مجلة الرسالة/العدد 392/الأزهر وبعثاته العلمية
→ هو عيد الميلاد ولكن أي ميلاد؟! | مجلة الرسالة - العدد 392 الأزهر وبعثاته العلمية [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 06 - 01 - 1941 |
للدكتور محمد البهي
حقا - كما يقول صديقي الفاضل الأستاذ محمود الشرقاوي في عدد الرسالة الأخيرة (391) تحت عنوان (الأزهر وبعثاته العلمية) _أن الأستاذ الأكبر المراغي كان جريئا يوم أرسل بعثةفؤاد الأول إلى أوربا عام 1935، وأن سعادة عبد السلام الشاذلي باشا كان جريئا ايضا أو أشد جرأة يوم أرسل من قبل بعثة الإمام محمد عبده سنة 1931 لأنه أرسلها في وقت كان الأزهر ممثلا في شخص شيخه السابق ضد فكرة إرسال البعوث من الأزهر إلى أوربا. ولولا لباقة الشاذلي باشا في أن أتاح لعضوي بعثة الأمام محمد عبده التشرف بمقابلة جلالة الملك الراحل، الملك فؤاد، والاستماع إلى رغباته السامية فيما يجب أن يكون عليه الأزهر لخلد ذكرى الإمام بشيء آخر غير بعثة أزهرية توفد إلى جامعات أوربا لتربط ثقافة الشرق الماضي بثقافة العصر الحاضر. وكان الشاذلي باشا جريئا، وكان الأستاذ الأكبر المراغي كذلك في إرسال هذه البعوث الأزهرية إلى أوربا، لأن ذلك منهما اعتراف بحاجة الأزهر إلى توجيه في البحث والتفكير، وفي الوقت نفسه اعتراف بجمود الثقافة الأزهرية ووقوفها عند حد معين لا تتجاوزه وهو ما وصل إليه المسلمون إلى القرن الخامس عشر تقريبا. والاعتراف بهاتين الحقيقتين في وقت يسيطر فيه على العقلية الأزهرية مبدألم يترك الأول للآخر شيئا، وتسيطر فيه كذلك فكرالكتاب في الدرس والبحث لا شك أنه يحتاج إلى جرأة وإلى جرأة كبيرة. وكان حقا أيضا أن يسأل صديقي الفاضل الشرقاوي عن إنتاجنا العلمي وأن يحاول شرحعدم إنتاجنا_إن وصل إلى ذلك_بما ذكره: إلى نرى أثركم وإنتاجنا وتجديدكم وما جعلتم في الأزهر من بيئة علمية جديدة وثقافة جديدة وحرية جديدة في البحث. سنقول إنكم لم تفيدوا شيئا مما تعلمتم ولا تميز لكم على من لم يبعث ولم يدرس في جامعات أوربا أو أنكم لا تجدون من أنفسكم شجاعة ولا قوة لكي تكونوا منتجين ولا مفيدينوهذا الذي يسأل عنه الصديق عنه كثير من إخواني ومعارفي في غير البيئات العلمية، في وزارة الخارجية؛ ولكنهم فقط لم يواجهوني بما حاول أن يجيب به الأستاذ الشرقاوي. وبالرغم من ذلك كنت أشعر أنه يتردد في نفوسهم
صحيح أننا لم ننتج بعد إنتاجا جامعيا يتمثل في تأليف يقوم البحث فيه على الأستقلال ف التفكير وعلى إبداء رأى خاص في مشكلة من مشاكل العلم الذي تخصصنا فيه، حتى يدمج هذا البحث ضمن البحوث العلمية فيكمل ناحية نقص فيهاوذلك طبعا غير التأليف المدرسي، فقد أخرجت من هذا النوع ثلاث مذكرات: في الفلسفة الشرقية، وفي الفلسفة الإسلامية، وثالثة في علم النفس العام (بالاشتراك مع الأستاذ عبد العزيز عبد المجيد في هذه الأخيرة) _. ولكن ليس عدم انتاجنا الجامعي راجعاـ كما يقول الأستاذ الشرقاوىـ إلى أننا لم نفد شيئا مما تعلمنا في أوروبا، ولا إلى اننا لم نجد من أنفسنا شجاعة ولا قوة لكي نكون منتجين ولا مفيدين، بل يرجع إلى حالة أخرى خارجة عن معرفتنا وشجاعتنا؛ يرجعإلى بيئة الأزهر العلمية
الأزهر يغاير الجامعة في أن بيئته العلمية لم تتهيأ بعد (تمام التهيؤ) للأبحاث العلمية الحديثة، للأبحاث الجامعية. لأن هذه تقوم أولا على حرية النقد، وهذا معناه عدم منح القداسة لبعض المواد دون بعض. وثانيا على عدم التقيد (بالكتاب) كمصدر للبحث ومقياس للحقيقة. والأزهر - في الواقع - يسير في أبحاثه على منح القداسة لبعض المواد دون بعض ـ وإن كان بينها شديد الشبه من وجهة البحث - وعلى التعلق بمبدأ الكتاب. نعم مناهج التعليم لا تنص على كليهما ولكنهما من الأمور المتوارثة التي اصبح لها حرمة المبادىء العامة. وليست العبرة في ملاحظة الظواهر بما يقوله المنهاج، ولكن بما تتبعه النفوس
فمثلا يفرض نظام التعليم في الأزهر تدريس الفلسفة، وأزيد من هذا بجعلها مادة أساسية في كلية أصول الدين؛ ولكن الفلسفة في نظر كثير من الأزهريين مازال منها (الفاسد)، وهو أكثرها، و (الصحيح)، وهو أقلها. ومازال كثير منهم يخفى في نفسه الضغينة للفلسفة والفلاسفة ويضعها في مرتبة دنيا عن عالم الكلام، مع أن هذا الأخير يشارك الفلسفة الإلهية في الموضوع وفي الغاية، وهي محاولة تحديد الإله أو مبدإ الوجود وعلاقته بالكون وبخاصة بالإنسان. ومع أن الفلسفة الإغريقية التي نقلت إلى المسلمين كانت سبب ثرائه ونمائه. هذه الفرقة أثر متوارث عن الغزالي؛ فكتابه (إحياء علوم الدين) قد أصبح منذ القرن الثاني عشر إلى الآن صاحب الكلمة في التوجيه الديني وفي تحديد علاقة البحث العقلي بالدين. والغزالي هو صاحب (تهافت الفلاسفة)؛ وهو صاحب الرأي: بثلاثة كف الفلاسفة العدا. . . . . . . . . . . . وهجومه ضد الفلسفة كان السبب غير المباشر في اختلاف الرأي في جواز الاشتغال بالمنطق ـ وهو فرع من الفلسفة ـ أو عدم جواز الاشتغال به أو الترديد بين الحرمة والجواز:
فاين الصلاح والنواوي حرما ... وقال قوم ينبغي أن يعلما
والقولة المشهورة الصحيحة ... جوازه لكامل القريحة
فمنهاج التعليم العالي في الأزهر وإن فرض تدريس الفلسفة إلا أنها لا تتمتعبقداسة ولا احترام كما يتمتع علم آخر كعلم الكلام مثلاً
وكما أن مبدأ (قداسة) بعض المواد دون بعض يسود التعليم في الأزهر، كذلك مبدأ (الكتاب) إذ أن (مدرس الموضوع) لم يخلق بعد في الأزهر وإن كان في طريق الخلق والتكوين. فالحقائق العلمية في مادة من المواد مصدرها كتاب معين بالذات، والتمكين في الخلافات العلمية ومشاكل البحث لم يزل إلى كتاب مخصوص. ولعل مبدأ الكتاب فرع من مبدأ القداسة لأنها إذا منحت لمادة من المواد قد تتعداها لأمر ما، إلى مؤلف بالذات فيها
