مجلة الرسالة/العدد 390/مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية
→ إلى رجال الجامعة ورجال المعارف | مجلة الرسالة - العدد 390 مسابقة الجامعة المصرية لطلبة السنة التوجيهية [[مؤلف:|]] |
شخصية الأزهر العلمية ← |
بتاريخ: 23 - 12 - 1940 |
(في صحراء ليبيا)
لأحمد حسنين
للدكتور زكي مبارك
- 7 -
بسم الله الرحمن الرحيم
كذلك هتفتُ وأنا أهمّ بكتابة مقال عن هذا الكتاب، لأنه صعب المنال، ولأن المقدمة التي حبَّرها لطفي باشا السيد لم ترشدني إلى طريق تقديمه إلى القراء، وأنا أرجو أن تنفعني بركة (البسملة) فأسجل بعض ما سنح من الخواطر عند قراءته السريعة، وهي جهد المقل في ثلاث سهرات
الرحلة
هي رحلةٌ قام بها حضرة صاحب المعالي أحمد محمد حسنين باشا سنة 1923 من السلوم على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، إلى الأُبيَض عاصمة مديرية كردفان بالسودان، وهي مسافة قدرُها نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة كيلو متر قُطعتْ على ظهور الإبل، وفيها وُفِّق الرحالة إلى كشف واحتين مجهولتين هما (أركنو) و (العوينات)، وكانتا غير معروفتين قبل ذلك للجغرافيين.
وقد سُطِّر تاريخ هذه الرحلة في نحو أربعمائة صفحة بالقِطع المتوسط، وهي مقسمة إلى جزأين، وفيها كثير من الرسوم العلمية والجغرافية.
شخصية المؤلف
هو رجل لم تلده ولاّدة، كما يعبِّر أهل مصر حين يصفون فتىً من النجباء. وقد حدثنا هذا الفتى عن أهله، فلم نعرف إلا أن أباه كان من علماء الأزهر الشريف، وقد تلطّف لطفي باشا السيد فحدثنا أن جد المؤلف كان من الباشوات، ولم يذكر بأية صفة نال ذلك الجد رتبة الباشوية، وأغلب الظن أنها الباشوية التي كانت تمنح لرجال الجيش، فإن لم تكن كذلك ف باشوية لم تقض على وارثي جاهها الفخم بمنحة الترف واللين، وإنما أورثت حفيدها القدرة على أن يقول: إن أهله كانوا من ساكني البادية؛ وعلى أن يقول: نحن أهلَ الصحراء، لا يغنينا النوم عن العشاء.
وقد كان أحمد حسنين في كل أدوار ماضيه من نماذج الفتوَّة واللوذعية، عاش في إنجلترا حيناً فكان صورة للفتى الموسوم بالبراعة والشهامة والصدق والجاذبية، ولم يمنعه تحضّره من الاتصال بالبادية، فاعتُمد عليه أيام الحرب الماضية في السفر إلى الصحراء الغربية للاتفاق مع زعمائها على رعاية واجب الجِوار في احترام الحدود.
ثم طوحت به همته إلى اختراق تلك الصحراء ليكشف واحتين كان لهما في أذهان أهل البوادي خيال، ولم يكشفهما أحد من قبل، فكان التوفيق من حلفائه الأوفياء.
ثم أراد أن يكون طياراً، ولكن الحوادث أرادت غير ما يريد، فقد طار من إنجلترا إلى إيطاليا، ثم سقطت طيارته، فأصلحها وطار، ثم سقطت فأصلحها وطار، وقد صمم على أن يدخل مصر طائراً ولو سقط بطيارته في جوف المحيط، ولكن برقية كريمة صدرت إليه بوحي من الملك فؤاد، فقهرته الطاعة على أن يدخل مصر وقد امتطى الماء، لا الهواء، وتلك أعظم محنة عاناها ذلك العربي الصوال.
الإنسان الكامل
وما أريد الإنسان الكامل في اصطلاح الصوفية، وإنما أريد القول بأن أحمد حسنين كان رجلاً كامل الرجولة حين اخترق الصحراء في سنة 1923، والرجولة التي أعنيها هي الرجولة المبرأة من شوائب الضعف والغفلة والقنوط. كان أحمد حسنين في ذلك العهد رجلاً بكل معنى الكلمة: كان بدويِّا في مواطن البداوة، وحضريِّا في معاهد الحضارة. كان حليما في أوقات الحلم، وجاهلاً في أوقات الجهل؛ فكان له في كل حالة لَبوس، وكان في جميع أحواله صورة من الرجل الذي يرى الخلُق الصحيح في رياضة النفس على مسايرة ظرف المكان والزمان.
