مجلة الرسالة/العدد 393/مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
→ الضحية | مجلة الرسالة - العدد 393 مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية [[مؤلف:|]] |
الذوق الفني في مصر ← |
بتاريخ: 13 - 01 - 1941 |
مطالعات في الكتب والحياة
لعباس العقاد
للدكتور زكي مبارك
- 9 -
موضوع الدرس في هذه المرة هو كتاب المطالعات في الأدب والحياة للأستاذ عباس محمود العقاد عضو المجمع اللغوي، وهو كتاب يقع في أربع وعشرين وثلاثمائة صفحة بالقِطع المتوسط، وقد نشرته المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة، وثمنه خمسة عشر قرشاً. والنسخة التي أنقدها هي الطبعة الثانية، ولهذه الإشارة معنىً، فهي تشهد بأن هذه الكتاب نال بعض ما يستحق من النباهة والذيوع.
شخصية المؤلف
العقاد أديب منوَّع المواهب: فهو كاتب وشاعر وناقد وخطيب، على تفاوت في هذه الأوصاف لا يوجبه التقصير أو نقص الأدوات، وإنما يوجبه التفات هذا الأديب إلى بعض الفنون أكثر من التفاته إلى البعض، فهو كاتباً أقوى منه شاعراً، لأن ذهنه ارتاض على التعبير بالترسل، أكثر مما ارتاض على التعبير بالقريض.
ودرس اليوم لا يتصل بمواهبه الشعرية والخطابية، وإنما يتصل بمواهبه النثرية والنقدية، فمن هو بين الكتاب والنقاد؟
للعقاد في الكتابة والنقد شخصيتان مختلفتان كل الاختلاف: فالعقاد الكاتب السياسي يَرِمي ويرمَى، ويَظِلم ويظلَم، في كل وقت، فهو من أبناء السماء عند قوم، ومن أبناء الأرض عند آخرين. أما العقاد الكاتب الأدبي فهو من الطبقة الأولى بشهادة الجميع.
والعقاد الناقد لا ينحرف عن القصد إلا في حال واحد، حال الحكم على من يعاديه من المعاصرين، أما حكمه على المفكرين الذين بَعُد عهدهم في التاريخ فهو في غاية من العدل والسداد، وقد يصل به الرفق إلى المبالغة في إظهار المحاسن وإخفاء العيوب.
وانحراف العقاد في كتاباته السياسية والنقدية يشهد بأنه سليم الشخصية، مدلولُ خاصّ، هو اكتمال الحيوية والإحساس، فالعقاد يصادق بعنف، ويعادي بعنف، فأصدقاؤه ملائكة ولو كانوا شياطين، وأعداؤه أبالسة ولو كانوا ملائكة مقربين. وهو مستعد لخوض النار مع أصدقائه إن أوجب الوفاء أن يشاطرهم عذاب الحريق، أما أعداؤه فهو لهم بلاءُ وعناء، وهو يلقاهم في السر والعلانية بأقبح ما يكرهون.
وقد شاع وذاع أن العقاد رجلُ حقود، وهو كذلك، فالحقد من كبريات الفضائل في بعض الأحايين، وقد نُجزَي عليه خير الجزاء يوم الحساب، فالله أحكم وأعدل من أن يعاقبنا على تأديب من يحاولون الغض من أقدارنا الأدبية وهم جهلاء!
ما نظرت في شراسة العقاد مع خصومه إلا قلت: هذا رجل، والرجال قليل
وما نظرت في سماحة العقاد مع أصدقائه إلا راعني ما في طبعه من بشاشة وأريحية، فهو لهم عماد في جميع الظروف، وهم من أُخوَّته الوفيَّة في أُنسٍ أنيس
والواقع أن الرجولة لها تكاليف، وهي تجشّمنا مصاعب لا تخطر لأحد من الضعفاء في بال، فالرجل الحق هو الذي يقدر على الضر كما يقدر على النفع، أما المخلوقات (الرقيقة) التي تحاكمنا إلى شريعة (الأخلاق) في كل ما نكتبُ وفي كل ما نقول فهي شخوصُ بوائد خلَّفها التاريخ، كما يخلّف النهر العارم أو شاب العشب المعطوب.
