الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 393/خواطر في رأس السنة

مجلة الرسالة/العدد 393/خواطر في رأس السنة

بتاريخ: 13 - 01 - 1941


للأستاذ صديق شيبوب

النظام أساس العالم، والتوقيت من الأسس التي يقوم عليها النظام. عرفه الإنسان منذ عصوره الأولى، أي منذ لاحظ أن اليوم ليل ونهار، وأن الأيام يتلو البعض الآخر متشابهة في شكلها البارز، متباينة طولاً وقصراً، وبرداً وحراً. فإذا الأيام مجموعة في فصول، والفصول مقسمة إلى شهور، والشهور مضمومة في السنة. ولم يلبث التوقيت بالسنة أن استولى على الإنسان في كل مرافقه.

لكل إنسان على اختلاف عمله سنته الخاصة به. فللمزارع سنة، وللتاجر سنة، وللعامل سنة، حتى الحكومة عندنا لها سنتها المالية الخاصة بها؛ وللشمس سنة، وللقمر سنة، وللنجوم سنة. وكل واحدة من هذه السنين تختلف في بدايتها ونهايتها عن السنين الأخرى؛ فسِنو الأجرام السماوية موقتة بدورانها، وسنو طبقات الناس موقتة باختلاف الفصول وتأثيرها عليها.

على أن الناس إذا اختلفت سنتهم الخاصة وفقاً لأعمالهم وأغراضهم فقد اعتنقوا كذلك سنة بعض الأجرام السماوية، وخاصة الشمس والقمر. فجعل بعضهم السنة الشمسية، كما جعل البعض الآخر من السنة القمرية، عامة لكل الطوائف.

هذا دليل من الأدلة على أن الإنسان يتطلع أبداً إلى السماء كأنها مهبط وحيه ومصدر هديه في حياته. فعيناه أبداً مرفوعتان إليها يتأمل في قبتها الزرقاء الجميلة، ويسر بانعكاس أضوائها، وغرابة غيومها، واختلاف ظلالها، وتنوع ألوانها، من فجر طالع، إلى صبوح براق، إلى غبوق داكن، إلى شفق أحمر لامع إلى غسق أسود، إلى ليل حالك، ويعجب بخطوطها الزرقاء التي لا نهاية لها، وأجرامها المتقدة كأنها أنوار تتلألأ في بحر لا شاطئ له، ومجوهراتها الساطعة التي لا توزن حجارتها بالمثقال. إنها ثروة عظيمة بعيدة المنال، لا ينضب معينها، ولا تزول بهجتها، ولا تنحط قيمتها، لا أول لها ولا آخر؛ لا يستطيع الإنسان جمعها، أو تناولها، أو فقدها، أو ثورتها، ولا يحول بينه وبينها غير الموت.

ولكن الموت إذا نزل بالإنسان فإنه أضعف من أن ينزل بها وأن يزيل بهجتها ورواءها. إنه مثل النسر المحلق في كبد السماء العاجز عن أن يحول دون تغريد البلابل.

فالسماء رمز الأشياء التي لا تموت. هذه شمسها تعتلي قبتها العميقة كأنها هاوية لا قرار تنتهي إليه ولا جبال ولا أرض تضمها؛ هذه الشمس تشرق وتغرب على مناظر الطبيعة في شتى الفصول تثبت حرارتها في الأرض وما عليها. وهذا القمر حالم في تنقله وتطوره، وهذه النجوم تشع بريقاً كأنه خفق فؤاد مضطرم. . .

لله أحلام الإنسان وآماله التي تلتقي عند هذه النجوم! إنها محط أنظاره يسائلها عن ماضيه وحاضره، ويرى في بعضها مصدر تفاؤله وفي البعض الآخر مبعث تشاؤمه، بينما هي في أبراجها ساهمة تتابع سفرها الطويل اللانهائي لا تحير ولا تبدي، ولعلها لا تراه ولا يخطر لها ببال، ولا علاقة تربط بينها وبينه.

