الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 391/من وحي الحرب

مجلة الرسالة/العدد 391/من وحي الحرب

بتاريخ: 30 - 12 - 1940


العلم والخلق

للأستاذ قدري حافظ طوقان

إن الخلق من النفحات الإلهية، به يكتب التوفيق وعليه تقام دعائم النجاح. والفرد يخلقه لا بعلمه، وكذلك الأمم ليست بعلومها وفنونها بل بأخلاقها وضمائرها لا تصلح إلا بهما ولا تشاد عظمتها إلا عليهما.

فالعلم إذا دخل دائرة الخلق اتجه نحو الخير والبناء والنمو والإثمار، وإذا خرق نطاقها ولم يتقيد بها أصبح أداة شر وهدم وتدمير، وعلى هذا فمن صالح البشرية والحضارة أن يحيط الخلق بالعلم وأن يسيطر عليه ويرعاه ليسير به نحو الخير والجمال والكمال

لقد تقدم العلم تقدماً نتج عنه انقلاب خطير بعيد الأثر في الحياة والعمران، فقد قضى على المسافات ومحا آيتها، وأتى على معجزة الاتصال بين الأقطار، فجعلها طوع إشارته. كشف المجاهل، وجفف المستنقعات، وأروى الصحاري، ومهّد الأدغال، وأباد أكثر الأمراض، فإذا الأرض أكثر ترامياً وأرجاؤها أعظم اتساعاً. فتح أبواباً كانت مغلقة، ووصل إلى نتائج ما كانت لتخطر على بال إنسان، وتمكن من السيطرة على مصادر الطاقة في أشكالها المختلفة فنمت الثروة العامة نمواً لم يحلم به أحد من قبل، وطغت الاختراعات، وكثرت الاكتشافات، فالعائمات على الماء، والسابحات في السماء، والساريات والراسيات على الأرض وتحتها، والأسلاك الكهربائية تطوف هذه الكرة، والأمواج اللاسلكية تعج في الأجواء حاملة على أجنحتها الأخبار والأنباء والصور، وأصبح كثير من الناس في هذا العصر يتمتعون بأسباب من الرخاء والرفاهة والترف لم يرن إليها القياصرة في الأزمان الماضية

ولكن مهلاً. . . هل هذا التقدم كاف؟

هل هذا التقدم - وقد توافرت فيه كل الوسائل لتسهيل الحياة وتوفير العناء - قضى على المشاكل الاجتماعية التي يعانيها المجتمع؟. . .

إن هذا التقدم قد زاد المشاكل الاجتماعية تعقداً، وسلب راحة البال وطمأنينة النفس، ويمكنني أن أقول إنه وضع الحضارة في مركز خطر.

ولماذا؟. . . لأن الإنسان في تقدمه لم يحسب حساباً للخلق ومعاني الحق والواجب والمث العليا، وقد قصرت حكمته عن تثقيف الرغبات والنوازع الإنسانية.

والذي يخشاه كبار الفلاسفة والحكماء أن الحكمة البشرية إذا أفلست في النهوض بعبء إدماج العلم وقواه العظيمة في أغراض الروح والخلق، اتجهت هذه القوى إلى التدمير والتخريب والتقتيل بدلاً من الاتجاه إلى البناء والإنتاج والإثمار والخير والجمال

لقد أصبح شعار هذا العصر (المادية فوق كل شيء) طغى هذا الشعار وتضاءلت أمامه قوة الناس المعنوية وتلاشت به الروابط الأدبية وانكمشت الرحمة والعطف والشفقة في صحف الأديان، وأشاحت الفضيلة بمزاياها عن النفس فإذا الإنسان في غمار من الزهو والغرور يهزأ من العفة والاستقامة والفضيلة والصلاح ولا ينظر إلى الحياة إلا من ناحية المتع والمسرات

لهذا لا عجب إذا قام المفكرون في أمريكا وإنجلترا يدعون الناس إلى حركة إصلاحية غايتها الاتجاه نحو المعنويات والروحيات، والاهتمامُ بتكوين الخلق، وجعلُ الحضارة قائمة عليها، لينقذوا الإنسانية من الشرور المحيطة بها ويضعوا حداً للمشاكل العديدة التي يعانيها المجتمع. وهذا ما يجعلني أومن بأن العالم - على الرغم مما هو فيه من تخبط - سيتجه نحو الروحيات ونحو الاحتفاظ بمقام الروح فوق مقام المادة، ذلك أنه إن لم يفعل، وسمح للمادة أن تسيطر غير آبه للخلق ومعاني الخير والكمال، فلن تقوم لحضارة قائمة وسيبقى السلم مهدداً، والمثل العليا في خطر، والناس في قلق، والأفكار في اضطراب، والأعصاب في توتر، وتتضاعف مشاكل الإنسان ومتاعبه، وتزيد تعقداً والتواءً، فلا يخرج من فوضى إلا ويجابه فوضى أشد وأنكى فلا اطمئنان ولا أمان ولا راحة ولا سلام

وعلى هذا فالعلم وحده لا يكفي لوضع حدٍّ لشرور العالم وآثامه، والعلم وحده لا يكفي للخلاص من المتاعب والصعاب المحيطة به من كل جانب

يجب أن يقوم العلم على عناصر روحية ومعنوية تعلي من شأن المثل العليا والأخلاق السامية، كما يجب أن تقوم الحضارة على المعنويات وتوفق بين المادة والروحيات

وهل تكون حياة آمنة يسودها رحمة وسلام إذا كانت مادية؟

وكيف تكون الحياة ناميةً رائعةً إذا لم تسرْ على هدى الروحيات؟

لن يستطيع الإنسان أن يردّ عن الحياة آثامها وشرورها ومفاسدها إذا سار فيها على العلم وحده منصرفاً عن معاني الخير والجمال!

بل كيف تكون الحياة سامية ذات أثمار إذا سيطرت عليها المادية من كل جانب؟

وهل يصفو عيش في جو مادي؟

وهل تستقيم حضارة بالمادية؟

لا. لا. لن تستقيم حضارة بها ولن تتخلص الإنسانية من ويلات العلم إذا لم تنزع إلى الروحية وتسر على هدى الخلق وطريق الحق والعدل

بلاء هذا العالم في طغيان المادية، وخلاصه في الجمع بين الخلق والعلم، خلاصه في روحانية تذكى في الناس معاني الخير والكمال وتسمو بهم إلى ازدهار العواطف، إلى حيث نمو الخلق وتفتح المواهب وبروز المزايا النفسية. . . وإن في هذا كله لثماراً يانعات تجني منها الإنسانية الخير والطمأنينة والسلام

إن في رجوعنا إلى عناصر الخلق وإلى الفضائل الاجتماعية التي نبتت في أصول الأديان، ما يضع حداً للمتاعب التي تواجه الإنسان وتجعل من العلم أداة خير وإصلاح وما يقضي على الفوضى الخلقية التي نراها سائدة في مختلف نواحي الحياة

إن العلم قد وضع في أيدينا قوة، إذا لم نحطها بسياج من الخلق والفضائل، انقلب إلى قوة هدامة مخربة. وعلى المعاهد والمفكرين أن يعملوا على حفظه ضمن هذا السياج، ليجني منه الإنسان قوى الخير والبناء والإثمار؛ وأن يسيروا بجهودهم في طريق إدماج العلم في أغراض الروح العليا، حتى يعرف النشء كيف يعيشون وكيف يقومون بواجبهم ويؤدون رسالتهم بنفحات روحية وعلى أساس متين من الأخلاق

(نابلس)

قدري حافظ طوقان