وبيئة مثل هذه البيئة التقليدية لا تقبل طبعا بسهولة نتائج البحث العلمي الحديث لأنها قد ترى فيها مايجرح عاطفة عندها تحرص على صيانتها. وعلى صاحب البحث الجامعي قبل أن يبرزه إلى الوجود أن يهيىء النفوس له بالتوجيه تارة، وبالنقاش فيما ألفته وصانته حتى الآن عن النقاش تارة أخرى، وإلا كانت نتيجة بحثه الجامعي سلبية محضة، وكان شأن هذا الباحث شأن القانون الذي فرض مادة في منهاج الدراسة لم تهيأ لقبولها النفوس بعد في الإهمال وعدم الاعتبار
وهذه التهيئة كانت ـ وما تزال ـ من مهمتنا؛ وهي مهمة ليست يسيرة. كم كان شاقا ما صادفني من صعاب في العام الماضي عند عرض فلاسفة المسلمين! فكانت نفوس الطلاب متشوقة أولا وبالذات إلى سماع الحكم عليهم بالإسلام أو بالكفر. ولم أفلح إلا بعد جهد مضن في إقناعهم بالفصل بين القيم المختلفة، وفي أن مهمة مؤرخ الفلسفة الحكم على الفيلسوف من ناحية إنتاجه العقلي فحسب
على أن الإنتاج العلمي الجامعي كما هو وليد القدرة على الإنتاج وكثرة الاطلاع وهضم المقروء وليد الزمن أيضا. وبذا يفترق عن الإنتاج الصحفي أو الإنتاج المدرسي. ونحن نطمئنك أيها الصديق برغم عدم هذه التهيئة الكافية في بيئة الأزهر العلمية لقبول الأبحاث الجامعية، وبرغم هذه الصعاب التي نلقاها في التوجيه، على أن (بيئتنا العلمية) في نمو، وعلى أن لنا في جمهرة الطلاب وفي كثير من الشبان المدرسين أعوانا مخلصين، وعلى (أن لنا أسلوبا خاصا ونقصد في دراستنا وفي إنتاجنا وفي توجيهنا التعليمي مقصدا خاصا يقوم على حرية البحث، وقداسة الفكر، والشجاعة في مواجهة مانلقى من عنت) ونطمئنكأكثر من هذا على أننا قطعنا في إنتاجنا الجامعي خطوات عديدة. وكل ما نرجوه، حتى يبرز هذا الإنتاج إلى الوجود، هو توفيق الله.
محمد البهي
مدرس علم النفس والفلسفة
بكلية أصول الدين
من ذكريات أوروبا
باريس الصغيرة
للأستاذ أحمد فتحي مرسي
لم يكن من بد أن نكتب عن باريس الصغيرة بعد أن لحق بشقيقتها الكبرى ما لحق من نكد الحياة، وعنت الزمان، ما جعلها تشيع زمان اللهو والغفلة، وتستقبل زمان الجد والحذر والحرص، وبعد أن نالها هي الأخرى أو كاد أن ينالها ما نال أختا لها من قبل فتكاتفت عليها أزمات السياسة، وضائقات الحرب، ونكبات الطبيعة؛ وآن لهذه الوجوه التي لم تتقبض أسرتها إلا من الضحك أن تتقبض يوما من الجد والحزن والتفكير. . . وإذا كانت باريس قد لقيت من أقلام المحبين والمعجبين والمحتفين بها الكثير من كلمات الرثاء والعزاء والذكر، فلا أقل من أن نشيع الشقيقة الصغرى بكلمة أو كلمتين
وباريس الصغيرة، أو باريس شرق أوروبا كما أصطلح على تسميتها عارفو الباريسيين هي مدينة بوخارست حاضرة رومانيا، وليس في هذا الاسم إغراق أو مغالاة، فبين المدينتين تشابه كثير، فأحياء بوخارست الجديدة تشبه أحياء باريس، وحياة اللهو والمجون في بوخارست تعدل حياة اللهو والمجون في باريس أو هي تزيد عليه، ونساء بوخارست متحررات عابثات كنساء باريس مولعات بتقليد الباريسيات في التأنق والتجمل إلى حد بعيد، وإن كن أجمل منهن وآنق. وكما أن باريس هي مدينة المرح والحياة ومحظ آمال الشباب في غرب أوروبا، فبوخارست هي مدينة المرح والحياة ومحط آمال الشباب في شرقها. وإذا كان شباب أوروبا يستقبل الموت اليوم في محور (روما برلين) فقد استقبل الحياة من قبل في محور باريس بوخارست. . . حتى نهاية المدينتين ـ يشاء القدر أن تكون متشابهة ـ فكما تعتز المرأة الجميلة بشبابها وجمالها وتحرص على صيانته، وتحذر أن يمسه سوء، كان ما فعلت الباريسيات، فسلمتا طائعتين مختارتين حذر أن يمس جمالها من الحرب سوء، أو يناله في الدفاع أذى.
هبطت مدينة بوخارست من عام وبعض عام، وكنت قبل سفري تتناثر حولي عن عبثها ومجونها أقوال أصدقاء لي زاروها من قبل، فلم أكن ألقى إليهم أذنا صاغية، وأحسب أن بكلامهم الكثير من مبالغات الشباب وخياله. ثم حدثتني عنها أديبة بولندية قابلتها في أثينا، فكنت أيضا كثير الشك في كلامها، وكان يعزز هذا الشك في رأسي أن بوخارست ـ وإن كانت مدينة أوروبيةـ إلا أنها أقرب إلى الشرق منها إلى الغرب، فليس ثمة مايجعلها تختلف عن نظيراتها من مدن شرق أوروبا كاستنبول وأثينا وصوفيا. فلما ركبت القطار من ميناء كونسنتزا ـ وهي مرفأ روماني ـ في طريقي إلى بوخارست، حدث ماجعلني أصدق ثم أصدق ما قيل، بل حدث ما جعلني أرى أن فيما سمعته عن هذه البلاد الكثير من القصد والإيجاز، لا المبالغة والإغراق
كان القطار مزدحما فوقفت في الممشى أتلهى بالنظر من النافذة، ثم أخذت أذني في أقصى الممشى ضجة، فتلفت فإذا شاب بدا لي من وجهة أنه تركي ـ مقبل علىً وقد تحلقت به خمس فتيات ـ أستغفر الله ـ بل خمس فاتنات، إي والله خمس
ـ وهو يسير بينهن في هيئة العروس أحاطت بها وصيفات الشرف، يجذب هذه، ويقبًل تلك، ويعانق الثالثة، وهن يتضاحكن من حوله، ويتجاذبنه من سترته! فلما بلغني هذا الموكب المرح، حيًاني الشاب ضاحكا، وجعلت الفتيات يحدقن في وجهي طويلا ثم قالت إحداهن: ـ هذا تركي آخر فقالت أخرى: - بل هو مصري وقالت ثالثة ضاحكة: ـأما تجيب أيها التمثال؟ ثم تضاحكن وانصرفن عني ضاحكات بمثل هذا العبث والمرح تقابلك الفتاة الرومانية، فهي دائما باسمة مرحة، تغازلك إذا لم تغازلها، وترميك بالجمود إذا لم تسايرها في مرحها. وحسبك أن تعلم أن أول ما يتعلًمه الأجنبي في بوخارست من اللغة الرومانية ـ وهي لغة تشبه الإيطالية إلى حد ـ هي كلمات ميلة. إلى أين يا فتاة. ما هذا الجمال النادر) وما شاكل ذلك من كلمات المعابثة والمغازلة. وكثيرا ما كنت أخطيء في نطق هذه الكلمات فكانت تصحح لي النطق بها من أعابثها من الفتيات فتقول لي مثلا: (فورمواسا (أي جميلة) وليس فورموزا. انطقها هكذا فورمواسا بحرف إنك لا تحسن النطق. اصحبني لأعلمك)
فإذا بدا لك أن تكون رجل جدً واتزان، أخذن يثرنك ويغازلنك، ويتشبثن بأذيالك أينما رحت، بل يمسكن بك في الطريق، فإذا ألطفت بإحداهن ودعوتها إلى نزهة أو طعام لبتك طائعة دون روًية أو ترًيث أو تفكير، وسايرتك في كل ما ترغب، فهي سهلة القيادة لا تعرف المعارضة!