على أنها مصدر راحة وطمأنينة في سكونها الغريب. والسماء تتحدث إلى الإنسان بلغة عجيبة لا يستطيع التعبير بها أبلغ الألسنة. إن في سكوتها الرائع أعظم بلسم لشفاء القلوب. إنها قد تروع فكره حيناً، ولكنها - مهما اختلفت اعتقادات الناس بها - تظل غذاء للنفوس ببريق ألوانها وسطوع شموسها وأقمارها، وفكرة الاستقرار والسمو التي توحيهما إليهما

ما أجمل الحياة لو قضيناها محدقين في السماء!

يثير التحديق في السماء في نفس الإنسان فكرة أصله ومصيره. من أين أتى وإلى أين يذهب؟ هل الوجود والعدم سيان! وإذا كان مصدره لا يثير اهتمامه لأن الماضي قد فات، وهو في ذمة التاريخ، فما المستقبل؟ كيف يمهد له أسباب الطمأنينة والسعادة، وهما غايته التي ينشدها في وجوده، وهما قصده من مصيره، والمصير من عالم الغيب، ولكنه الرجاء يحدو الإنسان والآمال تبعث الشجاعة لقلبه ونفسه. والإنسان يقارن دائماً بين الماضي والمستقبل، متبرماً بالماضي منتظراً من المستقبل ما يعوض عليه ما فات. فكم سمعناه يقول: (لو كنت أدري. . .) و (إذا أتيح لي أن أعيش من جديد. . .)

أما الرجل الحكيم فهو الذي يعرف كيف يوفق بين الماضي والمستقبل، فكأنه يقضي حياته محاولاً استخلاص الحكمة مما يمر به من الحوادث، والحكمة كلمة كبيرة تدل على صفاء العقل والقلب. وما أحوج اليوم إلى مثل هذا الصفاء!

إذا نظر الإنسان إلى الحقائق الواقعية وجد أن الصبر من أدق مظاهر الحكمة، وله فوائد جمة تعود على صاحبه بالرضا. ومن فقده فقد خيرات وفيرة، لأن الزمان لا يحترم غير الأعمال التي كان الصبر من أكبر العوامل التي ساهمت فيها.

كان الكردينال مازارين، الوزير الفرنسي الكبير، يقول: (أنا والزمان)، وهو قول ينطبق على أفعال أعظم أمة في هذا العصر. وقد وصل الوزير الفرنسي بالمبدأ الذي سار عليه إلى أعلى قمم المجد، كما وصلت إليه الأمة البريطانية لأن الصبر معناه الرزانة والتعقل. لذلك نجد الصبر من المزايا التي يتحلى بها الإنسان سني نضوجه وشيخوخته، لأن في الشباب حماساً يدفعه إلى تعجل الأمور، وهو يتولى في وقت واحد حل شتى المسائل في أقصر مدة من الزمان.

ومن غرائب الاضداد عجلة الشباب وصبر الشيوخ. يستعجل الشباب الأمور وهو يعرف أن أمامه متسعاً من الحياة يتيح له التريث فيها ويعالجها الشيخ في أناة وصبر بينما يشعر أن ما بقى له من العمر قصير الأجل وأن الحياة تفلت من بين يديه وأن الموت قريب منه واقف له بالمرصاد.

وهذه ظاهرة تصدم المنطق صدمة قوية ولكنه ينتقم لنفسه إذ يدلل على أن الأعمال المرتجلة هباء تذروها رياح الحياة، وأن الزمان أداة قوية تطلب قسطها من الاحترام له، وأنه سيد يجب إعطاءه ماله من حق.

والطبيعة خير أستاذ للناس في احترام الزمان لأنها ترضى بأحكامه وتخضع لقوانينه، فلكل ظاهرة من ظواهرها مدتها المقررة وفصولها المعروفة. لأن الطبيعة قوية تصمد لتقلبات الزمان ولا تتأثر بها.

حقاً إن الصبر من أبرز الدلائل على القوة، وهو من أكثر مزاياها أناقة وطرافة

كم في الحياة من أضداد تباعد بين المظهر والحقيقة!

يعيش الإنسان موزعاً بين المنافع التي يصبو إليها والغرائز التي تتنازع نفسه، وهو يحاول أن يوفق بين هذه وتلك وأن يضفي عليها ثوباً تظهر فيه للناس من غير أن تقذى عيونهم.