ومن المؤكد أن رحلة الصحراء نفعته في مركزه الحاضر، وهو رياسة الديوان بقصر جلالة الملك، فقد وصفته مجلة (آخر ساعة) وصفاً هو أعجب الأوصاف، حين قالت: إن أحمد حسنين يتمتع بأعظم المواهب السياسية، لأنه أقنع الجميع بأنه رجل غير سياسي.
وأعود إلى تأثير الصحراء في عقل أحمد حسنين فأقول:
عاش هذا الرجل نحو ثمانية أشهر في ظلال المخاوف والحتوف، وكانت الرِّيب تحيط به من كل صوب، وكانت الثعابين تداعبه من حين إلى حين، وكان يُؤْثر سُرَى الليل ليتجه بصره إلى ناحية واحدة، ومن هنا عرف أن الظلمة قد تنفع (والسياسي يعيش في عوالم من الظلمات، ولو سطع النور حول أغراض السياسي لتخاذل وضاع).
الرحالة
لا يدلنا كتاب أحمد حسنين على أنه كان رجلاً من المُترفين حين قام بتلك الرحلة العاتية، وإنما يشهد كتابه بأنه كان رجلاً من صميم البادية. كان رجلاً يهمه أن يقيم البراهين على أنه لم يتعلم في جامعة أكسفورد غير حزم الأمتعة، والتعرف إلى مواطن الخوف والرجاء في مفاوز الصحراء.
هو فلاح متحضر، فهو لذلك أذكى الرجال وأعقل الرجال.
وقد عرف هذا الفلاح المتحضر ما في البادية من مكر ودهاء، فهو يلبس حُلة ذكائه في كل وقت، ويشتمل بثوب مكره في كل حين.
وما ظنكم برجل تحيط به الشكوك من جميع الجوانب وهو فريد وحيد ثم ينتصر بلا مشقة ولا عناء؟
ذلك هو أحمد حسنين الذي ائتمنه الملك فؤاد واصطفاه الملك فاروق، ومن الصعب جدَّا أن يكون الرجل أهلاً لثقة الملوك، فذلك مقام لا يظفر به إلا الأقلون من أعاظم الرجال.
وقد فَطِن أسلافنا إلى أن صحبة الملوك تحتاج إلى تثقيف خاص، فوضعوا المؤلفات الطوال في التعريف بما يجب أن يتحلى به أمناء الملوك من شمائل وآداب. وهذا الفن من التأليف لم يكثر إلا في العصور التي ازدهرت فيها الحضارة العربية الإسلامية، وإنما كان ذلك لأن ازدهار الحضارة يزيد في مشكلات المجتمع من النواحي الذوقية والاجتماعية، وتلك حال تزيد فيها تبعات من يتصلون بالملوك، لأنهم عندئذ يكونون صلة الوصل بين الحاكمين والمحكومين، وعلى ذكائهم وبراعتهم وإخلاصهم يرجع الفض في حل أكثر المعضلات. . . فمن خَطَل الرأي أن يظن بعض المتعاقلين أن إكثار أسلافنا من التأليف في هذه الشؤون دليل على أنهم كانوا يعيشون في عصور الاستبداد.
أغراض المؤلف
للمؤلف في ظاهر الأمر غرض واحد: هو تسجيل رحلته في الصحراء، ولكن من الذي يقف به القلم عند ما كان يريد؟ إن النفس تتفتح عند حمل القلم من وقت إلى وقت، وتتنادى خواطرها من فصل إلى فصل، فإذا بلغ القلم نهاية الشوط كانت النسبة بين ما ابتدأ به وما انتهى إليه كالنسبة بين النواة الضامرة والسَّرحة اللفَّاء.
يقع كتاب أحمد حسنين في عشرين فصلاً، وله في كل فصل مجالٌ خاص، وفقاً لاختلاف الأغراض.