وفتاة بوخارست اجتماعية بكل ما تحتمل الكلمة من معنى. قلما تراها تسير وحيدة، فإذا لم تجد من تنازله زاملت من تصادفه في الطريق. وهي في ذلك تتخير أتفه الأسباب للتعرف، ثم تضع يدها في يدك، وتطرح التكلف والملاينة جانبا، وكأنها تعرفك من سنين. . . حدث مرة أن كنت جالسا في مقهى في شارع اليزابيتا، فدنت مني فتاة جميلة، ثم سألتني إن كنت مصريا، فلما أجبتها بالإيجاب أخرجت ورقة وقلما وسألتني أن أكتب لها اسمها باللغة الهيرغليفية. فقلت لها: (إنها لغة قدماء المصريين وقد اندثرت، ولغتنا الآن هي العربية) فقالت: (إذن فلتكتب اسمي بالعربية) فكتبته لها، ولكنها بدل أن تنصرف جعلت تتعجب من الخط، فلم أجد بدا من دعوتها للجلوس فأسرعت بالقبول ولم تقم حتى دعوتها للعشاء في اليوم التالي. . . ومثل ذلك يحدث للمرء مرات عدة في بوخارست
ومن الفتيات من لا تتحرى هذه المقدمات، فتراها تقابلك وتبدؤك بالسلام، والسؤال عنك وأني أنت يا أخي، أو هي تجذبك بيدها، أو تخطف قبعتك، أو تقبلك، أو تعانقك. كل ذلك دون أن يكون لك بها سلبق عهد! والعجب في هذا أنها تفعل كل ذلك في بساطة ودون استحياء. وأعجب منه أن هذا العمل لا يلفت أنظار المارة، على الرغم مما لا حظته من فضول الرومانيين العجيب. . . فقلما تخرج من جيبك صورة أو خطابا في الطريق دون أن يشاركك في النظر إليها أو قراءته من حولك، ومن ليسوا حولك. بل أكثر من ذلك فإنهم يبدون لك ملاحظاتهم، فيقول أحدهم مثلا: (لو وسًدت رأسك كفك في الصورة لكان أفضل) أو: (لو كانت الصورة على مسافة أبعد لكانت أوضح من ذلك) أو: (هذا الخطاب مكتوب بخط عجيب). . . إلى غير ذلك من الملاحظات التي لا تنتهي إلا بإخفاء ما في يدك عن نواظرهم.
وعلى الرغم من هذا الفضول العجيب فقلما يلتفت إليك ماًر وأنت تعانق فتاة أو تغازلها ولو كنت في جمع من الناس لكثرة ما أخذت عيونهم مثل هذا المنظر. وقد حدث لي في أول لياليً ببوخارست أن كنت أتناول العشاء في مطعم مع صديق مصري وصديقة رومانية؛ وكانت معي بعض صور لأهرام الجيزة فرغبت الفتاة في واحدة منها، فقال صديقي معابثا: (وكم تدفعين ثمنا لهذه الصورة؟) فقالت: (ما يطلب) فقال ضاحكا: (إنه يقنع بقبلة أو قبلتين، وإن كانت الصورة ثمينة جداّ) فقالت: (إذن فليفعل) فقال: (ليس أمام كل هؤلاء الناس) فقالت: (وما شأنهم في ذلك؟). ثم قامت فقبلته وقبلتني، فأخذني الخجل، وجعلت لا أتلفت حولي خشية أن تأخذني الأنظار من كل جانب فتزيد في خجلي، ولكن لشد ما كانت دهشتي حين تلفتً فلم أجد أحداّ أعار ما حدث أي اهتمام، بل وجدت كل من حولي يفعل ما نفعل!
ومثل هذه الحال من المجون والاستهتار كان لها أثر بالغ في حياة أطفالهم، وصغار الفتيات، ما كنً يترامين علينا في أوقات من الليل
والظاهر أن هذا الانحلال الأخلاقي في رومانيا، مرجعه الحروب المتلاحقة التي تقلًبت عليها فأفنت رجالها، ثم خلفتها وعدد نسائها أكبر من عدد الرجال، وهؤلاء الرجال ـ على قلتهم ـ منصرفون عن النساء لكثرة عددهن، وسهولة منالهن، لذلك نرى رجال رومانيا وشبانها مدللين متراخين قليلي الغيرة على جانب غير قليل من الطراوة والضعف والتهاون مع نسائهم: فالفتاة في بوخارست. قد تسهر معك إلى الثانية عشرة، أو الواحدة صباحا، ويستأذن أخوها أو قريبها لينصرف، وهو يقول لكما مبتسما: أرجو لكما وقتاّ طيباّ، أو سهرة موفقة، أو شيئاّ من ذلك. ثم ينصرف لشأنه
وفتاة بوخارست فوق ذلك من أجمل نساء العالم وجهاّ وجسماّ ومن أكثرهن تحرراّ، فهي تساير نزواتها وأهوائها إلى أبعد الحدود، لا تخشى في ذلك لومة لائم، أو كلمة رجل؛ ثم هي ساذجة مطواع طيبة القلب، تصارحك بكل شئونها ولو لم تقابلها إلا مرة واحدة، وهي بعد ذلك وفية كل الوفاء
والحدائق في بوخارست، هي مستراد الشباب، وميدان الغزل، وملاذ الهوى، يقصدها القوم جميعا قبيل الغروب. والمدينة غنية بحدائقها فقد وهبها الله موقعا طبيعيا غنيا بالبحيرات الطبيعية، فأنشأوا حولها الحدائق، ونموا الخمائل والأشجار والخضرة؛ ففي وسط المدينة تقع وبأطرافها تقع حدائق كارول الثاني على شواطىء بحيرة هيراستراو وحديقة تي شواطىء بحيرة وحديقة البوتانيك وحديقة كارول الأول وتتوسطها بحيرة طبيعية جميلة. . . وغيرها. . .