هناك عصور يستولي فيها الكذب على الإنسان فرداً ومجموعاً يعرف المجموع مواضع ضعفه فيخفيها ويظهر بمظهر القوة والغطرفة. ويعلم الفرد أنه حفنة من تراب في مصدره ومصيره بينما تمتلئ نفسه كبرياء وخيلاء. وتقبل كل طبقة من طبقات المجتمع على التعالي للوصول إلى ما فوقها: وطبقة العمال أقصى همها التركز لتوازي الطبقة الوسطى (البرجوازية) بينما هي تحتقر مبادئها وتقاليدها. وتحاول الطبقة الوسطى التسامي إلى الأرستقراطية بينما تتناول وسائلها وترفها ومظاهرها بنقد شديد.

تنعت المرأة الرجل بالقوة وهي تعرف مكامن ضعفه، ويصف الرجل المرأة بالجمال وهو يرف أن في الرجولة جمالاً لا تقاربه الأنوثة. وهكذا أضفى كل واحد من نوعي البشر على صاحبه نعوتاً لا يعتقد بصحتها. وقد خلق كل واحد لصاحبه مزايا ثم اطمأن إليها. ولعل أبرع هذا الخلق وأجمله خلق الرجل للمرأة، فقد بنى لها عرشاً وأجلسها عليه إلهة يطالع في عينيها سعادته وغبطته. ويستنزل من جناتها نعمته ولذته. والغريب في هذا أنه صادق في عقيدته التي اختلقها، مغرور بكذبه الذي أجراه، وأن غبطته في أن يغتر بهما.

ولا غرو في ذلك فكثيراً ما يضحي الإنسان بسعادته في سبيل لذته، وتسهل عليه هذه التضحية إذا تعودها. إن طريق اللذة مفروش بالدمقس والحرير بحيث يستطيع السير عليه من وُلِد حافي القدمين كما يسير على العشب الناعم. أما السعادة فقد خلقت للصالحين من البشر، إما لأنهم يعتقدون بأنهم سعداء، أو لأنهم ينتظرون السعادة مطمئنين إلى نوالها.

فالسعادة مطمح النفوس الكبيرة، وكل نفس شريفة إذا كانت طموحة، لأن الطموح يتطلب قوة وتضحية، وهو في مجموعه دليل على كبرياء النفس، والكبرياء فضيلة إذا كانت سلاحاً من أسلحة النضال.

إن مظاهر الكذب التي ألممنا بها تجعلنا نستنتج أن كل الناس يمثلون دور المنفعة على مسرح الزمان، وأنهم في اطمئنانهم إلى ما يلعبونه يصبح الدور الذي يمثلونه أقرب إلى حقيقتهم من الأصل. لقد أصاب شكسبير كبد الحقيقة عندما تلهى بهؤلاء الأشباح وجعلهم يمثلون دور المجانين حتى صاروا في حقيقتهم مجانين.

إن الأشياء والبشر كافة يغالطون في هذا القمار العظيم الذي ندعوه الحياة.

القلب يغالط العقل، والعقل يغالط القلب. . .

يولد الطفل ممسكاً بيديه أوراق لعب كبيرة ثم يرميها في الحياة مغامراً بها فإما أن تنطلي حيلته فينعم بما ربح، وإما أن تنفضح فيشقى بما فقد.

وبعد، فقد تعودت كل طائفة من الناس النظر في شئونها عند نهاية السنة المقررة لها. فالزارع يجيل رأيه فيما زرع وحصد، والتاجر يوازي بين ما أشترى وما باع، والحكومة توازن بين ما جمعت وما أنفقت؛ وهكذا فإن من فضائل الموقف بين عامين أنه يثير في النفس شتى الأفكار والتأملات.

وقد تنازعت نفسي هذه الأفكار وأنا أصغي إلى صراخ الإنسانية وأنينها، وإلى دوي المدافع وترجيع صداها، وإلى خصومات الأمم ودعاياتهم، وإلى صرير أقلام الكتاب ودوي آلات الإذاعة والطباعة؛ فرأيت أن أدون ما جال بخاطري، ولعلي أصبت المرمى ولم أخطئ السبيل.

صديق شيبوب