الرجولة الحق تَفرض الشجاعة الحق، ولا تتم الشجاعة لرجل إلا إذا جاز أن تصل به أحياناً إلى التهور والجنون، لأن ضبط النفس لا يتيسر في كل وقت، كما يتيسر لبعض من يفهمون أن الرجل (الصالح) للانتفاع بالمجتمع هو المخلوق (المصقول)!
وما قيمة القلم إن لم نَخِزْ بسنانه عيون المتعالمين والمتعاقلين من حين إلى حين؟
وما حظ الأمة في أن يتخلق جميع أبنائها باللُّطف والظُّرف؟
أعاذنا الله من زيغ البصائر في هذا الزمن المخبول!
مطالعات العقاد في الكتب والحياة
العقاد في هذا الكتاب ناقد وكاتب، وقد خلص من الشوائب التي تعرِض له في بعض كتاباته النقدية أو السياسية، خلص خلوصاً مبيناً، فهو لا يلتفت إلى ما يحيط به من أحقاد الساسة أو ضغائن الأدباء، وإنما يخاطب العقل وجهاً إلى وجهه، ويسمو بنفسه إلى طلب المنزلة بين أهل الخلود.
والعقاد من هذه الناحية أقدر من طه حسين على ضبط النفس. نجد العقاد يقول في هامش بعض الفصول (من مقال نشِر في البلاغ) فما المراد من عبارة (من مقال)؟
كان المقال في الأصل يحوي فكرة باقية أضيف إليها التحامل على أحد المعاصرين، وهو حين يجعل مثل هذا المقال فصلاً من كتاب يحذف الجزء المشوب بالتحامل ويكتفي بالجزء الذي يصور فكرة باقية، ومن أمثلة ذلك ما صنع العقاد في كتاب (الفصول) ففي ذلك الكتاب فصل عن (المتأنقين)، وهذا الفصل أنشأه العقاد للسخرية من سعادة الأستاذ (أحمد لطفي السيد باشا)، ثم رأى أن يحذف تلك السخرية من جانبها الخاص، وأن يكتفي بجانبها الأصيل، وهو احتقار التأنق في تناول عظائم الشؤون.
أما الدكتور طه حسين بك فقد أساء إلى نفسه وإلى تاريخه حين عجز عن تهذيب مقاله عن (عنترة بن شداد) في الجزء الأول من الطبعة الثانية لكتاب (حديث الأربعاء) ففي ذلك المقال تعريضُ قبيح بمعالي الأستاذ عيسى باشا، وسيسأل الناس في المستقبل عن الموجب لذلك التعريض القبيح، لأنه لا يصدر عن رجل يتسامى إلى الأستاذية في الأدب والأخلاق.
وما أعيبه على الدكتور طه أعيبه على نفسي، فقد أثبتُّ في الطبعة الثانية من كتاب البدائع فصلاً دميماً عن (طه حسين بين البغَّي والعقوق) وهو فصل عانيتُ من شؤمه ضروباً من العقابيل، وعرَّضني لمكاره ومتاعب لم أدفع شرها إلا بنضال عنيف.
ومن أعجب العجب أن يكون عباس العقاد أقدر على ضبط النفس من زكي مبارك وطه حسين!
الشجاعة الأدبية
يمتاز كتاب المطالعات بالشجاعة الأدبية، فما المراد من ذلك؟ أيكون المراد أن العقاد يبطش ذات اليمين وذات الشمال بلا تدبُّر للعواقب؟
أيكون المراد أن العقاد لا يبالي ما عليه الناس من عقائد وتقاليد؟
لا هذا ولا ذاك، فالعقاد في هذا الكتاب يساير الناس يساير العُرف إلى أبعد الحدود، وإنما المراد أن العقاد يثور على العوامّ بقوة وعنف، والعوامّ في هذا المقام ليسوا هم الطبقة العديمة العلم والمعرفة من التجار والزُّراع والصناع، وإنما هم طبقة المثقفين من أبناء الجيل الجديد، والعقاد لمُ يضف هذه الطبقة إلى العوام بصريح المقال، وإنما أضافهم إليها بلسان الحال.
وتظهر هذه الشجاعة فيما كتب العقاد عن (المرأة) فكلامه في هذا الموضوع الدقيق لا يصُدر إلا عن الملهَمين، ولو شئت لقلت إنه فَصَل في هذه المشكلة بما لاُ يبقى مجالاً لأحد من بعد، فقد استوفى الموضوع من أطرافه بكلام مُحكم سديد، وهو من أقدر الكاتبين على الغوص في أعماق المعضلات.