وكل هذه الحدائق آية في الجمال والتنسيق والموقع. ولن أنسى أمسية قضيتها في مطعم أنيق في حديقة كارول الثاني يطل على البحيرة، وقد انعكست أضواؤه على صفحتها الهادئة، وانتثرت بها الزوارق البخارية ذات الأضواء الملونة، وهي تتخطر في هينة ورفق على أنغام الموسيقى. . . منظر جعل يجذبني إلى هذا المكان كل مساء
وفي حديقة كارول الأول بحيرة طبيعية، يقع على شاطئها مسجد شرقي آية في الجمال والفن؛ فإذا أقبل المساء انسابت الزوارق إلى عرض البحيرة، وعلى كل زورق عاشقان، جمعهما الهوى، وأظلهما الظلام، وأغرتهما هدأة الليل الجميل، فذهبا يتناقلان الحديث، ويتشاكيان الهوى، ويتبادلان العناق؛ فأنت لا تسمع أينما أدرت أذنيك إلا همسات الغزل، وأصوات القبل، وخفقات المجاذيف قد اختلطت بضحكات النساء
وعلى مقربة من المدينة تقع غابة (بانيسا) وهي غابة صغيرة جميلة كانت لنا فيها جولات نذكرها بالخير، وعلى أميال منها بحيرة في موقعها الطبيعي الساحر، وهي أروع ما وقع عليه نظري في هذه البلاد
ولا أود أن أختم القول قبل أن أشير إلى رخص تكاليف المعيشة في بوخارست إلى حد لا يتصوره العقل، ولا يصدقه إلا من زارها، ويرجع ذلك إلى فقر البلاد، وانخفاض سعر (اللي) العملة الرومانية_انخفاضاّ كبيراّ. وحسبك أن تعلم أن ما ينفقه الإنسان في القاهرة في يوم، يكفيه في بوخارست ثلاثة أو اربعة أيام على الرغم من كونها بلاداّ أجنبية غريبة عليه. وأرخص ما في المدينة الطعام ولا سيما اللحم - فالبلاد بلاد سهول ومراعي_وهم في طعامهم أقرب إلى الشرقيين منهم إلى الغربيين. ولعل ذلك يرجع إلى عهد الأستعمار التركي. وأظهر مشروبهم البيرة والنبيذ والسويكا_وهو الشراب الوطني للبلاد_وقلما تخلو مائدة من إحداها
هذه هي بوخارست أو باريس الصغيرة كما يسمونها، مدينة المرح والحياة والجمال. وهذا بعض حقها عليً، وإنه ليعزًعليً وعلى عارفيها ما نالها من محنة، ولنا فيها ذكريات وأصدقاء وأحباب، خفف الله عنها وعنهم، وأجمل لهم العزاء
(فتحي)
(القاهرة)
وحي العلم الجديد
إنسان وحيد في العيد
في ليلة من ليالي هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر، أيام الوداع والرجاء، وداع عام مضى ورجاء عام جديد، جلس إنسان وحده في حجرة باردة، طقسها بارد ولكنها حارةً الذكريات
إنسان وحيد جلس يكتب فلم يستطع، ما يحسه في قلبه لا يستطيع أن يكتبه، وما يكتبه يجده بعيدا غريبا عما في قلبه وصدره. ما يكتبه يجده بارداّ كصورة الصورة الحريق واللهب والبركان على قطعة من الشمع الملون، وفي شعر هندي يقال: (مات المعنى الحيً حين احتواه اللفظ. ينطق اللسان فضلة ما في القلب)
إنه يجلس إلى الراديو يدير مفتاحه، ينتقل به من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب، فلا يسمع إلا الرقص والغناء والموسيقى. الأحاديث لا يسمعها، يمر عليها في مفتاح الراديو، كما يمر الشهاب في السحاب
الدنيا كلها تغني وسط هذهالمذبحة البشرية، والناس كلهم يرقصون على دقات الجاز الصاخب وعلى أنغام الفاس الهادىء الناعم كأحلام الصفاء في آخر الليل، وبعض الناس في هدوئهم وسمت وقارهم وصفاء قلوبهم ينشدون ويرتلون. أولئك هم المتوجهون إلى الله في السماء أيها الصاخبون الراقصون على الجاز والفاس، خذوني معكم أنا إنسان وحيد غريب في هذه الدنيت. إنسان يريد أن يعيش وأن يعرف الحياة وأن ينطلق بعد حبس طويل. يريد أن يفرح ويقفز ويبتهج كما تفعلون. ثم يلقي جسمه المنهوك في الفراش بعد المرح الطويل فينام وقد حل في قلبه السلام
أيها المؤمنون الخاشعون المرتلون المتوجهون إلى الله في السماء , خذوني معكم.
أنا إنسان يريد أن يهدأ وأن يعيش وأن يهب قلبه الصفاء والنقاء بعد سواد طويل، يريد أن يتوجه إلى أن يتأمل ويصلي، قد انصرفت عنه دنياه ويئس منها، يحبها ويريدها ولكنها لا تريده. قد أشقاه إدبارها ولم تقبل عليه مرة، فهو يريد أن يعلو عليها يأساً منها، وأن يتوجه إلى ربه مثلكم يرتًل ويتأمل ويصلي ويتبتل حتى ينهك جسمه كما أنهك الرقص جسوم الراقصين فينام وقد حل في قلبه السلام
إنه يسير في الطرقات ويركب ما يركب الناس، فيجد الشاب والفتاة والعجوز والصبي كلً قدأمسك لمن يحب قربان حبه، الورود والأزاهير يحملونها يضمونها إلى صدورهم ضمة العشق
ويرى الناس قد أذهلهم الشقاء واستولى عليهم جهد العيش فلا يتحدثون ولا يفكرون إلا فيما
يأكلون ويكتسون، ليس لهم حبيب ولا يريدونه، وليست لهم زهور ولا قرابين ولا يريدونها
أيها العاشقون السعداء يحملون الهدايا، خذوني معكم أنا إنسان وحيد يريد أن يهدي إلى من أحب شيئاّ، يهدي إليه قلبه وحنانه وحبه وحاضره كله ومستقبله كله
بلى. لقد أهدى إلى من أحب هذا كله وفوق هذا كله، ولكن من أحب لم يقبل منه ما أهدى، وطرد الرسول والمرسل وانصرف عنه كما انصرفت عنه دنياه ويئس منه. . . من حبيبه. إنه يحبه ويريده ولكنه لا يريده
قلبه وحنانه وحبه وحاضره كله ومستقبله كله، لا يريده. وفوق هذا كله لا يريده
أيها الحاملون الهدايا والأزاهير إلى عشاقكم ومحبيكم وأزواجكم، خذوني معكم
إني أريد أن أكون واحداّ منكم فأقدم إلى حبيبي خيراّ مما تقدمون. . . مع قلبي وحناني وحبي، فإذا رضي عن هديتي وتقبًل قرباني ملأ قلبي الفرح وشمخ رأسي فوق كل رأس، وأتعبني حمل السعادة فأنام وقد حل في قلبي السلام أيها الأشقياء الناعسون خذوني معكم
أنا إنسان وحيد أريد أن ابتئس وأن أشقى حتى أذهل، وحتى يموت في قلبي الرجاء من كل شيء والأمل في كل شيء، وأن يستولي علًي جهد العيش والفكر فيما آكل وما أكتسي حتى يرهق جسمي الفكر والجهد فأنام وقد حل في قلبي السلام
رأيتكم من قبل في كثير من مثل هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر، أيام الوداع والرجاء
رأيتكم من قبل أيها الراقصون والمرتًلون والعاشقون والذاهلون بالشقاء فلم أطلب أن أكون منكم. لأني كنت أوقن أني سأكون خيراً منكم عندما تقبل عليً دنياي
دنياي كانت أخي الغائب حتى يعود، والقلب الذي رجوتًه واصطفيته وأحببته وارتقبه، وصبرت على ما لم يصبر له الصابرون حتى يكون معي، حتى يكون لي وحدي
وكنت في سنوات كثيرة أجلس في هذه الأيام الأخيرة من ديسمبر أسمع مواكب حياتكم أيها السعداء فأبتسم، ستقبل دنياي وأغدو خيراّ منكم يوم يعود لي أخي البعيد، ويوم يكون القلب الحبيب لي وحدي
ثم جاءت الأيام الأخيرة من ختام هذا العام، فإذا الأخ البعيد لم يعد، ولن يعود، وإذا القلب الحبيب قد ردً عليً_مطروداّ_قلبي وحناني وحبي، واختار أن يكون لغيري، له وحده، وإني أحبه وما كرهته
في هذا العام أجلس وحدي في غرفة باردة، طقسها بارد لكنها حارة الذكريات، أسمع وأرى مواكبكم أيها السعداء، ولكني لا أبتسم. لن أكون في يوم ما خيراً منكم إن أخي لن يعود، والقلب الحبيب لن يعود، فلن تعود لي دنياي، وما كانت دنياي لي حتى تعود
إنسان وحيد في العيد
كان يسير في ركب الحياة معه أخوه وحبيبه. . . زوجه. . . لا يريد غيرهما ولا يرجو، فسقط أخوه والركب يسير. فتخلف يقضي حقه يواريه ويبكيه، وقلبه يتوجه إلى حبيبه الذي بقى يرجوه لا سواه
يتوجه إليه بالرجاء والعزاء، يريده وحده لا يريد غيره ولا يرجو وماذا يهمني من الركب وليس لي فيه. . .؟
إنه_القلب الذي أحببته_معي. وأنا به مع الركب وأمامه أسبقه وأعلو عليه. ونحن وحدنا القافلة والركب والحياة والدنيا لنا
أنا_معه_غني عن جميع الناس
إنني به غني عن العالمين
فلما أفاق وقضى لأخيه بعض حقه تلفت فإذا الحبيب الذي كان بقي. ما بقي. . .! سلك بنفسه في زحمة الحياة وخلًف القلب الوحيد لا رجاء ولا عزاء. وشق الطريق لذاته لم يلتفت.