فالفصل الأول عن الصحراء من نواحيها المادية والروحية، وفي هذا الفصل كلام يقوله كل الناس، إلا كلامه عن الشوق إلى ما في الصحراء من متاعب وصعاب، ولا تظهر قيمة هذه النزعة لمن يقرأها في الفصل الأول إلا حين يعاني قدها في الفصل الأخير، ذلك بأنها تواجهه أول مرة وهي أشبه بالفلسفة الروحية، والناس قد يقرءون الفلسفة هادئين، ولكن هذه النزعة لا تواجه القارئ في الفصل الأخير إلا بعد أن يكون شارك المؤلف في الأنس بالصحراء، وعندئذ يحق له أن يتوجع لبلواه حين يقول وقد وصل إلى دار الأمان:
(ودب في نفوسنا جميعاً دبيب الابتهاج بعودتنا إلى الاتصال بحياة الحركة، ولكني شعرت حين انقلبت إلى فراشي بوخزة حزن في قلبي، لأن ذلك اليوم كان آخر أيامي في الصحراء، ورأيتني أضيف إلى صلوات شكري دعاه خالصاً أسأل الله فيه أن يقدر لي العودة إليها يوماً من الأيام).
وفي الفصل الثاني يتكلم المؤلف عن وضع خطة الرحلة فيقول كلاماً يقوله سائر الناس، ولكنه يفاجئك بكلام نفيس عما صنع أبوه رحمه الله، وهو يزوِّده بالبخور والدعوات الصالحات ومن كلامه عرفت أشياء من عادات العرب في التأهب للرحيل.
وقد أطنب المؤلف في الثناء على أبيه، ثم أعرب عن فجيعته لوفاته بعبارات لا تصدرُ إلا عن نجباء الأبناء، وما مات من خلَّف مثل أحمد حسنين.
وفي الفصل الثالث يقف المؤلف موقف المعلم لمن يحاولون اختراق الصحراء، فيقدم من المعارف الضرورية للمغامرين أشياء يحتاجون إليها أشد الاحتياج.
وفي الفصل الرابع تظهر طلائع المخاوف، ونرى كيف يضطر الرحالة إلى تغيير خطة السير لينجو من مكايد الأعراب.
وفي الفصل الخامس يتحدث المؤلف عن السنوسيين بكلام ينهض على قواعد علمية، فيذكر تاريخهم بإيجاز، ويشرح عقائدهم بالتفصيل، ومن الواجب أن يدرس الطلبة هذا الفصل، لأنه من عيون الكتاب، ولأن موضوعه يهم أعضاء لجنة الامتحان.
(وهنا أذكِّر الطلبة بأن الامتحان له قواعد، ومن أهمِّ قواعده أن تَرِد أسئلة في الموضوعات الرئيسية، فمن واجب كل طالب أن يُعنَى عناية شديدة بالموضوعات التي لا يجوز جهلها على الإطلاق، فإن التمكن في تلك الموضوعات يغفر الضعف في الموضوعات الفرعية بعض الغفران. . . وأذكِّرهم أيضاً بأن هناك شؤوناً تظهر كالتوافه، ولكنها رئيسية، كوجه التسمية لواحة أركنو، فهي مسألة هينة، ولكن الجهل بها يدل على عدم الاكتراث. . . ثم أذكرهم بأن الطالب الذي يُختَبر في كتاب أحمد حسنين سيسأل حتما عما قال المؤلف في وصف الواحتين الجديدتين. . . وأذكِّرهم كذلك بأن في المقدمة التي كتبها لطفي باشا السيد كلمة مهمة عن ارتياد تلك الصحراء في عهد الفراعين).
وفي الفصل السادس يتكلم المؤلف عن واحة جغبوب، وهي واحة مصرية نهبها الطليان منذ سنين، فليقرأ الطلبة أخبارها، وليذكروا أن لهم إليها عودة بعد حين.
وفي الفصل السابع يتحدث الرحالة عن الولائم والأدوية، فيذكر أشياء تنفع من يفكر في ارتياد تلك البقاع.
وفي الفصل الثامن يتكلم عن الزوابع في طريق جالو، ويصفها وصف العارف الخبير، والبدو هناك يرون الزوابع من عمل الجن، فليذكر الطلبة أن الزوبعة هي الجِنّية في لغة العرب، ولها اسم بهذا المعنى عند عوام المصريين، فهم يرون الزوبعة من الأنفاس الخلفية للعفريت.
وفي الفصل التاسع يفصل القول عن واحة جالو، ويذكر ما بينها وبين الطليان من نزاع وشقاق.
ثم ماذا؟ ثم ماذا؟
لا أرى من الضروري أن أشير إلى بقية الفصول، لأن هذه الإشارات العوابر لا تغني عن المراجعة والاستقصاء.