(خيانة المرأة لا تعاب على المرأة)
هذا كلام غريب، ولكن العقاد يفسره تفسيراً صحيحاً، فتلك الخيانة المرذولة لها وجه جميل هو الوفاء للحياة.
(غرام المرأة بالمال فرع من غرامها بالشباب)
هذا أيضاً كلام غريب، ولكن العقاد يفسره تفسيراً صحيحاً فقد كانت القدرة على اكتساب المال من أقوى الشواهد على الرجولة في جميع الأزمان.
(المرأة دون الرجل في جميع الأوصاف وهي لا تقدر أبداً على القيام بما يقوم به الرجال)
وهذا كلام أغرب من سابقَيْه، ولكن العقاد يقف موقف النمر الشرس ويقول:
(إننا في عصر يميل إلى محاباة المرأة فيما يكتب عنها من آراء فلسفية كانت أو اجتماعية، لأن آداب الأندية توشك أن تبغي على آداب الكتابة ومباحث الفكر، فيحبس الكاتب قلمه عن كل ما يغضب المرأة ولا يوافق دعواها، كما يحبس لسانه عن ذلك في أندية الأنس ومجالس السَّمر، ويكتب حين يبحث في مسائل الاجتماع بقلم السمير الظريف لا بقلم الناقد الأمين)
ثم يجعل السذاجة والبلاهة والغفلة من نصيب المتظرفين الذين يحكمون بأن المرأةُ ظلمتْ فيما سلف من عهود التاريخ.
والحق أن أنصار المرأة لم يكونوا إلا رجالاً ضعفاء، فهي لم تخلَق إلا لغاية واحدة، هي بقاء النسل، وهي لم تقدر ولن تقدر على مباراة الرجال في جلائل الأعمال.
وكيف تستطيع ذلك وهي قد أشركت بوظيفتها الأنثوية؟ الرجل هو الذي يخلق المرأة، يخلقها على هواه، ويتمثلها كائناً حياً له مآرب وأغراض، وهي أمام العقل دُمية مصنوعة لاُ تفصِح ولاُ تبين بعد ذلك الشّرك الدميم المرأة الصحيحة هي المرأة التي عرفها الآباء والأجداد، المرأة الطبيعية التي أوحت ما أوحت إلى الفنانين والشعراء، يوم كانت مخلوقاً له قلب خفاق، وروحُ حنّان.
أما المرأة اليوم فهي مخلوق سخيف، لأنها تطلب ما لا ينبغي لها من الحقوق، وهي لذلك تافهة القيمة، سقيمة الإدراك.
وتعرَّض العقاد للمرأة من جميع نواحيها فأسمعها ما لا تحب أن تسمع. ومن المؤكد أن العقاد كتب عن المرأة ما كتب وهو في عافية، لأن الرجل لا يغايظ المرأة إلا وهو فحل، لأنه حينئذِ يثق بأنها ستُجذَب إليه ولو ضربها بأعنف السياط.
وقاسم أمين لم يكن في أول من أنصار المرأة، وإنما كان عدوَّ المرأة، فلما ضَعُف تظرَّف وصاغ لها عقود الثناء!
ورُوَّاد (الصالونات) في البلاد الغربية لم يكونوا من الفحول، وإنما كانوا من الظرفاء، ولو كانوا فحولاً لتغيًّر مركز (المتحذلقات) في التاريخ
وخلاصة القول أن التلطف مع المرأة يجب أن يكون فَّنا من فنون الغَزَل الخدّاع، فالدمع في عين العاشق هو السم في ناب الثعبان، والثعبان يخدّر فريسته بالسم كما يخدّر العاشق فريسته بالدمع. والاغتيال من ضروب القتال!
لحظات الصفاء
وللعقاد في كتابه هذا لحظات صفاء، وأظهر تلك اللحظات هي اللحظة التي كتب فيها مقالة (بين الله والطبيعة) أو (بين التاريخ الغابر والحاضر المشهود). فالعقاد في هذه المقالة قد ارتفع إلى آفاق السماء، ولو لم يكتب غير هذه المقالة لكانت سلّمة الأمين إلى معارج الخلود.