الركب بعيد، وهو منه منفرد وحيد. ما بقيت به قوة. ليس حوله سوى الظلام والوحشة والأحزان وذئاب الطريق. وفي قلبه الحسرات الباقيات ولا أحد معه
أيها السعداء الذين أرى مواكبهم وأسمع رقصهم على الجاز الصاخب والفالس الهادىء الناعم كأحلام آخر الليل، والذين يقضون هذه الأيام الأخيرة من العام. أيام الوداع والرجاء، ثم ينامون وفي قلوبهم السلام.
خذوني معكم. . .
2 - صاحب السلطان الحقيقي
قدمت صاحب السلطان الحقيقي إلى قرائي في المرة السالفة أو بالأحرى قدمتهم إليه! فهو من يقدم إليه الناس جميعا ولا يقدم قط إلى أحد، ومن كان يماري في ذلك فليشهد مجلسا من مجالسه ثم لينظر هل يقدم هو مهما كان من خطره إلى صاحب السلطان أم يقدم صاحب السلطان إليه
حرصت بعد المرة الأولى على رؤيته حرصا أنساني كل متعة وحقر في نفسي كل فرجة فأعددت منظاري وظللت أنظر بصبر فارغ وشوق نازع حتى حانت الفرصة فدعاني إلى داره رجل من أطراف القرية رأيت وجهه يقطر السرور وهو يفضي إلى بما نال من شرف ضيافته الشيخ في تلك الليلة
وتفضل الرجل فدعا شاباّ من ذوي قرباى كان معي فقبل كما قبلت واشترط مثلما اشترطت ألا نمكث حتى العشاء، فما كان كلانا يتطلع إلا إلى رؤية الشيخ. وكان رفيقي الشاب قد تشوق إلى رؤيته بعد ما سمعه عنه وكان وقد ظفر بالأمس القريب بإحدى الإجازات العليا تمتلىء رأسه بفلسفة الفلاسفة. ولعله كان يرغب أن يعد لنفسه منظاراّ مثل منظاري، أو لعله كان يريد أن يطبق على الشيخ ما في رأسه من فلسفة. فقد حدثني أنه يعلم من أمر هؤلاء الأشياخ أنهم جدً أذكياء وأنهم يسيرون على قواعد (سيكولوجية) دقيقة تغيب عن الأغفال من العامة.
وكان صاحبي ونحن في الطريق إلى تلك الدار التي احتوت الشيخ وحاشيته يحدثني ضاحكا أنه كف يده في الصباح بعد أن هم بالتصدق على مسكين بنصف ريال وأنه يخشى أن يظهر الشيخ كرامته فيفضح بخله في المجلس
وبلغنا الدار فإذا حشد من أنماط الناس من رجال ونساء قرب الباب، وإذا الشارع أمامها مكنوس مرشوش، وإذا وفود المدعوين يدخلون الدار قبلنا؛ وإذا الدخان يتصاعد من النوافذ. ولما كنا في وسط الدار لم يفت منظاري ذلك النشاط الذي ملأها، فهؤلاء النسوة مشتغلات كل منهن بعمل يتصل بإعداد الطعام، وفتيان الدار يدخلون ويخرجون من المنظرة التي جلس فيها الشيخ وفي أيديهم (صينيات) القهوة والقرفة والشاي ووجوههم جميعا متهللة مستبشرة
ودخلنا المنظرة فهب من فيها جميعا وقوفا لتحيتنا إلا الشيخ؛ ولأهل الريف أريحية جميلة في اللقاء والترحيب. ورفع الشيخ عينيه وهو متكىء على وسادتين في صدر القاعة، وما إن رآنا من عنصر المطربشين حتى سرت في وجهه غمة أسرع فأخفاها؛ وتكلف البشاشة، وسرنا نحوه فتظاهر أنه يهم بالوقوف فأقسمت عليه ألا يفعل؛ ومد إلينا يده وهو جالس فسلمنا، وما كان أعظم دهشة هؤلاء الوقوف من الرجال حينما رأونا لا نقبل يد الشيخ! وما كان أعظم أسفي أن أكدر عليهم صفوهم بهذا الذي فعلت وصاحبي! ولكن ما الحيلة وعندي أن أبكيهم جميعا أسهل عليً من أن ألم تلك اليد الكريمة؟
وأرادوا أن يفسحوا لنا مكاناّ في صدر الحجرة ولكن الشيخ حريص على أن يظل دراويشه إلى جانبه؛ وأنقذت أنا الموقف فأشرت عليهم بإحضار كرسيين لنا قرب الباب لنشتريح في جلستنا في ملابسنا الأفرنجية. وقبل أن نجلس سألت الشيخ ألا يؤاخذنا إن جلسنا ونحن أعلى منه فطيبت بذلك خاطر صاحب الدار وضيافته، ثم قلت إن بركة الشيخ لتمسنا ونحن بعيدان، فرشفني بنظرة مستريبة ثم ردها سريعا وفي وجهه الراحة والضيق معاّ، فهو مرتاح إلى هذا التكريم الذي يصدقه مني الجلوس وإن لم يصدقه هو، ثم هو ضائق بخبثي وبحضوري وصاحبي في تلك الساعة
واتجهت الأنظار إلى الشيخ وكان صاحبي من الدهشة كأنه ذهل عن نفسه؛ وساد السكوت لحظة فما يتكلم أحد حتى يتكلم الشيخ. وكنت قبل دخولنا الحجرة تبينت صوته وهو يتحدث عن المال وأنه عرض زائل، وعن الجود والبخل، وفطنت إلى أنه كان في سيرة أحد البخلاء. ولم يفطن صاحبي إلى شيء لدهشته ولأنه لا يعرف صوت الشيخ. وغمغم الشيخ ثم عاد إلى ما كان فيه من حديث، ولحديث البخل عنده قيمته فقال: (هيه. . . سبحان من يرث الأرض ومن عليها. . . هو حد منا راح يأخذ حاجة معاه. . . يا ما فلوس بتروح في المسخرة)
وتشعب الحديث، وأديرت علينا أقداح القرفة أكثر من مرة ونحن لا نستطيع لما نسمع من الأيمان لها رداّ. ثم سمعت صاحب الدار يسأل عن شخص اسمه عمر ورأيت الشيخ ينهض واقفا ثم يجلس بعد بضعة ثوان؛ ولكنه لا يلبث حتى ينهض مرة ثانية فعجبت وخفت أن يكون ذلك منه نذيراّ بحريق جديد؛ وما جلس للمرة الثانية حتى صاح صاحب الدار بمن يدعى عمر كرة أخرى. فهب الشيخ واقفا من فوره، ففطنت أنه لن يطيق أن يسمع اسماّ من أسماء الخلفاء الراشدين وهو جالس، وتتبعته أنظر مبلغ ما في هذا الظن من صحة فاتسق لي القياس كل مرة
وكان ذلك قد ألهاني لحظة عن صاحبي الذي سرت الدهشة في وجهه لذكر نصف الريال والذي أخذ إجلاله للشيخ وإيمانه به يتغلب شيئاّ فشيئاّ على مظاهر النكران والجحود في وجهه وخوافي العلم والفلسفة في نفسه ورأسه!. . .