وإنما أرى من الحتم أن أوجه الطلبة إلى درس هذا الكتاب، ولا يتم ذلك إلا بدعوتهم إلى تعقب ملاحظات المؤلف، وتعرُّف ما كان يجول بنفسه من خواطر وشجون.
وأقول إن المؤلف مولع بوصف الأجسام فلا يرى شخصاً إلا حدثنا عن قوامه وعينيه، فما سر ذلك؟
يرجع السر إلى أن المؤلف عاش دهره موصول الأواصر بالأندية الرياضية، ومن هنا غُرست في نفسه بذور الثقافة الجسمية، فهو ينظر إلى الأجسام قبل أن ينظر إلى العقول، وهي نظرة تدل على أنه رجل هذا معنى غرام الرجل بالإبل والخيل، فهو جمّال إن أردت، وفارس إن شئت، وهو فوق هذا وذاك يحس مذاق الظل، وقد يتذوق طعم الغُبار في بعض الأحايين.
يمرّ أحمد حسنين بعظام رجل ميت فيستأنس، وكان الظن أن يستوحش، وإنما استأنس برؤية عظام الميت لأنها تشهد بأنه يسير في طريق سلكها الناس من قبل.
ويهتم أحمد حسنين بدرس عادات البدو دراسة مضمّخة بعَبير الشوق والحنين، وهو يرد تلك العادات إلى أصولها من العواطف الذاتية، فالفتاة التي يحرق حِذاءها البارود تُزهَي وتختال، لأن ذلك شاهد على أنها تَغُلّ الباب الرجال.
وفي هذه المرحلة يصرخ أحمد حسنين صرخات تنطق بأنه من أصحاب الأذواق.
وهذا الرجل المفتون بالبادية هو أيضاً مفتونٌ بالحاضرة أعنف الفتون، فلا يطيل المكث إلا في المواطن التي يكثُر فيها اشتباك العواطف والأهواء
وهنا أظفر بأحد مقاتله فأصرح بأنه لم يعش طويلاً في الواحتين الجديدتين - وهما محصوله الأصيل في تاريخ الاستكشاف - وإنما عَبَرهما عُبور الطيف، لأنهما خاليتان من مواسم العيون والقلوب.
وما عددت هذا من مقاتله إلا رياءً، فالجمال الحقيقي هو الجمال الإنساني، لأنه يفهم عنا ما نريد؛ أما جمال الطبيعة فهو جمالٌ غبيٌ بليد، ولا يكتفي بالأنس به إلا الممتحنون بالحرمان، وما كان أحمد حسنين من المحرومين.
أحمد حسنين يتفاءل في فرصتين: الأولى أن يَرمِىَ ظبياً فيصميه، والثانية أن يرى في صبيحة السفر وجهاً جذاب الملامح وضّاح الجبين.
فمن يكون الرجل السليم إن لم يكن هذا الرجل نموذجاً للرجل السليم؟
ثم يجب النص على اهتمام أحمد حسنين بأداء الصلوات، والتبرك بالأذان، فتلك شواهد على ما صرح به غير مرة من أن الصحراء تزيد من قوة الإيمان، وهو التصريح الذي أتاح لمعالي الشيخ مصطفى عبد الرزاق بك أن يقترح إرسال علماء الأزهر إلى الصحراء!! والنكتة الدقيقة من أبرز عناصر الفن الرَّفِيع
الأسلوب
أحمد حسنين ليس من أصحاب الأساليب، فليس له في الإنشاء مذهبٌ خاص، وهو فيما نعلم لم يفكر في أن يكون له مكان بين الكتّاب، وإن كان من أكابر الأدباء
وقد أنشأ كتابه أول مرة بالإنجليزية، ثم ترجمه إلى العربية وهذا يفسِّر ما نشهد من تفاوت الأسلوب من حين إلى حين.
ولكن الكتاب مع هذا على أعظم جانب من الحيوية، فما سرّ ذلك؟
يرجع السر إلى قوة إحساس المؤلف، فكل سطر من كتابه ينطق بأنه يَعنِي ما يقول، وسياق الحديث يدل في كل صفحة على أن الرجل جابَ الصحراء وهو مرهف الحِسّ ذكيّ الجَنان، وملاحظاته فِطريَّة بعيدة من التكلف، فهو يُشعِرك بأنه بدويٌ لا يرى غير ما في البادية من مخاوف وآمال، وهو ينقلك إلى تلك المجاهيل بقوة سِحرية فتسايره بتلهف وتشوق، كأنك عانيت من صابها ما عانَى وذقت من رحيقها ما ذاق.