كتبها وهو في أُسوان، وقد نشأ هذا الأديب في أُسوان، ولعل نشأته في تلك المدينة تفسّر ما فطِر عليه من الهيام بالفنون
هي مقالة عجيبة في المعنى والأسلوب، مقالة كاتب راعته زُرقة السماء في أسوان، ومن لم ير زُرقة السماء في أسوان فلن يغنيه الزعم بأنه رأى جمال الطبيعة في سائر بقاع الأرض.
ولو جُمع ما أوحت أسوان إلى العقول والأحلام في مختلف اللغات لكانت منه ثروة تَرُوع وتَهُول.
وقوة العقاد في هذه المقالة تستر ضعفه وهو يصور إحساسه حين وقف (على معبد إيزيس) فالفرق بين المقالتين بعيد، لأن الكاتب كان انتزف قوته في المقال الأول فهمد في المقال الثاني، والُقوي الإنسانية لها حدود.
المتنبي في كتاب المطالعات
انساق العقاد إلى الكلام عن المتنبي وهو يدرس رسالة الغفران للمعري، فكانت فرصة لتشريح بعض الجوانب من ذلك الشاعر الصوَّل.
وتظهر دقة النظر عند العقاد في أكثر ما كتب عن المتنبي، فالأدباء يرون تَسامي المتنبي إلى المُلك من شواهد العظمة النفسية، أما العقاد فيرى ذلك التسامي ضرباً من الخذلان، لأن المتنبي أخطأ حين (ظن أن السموْ لا يكون إلا بين المواكب والمقانب، وأن النبالة لا تصح إلا لذي تاج وصولجان وعرش وإيوان).
ثم انتهى العقاد إلى أن المتنبي المخذول في طلب المُلك صار على الزمن (أظفر ما يكون خائباً وأخيب ما يكون ظافراً). فهو (ليس بملِك ولا أمير ولا قائد ولا صاحب جاه، ولكنه فخر العرب وترجمان حكمتهم، والرجل الفرد الذي نظم في ديوان واحد ما نثرته الحياة في سائر دواوين التجارب والعظات)
وهذا كلامٌ نفيس جداً، ولكنه يحتاج إلى تعقيب، فانحراف المتنبي في فهم العظمة الذاتية هو السبب في ما صار إليه من العظمة الباقية على الزمان.
المتنبي قضي دهره في طلب المُلك، ولو عَقَل لأدرك أن الشاعرية الحق أبقى على الزمن من المُلك.
ذلك ما يريد العقاد أن يقول، ولكن ما رأيه إذا حدثناه أن ذلك الانحراف هو الذي أوجب أن يولع المتنبي بدرس أوهام العوامّ والخواصّ؟ ما رأيه إذا حدثناه أن تلك النزعة المنحرفة هي التي فرضت على المتنبي أن يدرس الموارد والمصادر من أخلاق الناس وأن يوغل في التعرف إلى ما هم عليه من هدى وضلال؟
لو أعفى المتنبي نفسه من طلب المُلك لوقف عند الخالص الصريح من أوطار النفس وأهواء الوجدان، فكان صورة ثانية من البحتري شاعر الروح الصداح والقلب الطروب.
طلبُ الملك غَّير ما بنفس المتنبي فنقله من أفق إلى آفاق، وحوله إلى رجل طُلَعة لا يهمه غير درس المستور من أصول الوشايات والأراجيف، وحوّله أيضاً إلى رجلِ طاغية باغية لا يتذوق معاني العطف والإشفاق.
وهل عرف الناس قلباً أقسى من قلب المتنبي، المتنبي الثائر على الناس والزمان؟
يجب أن يُفصل نهائياً في هذه القضية، فأدب المتنبي من صور اليأس العصوف، وليس من صور الأمل العطوف، وهو لذلك خليق بأن ننظر إليه بحذر واحتراس.
حظ المتنبي من الشعر الوجداني حظ ضعيف، فما سبب ذلك؟
يرجع السبب إلى أن الدنيا في عين المتنبي لم تكن إلا منادح انتهاب واصطياد، والنهب والصيد يوجبان أن يبكر الرجل إلى المفاوز والآجام وهو في درع من المكر، ولثام من الدهاء.