ودخل رجل فشكا إلى الشيخ أن ابنه لا ينام مستريحا، وتناول الشيخ ورقّا وقلماّ وخط له حجاباّ وصرفه فخرج الرجل فرحاّ مطمئناّ. ودخل ثان فشكا إليه أنه محروم من البنين وأنه يتحرق شوقا إلى غلام يؤنسه وللشيخ ما يطلب. وضحك الشيخ من سذاجته إذ يصرح أمام الناس أو يظن أن الشيخ يطلب شيئاّ، وطلب الشيخ منه منديلا فلم يجد معه شيئاّ فأخذ طاقيته ووضعها في حجره وقرأ ثم قرأ وردها إليه وبشره بغلام؛ ونهض الرجل وكأنه يحمل بين يديه ذلك الغلام , , ,
ودخلت امرأة ملففة في ثيابها وطرحتها ترجو من الشيخ رقية لوحيدها كي يعيش، فجاد عليه الشيخ برقية وخرجت المرأة مزهوة؛ ودخلت بعدها غيرها تستجير ببركة الشيخ، فإنابنتها يرتعد جسدها الملتهب وتمسكها (الملعونة) حتى ما تفارقها؛ وفهمت أنا أن المسكينة مريضة بحمى كانت الملاريا، وأمرها الشيخ أن تحضر وعاء به ماء، فذهبت فأحضرته، وتناوله الشيخ فقرأ ثم قرأ، وصاحبي ينظر دهشاّ، وبصق فيه الشيخ بصقة على رغم علم صاحبي وفلسفته، وناوله المرأة لتشرب ابنتها من ذلك الماء أثناء الليل، وكم تمنيت لو قفزت من مكاني فحطمت ذلك الوعاء وأرسلت بركته على رأس الشيخ!
ودخل شاب قوي البنية، بادي الجرأة، فما دنا من الشيخ حتى صرخ الشيخ في وجهه يطرده ويصيح به: أيها العاصي، ابعد عني. وتوسل الشاب إليه حتى سمح له بالجلوس، وأمر الشيخ دراويشه، فطردوا ذلك الفتى ورفعوا رجليه على نحو ما فعل معلم الصبيان في المكتب، وتناول الشيخ عصاه وهم يضربه. فاستجار الفتى بالنبي، فألقى الشيخ العصا وهم واقفاّ، ثم أمر أعوانه فأطلقوه، وأخذ عليه الشيخ العهود والمواثيق ويده على المصحف، ثم صرفه والناس يعجبون كيف عرف الشيخ أنه شقي، ونسوا أن للشيخ دراويش هم مصدر علمه اللدني العجيب
وجاء بعد ذلك أمر حيرنا معاّأنا وصاحبي، وحار منظاري حتى كدت أشك أن الشيخ قد أفسد عليً بكراماته سحره، فقد جيء للشيخ بأربعة فتيان متهمين في سرقة فجلسوا أمامه يرتعدون فرقا وكلهم ينكر ما نسب إليه، ولما يئس منهم الشيخ طلب بيضة بطة أو أوزة فذهب صاحب الدار ليحضرها ولما عاد بها قابله أحد الدراويش عند الباب وأخذها منه، ثم وضعها في جيبه حتى طلبها الشيخ فأخرجها وأعطاها إياه أمام أعيننا ووضعها الشيخ تحت يسراه، ثم قرأ وقرأ وقال إنه سيرفع يده فتتجه البيضة إلى السارق، ونظر في وجوه الفتية فأصروا على إنكارهم. وما كان أشد عجبي وعجب الجالسين جميعاّ أن رأينا الشيخ يرفع يده فتظل البيضة في مكانها بضع ثوان، ثم تبدأ تتدحرج وتقف، ثم تتدحرج وتقف، وعظم خوف السارق بطبيعة الحال، وقبل أن تنحرف البيضة إلى من سرق أخذخا الشيخ وقد بعدت عنه نحو ثلاثة أذرع وأمر الفتية أن يخرجوا فيفضي من سرق منهم بسره إلى من يرسله معهم من الدراويش، وعاد ذلك الدرويش بعد قليل يحمل المصاغ المسروق!
وأقبل من في الحجرة على الشيخ يقبلون يديه، ونظر إلى صاحبي وقال في لهجة عجيبة: (وما قولك؟ بل ماذا يرى منظارك في هذه المعجزة؟) ونهض الشيخ واقفاّ فدعا دراويشه ومن جلس معه إلى (حلفة ذكر) وبدأ ذلك الذكر في حماسة شديدة واشتدت الحركات وارتفعت الأصوات، ونسى الناس أنفسهم حول الشيخ وعظمت الرهبة في وجه صاحبي الشاب فأمسكت بذراعه مخافة أن يثب فينضم إلى الحلقة!
وكان موعد تقديم الطعام قد قرب فانتظرنا وصاحبي حتى انتهت لحظة التجلي، وخرجنا بعد أن سلمنا من بعد على الشيخ ومن معه وسرنا وصاحبي يسألني في لهجة كلهجة طفل خارج من ملعب يستوضح أباه حركة (بهلوان)؛ ولم نكد نبعد حتى سمعنا من يشاركنا الحديث، فإذا هو أحد دراويش الشيخ السالفين وهو اليوم من الخارجين عليه، وقال ضاحكا: طول ما في البلد مغفلين وأكل العيش سهل. يا سيدنا الأفندي البيضة كانت موجودة في جيب صاحبنا غير الثانية، وهي فارغة وفي جوفها خنفسة. . . دا شغل احنا عارفينه، وبكرة يا ما يشيل الشيخ من الطيور والسمن والخرفان وهو خارج من البلد. وضحك صاحبي وأخذ يعود إلى جحوده ونكرانه
الخفيف
العقد الفريد
للأستاذ محمد سعيد العريان
بعد أسابيع قليلة، تظهر الطبعة الجديدة من كتاب (العقد الفريد) التي تنشرها المكتبة التجارية بالقاهرة، في ثمانية مجلدات؛ وقد حققها وضبطها وراجعها على مصادرها الأولى الأستاذ محمد سعيد العريان
(ونحن ننشر فيما يلي المقدمة الجامعة التي قدم بها هذه الطبعة للتعريف بالكتاب؛ إذ كان مما يهم كثيراّ من قراء الرسالة أن يعرفوا عن الكتاب ما لا بد أن يعرفوه؛ وخاصة إن كان هذا البحث مما يدخل في المنهج الذي أعدته وزارة المعارف لامتحان المسابقة بين المدرسين للترقية إلى المدارس الثانوية)
يعد كتاب (العقد) لابن عبد ربه من أقدم ما وصل إلينا من كتب الأخبار والنوادر؛ لم يسبقه إلى هذا الباب فيما نعرف إلا ثلاثة نفر: الجاحظ صاحب البيان والتبنين، سنة 255هـ وابن قتيبة صاحب عيون الأخبار، سنة 276هـ؛ والمبرًد صاحب الكامل سنة 285هـ على أن ابن عبد ربه وإن كان مسبوقاّ إلى التأليف في هذا الباب قد اجتمع له في هذا الكتاب ما لم يجتمع مثله في كتاب قبله ولا بعده من كتب هذا الفن، فكان بذلك حقيقاّ بالمنزلة العلية التي أحله إياها أدباء العربية؛ إذ كان مصدراّ من أهم مصادر التاريخ الأدبي التي يعول عليها ويستند اليها، بحيث لايغني غناءه كتاب في المكتبة العربية على غناها وما احتشد فيها من تراث أدباء العرب
والحق أن هذا الكتاب هو موسوعة أدبية عامة، يوشك فيه أن يجزم بأنه لم يغادرشيئاّ مما يهم الباث في (علم العرب) إلا عرض له، وأعني ب (علم العرب) مجموعة المعارف العامة في الأدب والتاريخ والسياسة والاجتماع التي تتكون منها عناصر الثقافة العربية العامة لعهد هذا الكتاب؛ وحتى الفروع التي انشعبت من علم العرب قريباّ من ذلك التاريخ واختصت بالبحث في (علوم الدين) ثم تميزت باستقلالها. . . لا يعدم الباحث أن يجد فروعاّ من مسائلها قد عرض لها صاحب العقد في أبواب متفرقة من كتابه، لعله لا يجد لكثير منها نظائر في كثير من الكتب الخالصة للبحث في هذه العلوم
