحيحة!
هاهي ذي الفقرة الأخيرة من رسالته التي أذاعها لأبنائه كشافي العالم من روديسيا: (لقد عشت جندياً ثم كشافاً، أما المرحلة الثالثة من حياتي فتتوقف على ما يريده لي الأطباء) ذلكم هو المرحوم الدكتور روبرت بادن باول ولورد جلويل وملك قلب كل كشاف، فرحمه الله رحمة واسعة
خميس زهران
زعيم جوالة بإسكندرية