زار المتنبي مصر وأقام فيها سنوات، فماذا رأى في مصر، وكانت لذلك العهد ما تزال عامرة بما ترك الفراعين من غرائب الفنون؟ أين بشاشة الحقول المصرية في شعر المتنبي؟
لم ير المتنبي في مصر غير وجهين اثنين: وجه الفقيه المرائي، ثم وجه النديم الخَتُول، لأن ما كان يطلبه المتنبي كانت المقادير حصرته في أيدي الفقهاء والندماء.
وقد حقد المتنبي على مصر أبشع الحقد، لأنه لم يرها إلا في وجه كافور ومن يحيط بكافور. ولو كانت الشاعرية هي التي تسيطر على أهواء المتنبي لوجد لمصر مذاقاً غير ذلك المذاق، ولكان من المأمول أن تنسيه مرابعها الأواهل وحشة الغربة والانفراد، ولكن المتنبي كان طالب ملك، أستغفر الحق، بل كان يطلب (ضَيْعة) فلم يظفر بغير الضَّياع!
ورحيل المتنبي عن مصر رحيل بغيض، فقد ثار على مصر في البادية لا في الحاضرة، وذلك يشهد بأنه لم يفكر جديَّا في تأليب الجمهور المصري على ذلك (الأستاذ)!
ماذا أريد أن أقول؟
ما يهمني النص على ما وقع فيه المتنبي من خطأ وصواب، وإنما يهمني القول بأن حرص المتنبي على طلب الملك هو الذي خلق تلك الشاعرية الطريفة، الشاعرية التي لا تعرف الهيام بالأزهار والرياحين، وإنما تعرف الغرام بالصوالج والتيجان، فتقضي الدهر في درس أسرار القصور، وفحص أخلاق الحاكمين والمحكومين.
ومن المؤكد أنه كان يجب أن يكون في تاريخ العرب شاعر من هذا الطراز الفريد، فالمتنبي إذا من الحجج البواقي على أن الشاعرية العربية موفورة الحظ من تنوع الطعوم والألوان.
ملاحظات
لا يتسع المجال لعرض ما أجاد العقاد وهو يدرس المتنبي، ولكن لا مندوحة من تقييد بعض الملاحظات، لأن لذلك فائدة في تشويق الطلاب إلى النقد الأدبي.
1 - قال العقاد: (مما لوحظ على المتنبي ولعه بالتصغير في شعره إلى حد لم يُروَ عن شاعر غيره) فأرجو أن يذكر العقاد أن أعظم الشعراء ولعاً بالتصغير هو ابن الفارض، وقد فصلت ذلك في كتاب (التصوف الإسلامي) فلا أعود إليه في هذا الحديث.
2 - حكم العقاد بأن عنصر المتنبي كان (بدعاً في العصور العربية) وقد قال مثل هذا القول في عصر ابن الرومي، فأي قولَيْه نصدَّق؟
3 - حكم العقاد بأن المتنبي (لم يفارق كافوراً إلا باختياره) فما حيثيات هذا الحكم، وفي أي كتاب قرأ أن الرجل يرحل عن بلد يحبه في ليلة عيد؟ وكيف غاب عن العقاد أن المتنبي لم يفارق كافوراً إلا بعد أن أصبحت حياته تحت رحمة العيون والأرصاد؟
4 - قضى العقاد بأن المتنبي صفح عن أبى العشائر، وقد كلف أحد الخدم باغتياله وهو سار في ظلام الليل. فعلى أي سند قضى العقاد هذا القضاء وهو يعرف أن الضغينة أقوى خلائق المتنبي؟ أيكون أستند إلى أقوال من ترجموا للمتنبي؟ وكيف وهو يعرف أن تلك الأقوال يغلب عليها الإفك والتهويل؟
5 - يرى العقاد أن التبحر في العلوم آفة يبغضها المتنبي، وحجته أن المتنبي يقول:
أبلغُ ماُ يطلَب النجاح به الطبع ... وعند التعمق الزلل
فهل كان المتنبي من الغفلة بحيث يقوهم أن التبحر في العلوم آفة إنسانية؟
هنا دقيقة لم يفطن لها العقاد، وهي ثورة المتنبي على (فيران المكاتب) كما يعبر الفرنسيون، و (فيران المكاتب) هم الذين يقولون ولا يفعلون، فإذا اقترن بالفعل، فتلك ظاهرة يرحب بها المتنبي كل الترحيب.