وثمة فضل آخر يميز صاحب العقد على سابقيه ممن عرضوا لهذا الباب، هو أن ابن عبد ربه أندلسي من أهل الجزيرة يتحدث عن أدب المشارقة فلا تقًصر به مغربيته عن اللحاق والسبق؛ ولعل هذا كان بعض دواعي ابن عبد ربه إلى تأليف كتابه؛ إذ كان في طبعه من المنافسة وحب الغلب ما يحفزه إلى هذا المضمار، كما سنذكره بعد
وليس بي حاجة إلى الحديث عن نهج صاحب العقد في تأليف كتابه؛ فقد تكفل هو بتبيان ذلك في مقدمة الكتاب؛ ولكن الذي يعنيني أن أذكره هنا، هو أن ذلك النهج الذي سلكه مسبوقاّ اليه وسلكه كذلك من بعده، كان يستند إلى قاعدة مقررة (في علم الأدب) كما عرفه القدماء. أنظرإلى ابن خلدون يقول في مقدمة تاريخه: (هذا العلم - يعني علم الأدب - لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم؛ فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الملكة، من شعر عالي الطبقة، وسجع متساو في الإجادة، ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة، يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية، مع ذكر بعض من أيام العرب، ليفهم به مايقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة؛ والمقصود بذلك كله ألا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه. . . . . . ثم إنهم إذا أرادوا حدً هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها، والأخذ من كل علم بطرف)
هذا الحد الذي ذكره ابن خلدون في تعريف علم الأدب_توفي سنة 808هـ، كان معروفا لكل المشتغلين بالأدب قبل عهد ابن خلدون، وعليه كان نهج المؤلفين قبل ابن عبد ربه وبعده: يجمعون من أشعار العرب وأخبارها، ويأخذون من كل علم بطرف؛ ليكون من ذلك سبيل إلى تحصيل الملكة، وإلى الإجادة في فنًي المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم؛ وإذا كان ابن عبد ربه لم يقصد من كتابه إلى أكثر من هذا المعنى، فقد كان ذلك نهجه في تصنيف كتابه والحشد له، والتفنن فيما ينقل ويختار من أشعار العرب وأخبارها، ومن أطراف كل علم وطرائفه ولقد وفق ابن عبد ربه فيما جمع لكتابه من فنون الأخبار، ورعته العناية رعاية هيأت لكتابه الخلود والذكر؛ فإن كثيراّ مما اجتمع له في هذا الكتاب قد عصفت الأيام بمصادره الأولى فدرست آثارها وضاعت فيما ضاع من تراث المكتبة العربية وآثار الكتاب العرب، وبقى العقد خلفاّ منها لا غناء عنه ولا بديل منه، يرجع إليه الأديب والمؤرخ واللغوي والنحوي والعروضي وصاحب الأخبار والقصص، فيجد كل طلبته وغرضه ولا يستغني عنه غير هؤلاء من طلاب النوادر والطًرف في باب الطعام والشراب والغناء والنساء والحرب والسياسة والاجتماع ومجالس الأمراء ومحاورات الرؤساء، وغير ذلك مما لا يستوعبه الحصر ولا يبلغه الإحصاء
على أن ابن عبد ربه لم ينظر فيما جمع لكتابه من الفنون نظر المختص، بحيث يختار ما يختار لكل فرع من فروع المعرفة بعد نقد وتمحيص واختبار، فلا يقع منه في باب من أبواب الفن إلا ما يجمع عليه صواب الرأي عند أهله، لا؛ ولكنه نظر إلى جملة ما جمع نظر الأديب الذي يروي النادرة لحلاوة موقعها لا لصحة الرأي فيها، ويختار الخبر لتمام معناه لا لصواب موقعه عند أهل الرأي والنظر والاختصاص. أنظر إليه فيما روي من حديث الرسول ﷺ مثلاّ، تجد الصحيح والمردود والضعيف والمتواتر والموضوع. واقرأ له ما نقل من حوادث التاريخ وأخبار الأمم والملوك، تجد منه ما تعرف وما تنكر، وما تصدق وما تكذب، وما يتناقض آخره وأوله، ولم يكن ابن عبد ربه من الغفلة بحيث يجوز ما لا يجوز، ولكنه جامع أخبار ومؤلف نوادر، جمع ما جمع وألف ما ألف، ولكل ناظر في الكتاب بعد ما يأخذ وما يدع , ذلك كان شأنه وشأن المؤلفين في هذا الفن من قبله ومن بعده، على حدود متعارفة بينهم ورسوم موضوعة على أن ذلك لا يعني أن ما جمع من مثل تلك الأحاديث وهذه الأخبار ليس له مغزاه عند أهل الاختصاص والفن، ولكنها أشياء للاستدلال لا للدليل كما يقول أصحاب المنطق
ذلك هو موجز الرأي في التعريف بهذا الكتاب وقيمته فيما عرض له من أبواب العلم والأدب، وبقي علينا أن نعرف المصادر التي استند إليها ابن عبد ربه من الكتب والرواة
يقول ابن عبد ربه في مقدمته: (وقد ألفت هذا الكتاب، وتخيرت جواهره من متخير جواهر الأدب ومحصول جوامع البيان، فكان جوهر الجوهر ولباب اللباب، وإنما لي فيه تأليف الاختيار، وحسن الاختصار، وفرش لصدر كل كتاب؛ وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء، ومأثور عن الحكماء والأدباء
وهذا الذي يقوله المؤلف في وصف كتابه، يدعونا إلى السؤال: من أين اختار ابن عبد ربه مختاراته؟ وما هي مصادره الأولى؟ انظر إليه تجده يروي عن الشيباني، والمدائني، والأصمعي، وأبي عبيدة، والعتبي، والشعبي، والسجستاني، والجاحظ، وابن قتيبة، والمبرد، والرياشي، والزيادي، وابن سلام، وابن الكلبي، وغيرهم من علماء المشارقة؛ وعن الخشني، وابن وضاح، وبقي بن مخلد، من علماء الأندلس؛ فأي هؤلاء لقي ابن عبد ربه فأخذ عنهم شفة إلى شفة، وأيهم نقل إليه من أخباره راوية عن رواية؟
لم يعرض أحد ممن ترجموا لابن عبد ربه_للحديث عن رحلة له إلى المشرق، إلا فروضا ّنظرية استنبطها بعض المتأخرين لدلائل يستند إليها في كتاب (العقد) ولا نراها تصلح للاستدلال؛ فلم يبق إلا أن صاحب العقد قد روي من أخبار المشارقة ما نقل إليه حيث هو في مقامه من قرطبة، ولم يعبر البحر ولم يركب الصحراء؛ وقد كان من شيوخ ابن عبد ربه في الأندلس كما سنذكره بعد: الخشني، وبقي بن مخلد، وابن وضاح؛ وللأولين منهم رحلة إلى المشرق ورواية
على أن كثيراّ من كتب المشارقة وعلومهم كانت ذائعة بالأندلس لعهد ابن عبد ربه، وكان لها عند العلماء منزلة ومكان؛ فليس ثمة ما يمنع أن يكون ابن عبد ربه قد استعان كثيراّ أو قليلاّ بما كانت تضم المكتبة العربية في قرطبة من آثار المشرقة ,
(البقية في العدد القادم)
محمد سعيد العريان
الشروق. . .