وإحساس أحمد حسنين يصل به إلى تذوق جميع الألوان، هو إحساس رجل سليم يرى ويسمع ويذوق بقوة وعنف، وكأنه طفلٌ يطَّلع أول مرة على غرائب الوجود
تقدَّم إليه المائدة وهو في البادية فيُقبل عليها إقبال البدوي الغرثان، وينص على أنه أكل بشهية، ثم يصف ألوان الطعام بإسهاب، وذلك لا يقع إلا من رجل مدَّرع بالعافية
ويدرس الوجوه باهتمام شديد، حتى جاز أن يحكم لفتاة بالجمال، ولم ترها عيناه، لأنه لاحظَ أن أخاها جميل
ويدرس عواطف أصحابه بمهارة وحذق فيعرف ما يطوون في صدورهم من لواعج وأشجان، ثم يمضي فيتعقب ما بينهم وبين نسائهم من كدر أو صفاء، وهذا التطلع لا يقع إلا من رجل متشوف إلى درس الغرائز والطباع وهل ننسى حديث (السبحة) في ساعة أُنْس؟
كان في القافلة فتىً رخيم الصوت، وكان أحمد حسنين يتشهى السماع، ولكن الفتى له عمّ كهل، ومن العيب في البادية أن يتغنى الشباب بحضرة الكهول
وتلطف أحمد حسنين فأستأذن للفتى من عمه الكهل، فانطلق الشاب يغنِّي، واندفع الشيخ يسبِّح، ليشغل نفسه بالتسبيح عن الغناء
فماذا صنع أحمد حسنين؟
أخذ يرصد السبحة ليرى كيف يتواتر خفق الحبات، فعرف أن حباتها تصاب بالبطيء من لحظة إلى لحظة ثم تعود إلى الإسراع، وكان ذلك شاهداً على أن الكهل الوقور كانت له صَبَوات، وأن رنين السبحة لم يُلهه عن تشوف المحبين إلى أوقات الوصال
وأحمد حسنين لا ينسى تسجيل ما مرّ به من عواطف، كأن ينص على أنه استيقظ في أعقاب حُلمٍ رائع على وجه فتاة حسناء، وكأن ينص على أنه كان يتلبّث في بعض المواطن ليزوّد قلبه وعينيه بأطايب الجمال
وجملة القول أن أحمد حسنين شاعرٌ وصَّاف: هو يحدِّق في كل شيء، وهو يصف كل ما يراه وصفاً يشهد بأنه مفطور على قوة الإحساس.
وقد أطال أحمد حسنين في وصف القمر والنجوم، كما أطال في وصف الشروق والغروب، فكيف صنع في هذه الأوصاف؟
نقل إلينا أحاسيس أهل البادية بقوة وحيوية، لأن الكواكب في البوادي لها سِحرٌ يجهله من يأنسون بأضواء المصابيح
ثم ماذا؟ ثم أقول إن أحمد حسنين صوَّر نفسه في كتابه بصورة الرجل الممتحَن بهوى الصحراء، ولو قال له الغادون: ما تشتهي؟ لقال: أعود!! كما عبر الشريف الرضي عند فراق بغداد
وهنالك صورة أبدع وأروع، هي صورة العالم الحصيف الذي أباحه العلم ما لا يباح من هتك أسرار الصحراء
هنالك أحمد حسنين الذي يتمارض ليخلو إلى أجهزته العلمية في غفوة الليل
هنالك الباحث المستقصي الذي يدوِّن كل ما يرى وما يسمع وما يذوق بلا تأجيل ولا تسويف. . .
هنالك الرجل الذي يرصد الشمس من وقت إلى وقت ليمُدّ العِلم بزادٍ جديد
هنالك الوطني الغيور الذي ينص على قيمة بعض الواحات من الوجهة الحربية
هنالك المفكر الذي يشرح ما في الصحراء الغربية من مذاهب وآراء
أما بعد فتلك هي الملامح الفكرية والعقلية والذوقية للرحالة أحمد حسنين، وهي (الدليل) الذي (يوجّه) الطلبة إلى سرائر كتابه النفيس
وكل ما أرجو أن تكون الفتوّة التي اتصف بها المؤلف من أعظم مطامح الشبان في هذا العهد، فقد رأوا بأعينهم كيف تكون الخشونة أقوى الدعائم في بناء الرجال.
زكي مبارك