6 - غض العقاد من عمر بن أبى ربيعة، لأنه وقف شعره على فن واحد هو النسيب، ولو تأمل العقاد لعرف أن ابن أبى ربيعة من كبار المبتكرين، ومن عظام المغامرين، وهو عندنا أول شاعر رأى قضاء العمر في الهيام بالجمال عملاً تُنصب له الموازين.
7 - وحكم العقاد على ابن مناذر وابن الضحاك بمثل ما حكم به على عمر، فأين علمه الصحيح بمواهب هذين الشاعرين ولم يبق لواحد منهما ديوان يشهد بما له أو عليه؟ وكيف فاته التنبه إلى ما كان لهما من التأثير العميق في الحياة الذوقية والاجتماعية بالعراق؟
الظاهر أن العقاد لا ترضيه إلا أن يكون الشاعر مغرماً بتشريح الـ كما أجابني حين قلت له إن الشريف الرضي كان أولى بعنايته من ابن الرومي، فليعرف إن شاء أن الشاعر لا يفكر في إرضاء الناقدين، وإنما يفكر في تأدية الرسالة الموحاة إليه من عالم الغيب، أو عالم الطبع، ولا يهمه بعد ذلك أن يقال إنه عرف شيئاً وغابت عنه أشياء.
موقف محرج!
لم أصل إلى ما أريد في تشريح كتاب (المطالعات) للأستاذ عباس العقاد، لأن منهج هذه الدروس الاكتفاء يوجب الاكتفاء بمقال واحد عن كل كتاب، ولأن امتحان المسابقة سيكون بعد أسبوعين اثنين، فماذا أوصى به طلبة السنة التوجيهية وهم يراجعون هذا الكتاب الدقيق؟
أوصيهم بأن يذكروا أن العقاد له في كل فصل منهج خاص وأنه قد يناقض نفسه من حيث لا يشعر، لأن يومه قد ينفصل عن أمه كل الانفصال.
وأوصيهم بأن يذكروا أن العقاد مولع بالرنين في الأسلوب لأنه شاعر، والشاعر حين يكتب لا يستطيع التخلص من الغريزة الموسيقية، وهل يطيب النثر الفني ويجود إلا من الكتاب الذين كانوا في مطالع حياتهم شعراء؟
وأوصيهم بأن يذكروا أن عيب العقاد وعيب المازني في الغرام بالسجع والازدواج عيب مغفور، لأن هذين الكاتبين لم يكونا إلا شاعرين ضاق عنهما نظام القريض.
وأوصيهم بأن يذكروا أن المازني والعقاد لم يغتصبا تلك المنزلة الأدبية بجهادٍ موصول جاوز الثلاثين من الأعوام السّمان والعجاف.
وأوصيهم بأن يذكروا أن غرام المازني والعقاد بالشرح والتفصيل فيما يعرضان له من دقائق الشؤون يرجع إلى أنهما ابتدءا حياتهما الأولى باحتراف التدريس، والتدريس يوجب التفكير في تفهم الأغبياء قبل التفكير في مسامرة الأذكياء، ولعل هذا هو السبب في اهتمام طه حسين وأحمد أمين بالطواف حول هوامش المشكلات!
وأوصيهم بأن يذكروا أن المازني والعقاد كانت إليهما زعامة النقد الأدبي في أعوام الحرب الماضية، وأن الكتابة السياسية لم تستطع أن تصرف هذين الرجلين عن العناية بالأسلوب.
أما بعد فأنا أشعر بأني لم أقل شيئاً في العقاد، مع أني قلت فيه كل شيء، فان كنت أنصفته فقد أنصفته بحق، وإن كنت ظلمته فقد ظلمته بحق، ولكني قبل كل شيء وبعد كل شيء قد انتصرت على نفسي فتناسيتُ ما كان بيني وبينه من القتال في سنة 1935 على صفحات جريدة الجهاد يوم سمحت له نفسه بأن ينضم إلى غريمي طه حسين.
والله المسئول أن يطيل حياة هذين الرجلين، فهما من ذخائر مصر على وجه الزمان. وهل سيطرت مصر على الحياة الأدبية في الشرق إلا بفضل ما في أبنائها من شراسة وعرامة واستطالة واستعلاء؟
زكي مبارك