(مهداة إلى (الرسالة) عروس المشرق في صباح عيدها التاسع)
للأستاذ محمود الخفيف
شدً ما ذكر قلبي الفرحا ... مولد النور على الأفق البعيد
كم هفا القلب إليه وصحا ... واجتلى في الشرق هذا الوضحا
ورأى في كل ركن بسمة
حلوةً تهدي إلى الصبح الوليد
في شعاب النفس ألقى الابتساما ... فلق همت بمسراه المديد
زدت ما درت بعينيً هياما ... بسنا يا حسنه إذ يترامي!
لمحات كابتسامات المنى
ورؤى مثل رؤى الحلم السًعيد
السًنا الورديً الأفق ... ذاب في فيض من النًور جديد
ملء نفسي سحر هذا الشفق ... ألق أجمل به من ألق
أمس كم كان لروحي منهلا
قبل هذا الثكل في قلبي الشًهيد
رفً قلبي للسنا المنسكب ... في جناب أخضر الزرع رغيد
رمت الشمس خيوط الذهب ... فجرت فوق رفيف العشب
نهلت عيناي من بهجتها
آه! كم طفت بها غير وحيد
ونسيم عبهري خفق ... سرق العطر من الزهر النضيد
عبقت أنفاسه في الغسق ... وسرت في صبحه المؤتلق راح يستاف فؤادي عطره
هاتفا في خفقه هل من مزيد؟
لألأ النور رؤوس الشجر ... في انهلال بالغ الحسن فريد
ووميض الطًل فوق الزهر ... زاد حولي عبقري الصور
مجتلى صليت في محرابه
حلم النظرة صوفيً السًجود
ساجعات الأيك في الحانها ... فرحة مرت على قلبي العميد
المراح الحق في تحنانها ... وهنيء العيش في أفنانها
سجعات لم تشبها كدرة
بدأت في مولد الدهر الأبيد
أيقظ الغافين نور المشرق ... حبًذا يقظتهم بعد همود
أنا ما بين خيال مونق ... ملء نفسي ونهار مشرق
لمع في الشرق يوحي نورها
لفؤادي من أحاديث الخلود
مطلع النور شجاني نوره ... وجلى للنفس موموق العهود
أجمل البشر لنفسي ذكره ... أبدا يبهج روحي سحره
كم بعثت النفس في آفاقه
كلما ضاقت على نفسي قيودي
في فجاج الشرق أطوي الأعصرا ... من زمان شامخ العزً وطيد
إبتني المجد به عالي الذرى ... سادة كانوا كآساد الشًرى
شدً ما يملأ نفسي كبرة
أن أغنًي بالميامين الأسود
دولة الفاروق هزت خافقي ... وازدهاني الملك في دار الرشيد
أتأسى بجلال صادق ... كلما ضقت بشك طارق
في غد يوقظ فتيان الحمى ومضات الوحي من مجد تليد
آذن المشرق بعد الغلس ... بصباح دافق النور جديد
لاح لي من فجره المنبجس ... لمح نور ليس بالمحتبس
إيه كم أبهجني من نوره
مولد هلً على الأفق البعيد!
صغت هذا الشعر من غرته ... وتغنيت به حلو النًشيد
من سنا الشرق ومن روعته ... ومعاني السحر من فتنته
والوضاء الغًر من أيًامه
وحي (إليادي) وألحان قصيد
الى (الرسالة) الغراء
في عامها التاسع
للأديب إبراهيم محمد نجا
أقبلي كالربيع يخطر في الكو ... ن، فتهتز زهرة الأيام
أقبلي كالشباب يشرق في النف ... س فتشدوا عرائس الأحلام
أقبلي كالسرور، كالنشوة البي ... ضاء أو كالشفاء بعد السقام
أقبلي كالنسيم رقرقه الفج ... ر، فغنىً بأعذب الأنغام
أقبلي كالنمير يسكبه النًب ... ع فتروي به القلوب الظوامي
كأغاني الطيور، كالأمل البا - سم، أو كالضياء بعد الظلام
كالأصيل الجميل كالشفق الحا ... لم كالفجر كالضحى البسام
كالندى في الزهور كالعطر في الأنفاس كالبدر في ليالي الغرام
أقبلي كالسلام بعد حروب ... طال فيها تناحر الأقوام
يا ابنة النيل إن في مصر نوًا ... ما، فهزًي مضاجع النًوام
وامسحي عنهم الفتور، يهبوا ... هبًة الأسد روًعت في الموامي
واسكبي في النفوس بلسمك الشا ... في، وبثي الحياة في الأجسام
واحملي المشعل الكبير وسيري ... في طريق الحياة نحو الأمام إنما أنت قبسه من ضياء الله ... يهدي بها قلوب الأنام
إنما أنت يقظة بعد نوم ... وبلوغ المنى، ونيل المرام
ونعيم في العيش بعد شقاء ... وصفاء في الأفق بعد قتام
ووثوب إلى الأمام إلى الغا ... ية بعد النكوص والإحجام
وصمود إلى السماء إلى الذر ... وة بعد الحياة تحت الرغام
إنما أنت صرخة الحق في الشر ... ق، وبعث لعزة الإسلام
إنما أنت رجعة البطل الظا ... فر من ساحة الوغى والصدام
إنما أنت عودة النور والآ ... مال، بعد الظلام والآلام
لك في الشرق يا ابنة النيل ذكر ... ومقام أعظم به من مقام
في فلسطين كم أسوت جراحا ... ت وكفكفت من دموع سجام
ذدت عنهم أذى المغير بقول ... يتلظى لهيبه المترامي
ولو اسطعت غيره ذدت عنهم ... بشبا الرمح، أو بحد الحسام
في فلسطين! أين ما كان في مص ... ر، وأرض العراق أو في الشًام؟
قد ربطت القلوب بعد انفصام ... وجمعت الصفوف بعد انقسام
وزرعت الآداب في شاطيء الني ... ل، ورؤيتها بماء الغمام
فزكا أصلها، وطابت فروعاّ ... وتباهت بزهرها البسام
واستوت تحت ظلها لغة الدًي ... ن، وقامت على أعز دعام
وحميت الأخلاق من سطوة الشر ... ر، وبغى الهوي، وجهل الطغًام
وجمعت الشباب في ظل نبع ... عبقري الرؤى، طهور، سام
رفرفت فوقه الأماني، وغنت ... في رباه عرائس الإهام
وهفت نحوه المواكب شتى ... تتشكى مما بها من أوام
فاسلكي في النفوس من نبعك العذ ... ب، وبثي الحياة في الأجسام
واحملي المشعل الكبير، وسيري ... في طريق الحياة نحو الأمام
واهزئي بالفناء يا زهرة الني ... ل، وعيشي على مدى الأعوام
وابسمي للخطوب إن عبس الدًه ... ر، ولا تعبئي بكيد الخصام ولك الحق غاية وطريق ... وإمام. . . أنعم به من إمام
ولك الله ناصر ومعين ... وهو نعم النصير، نعم الحامي
(طنطا)
إبراهيم محمد نجا